فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب قول الله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة: 125]

باب
قول الله - عز وجل -: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125]
حديث عمر في سلب هذه الآية، قد خرجه البخاري فيما بعد، وسيأتي في موضعه قريبا - أن شاء الله تعالى.

وخرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
[ قــ :390 ... غــ :395 ]
- حدثنا الحميدي: ثنا سفيان: ثنا عمرو بن دينار، قال: سألنا ابن عمر عن رجل طاف بالبيت العمرة، ولم يطف بين الصفا والمروة، أيأتي امرأته؟ فقال: قدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة، وقد كان لكم في رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسوة حسنة.



[ قــ :390 ... غــ :396 ]
- وسألنا جابر بن عبد الله، فقال: لا يقربنها حتى يطوف بين الصفا
والمروة.
مقصوده من هذا الحديث هاهنا: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما اعتمر طاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين، وكذلك فعل في حجته - أيضا.

وقد روى جابر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الآية عند صلاته خلف المقام: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 15] .

خرجه مسلم.

وهذا كله يدل على أن المراد بمقام إبراهيم في الآية: مقامه المسمى بذلك عند البيت، وهو الحجر الذي كان فيه اثر قدمه عليه السلام، وهذا قول كثير من المفسرين.

وقال كثير منهم: المراد بمقام إبراهيم: الحج كله.

وبعضهم قال: الحرم كله.

وبعضهم قال: الوقوف بعرفة، ورمى الجمار والطواف، وفسروا المصلى: بالدعاء، وهو موضع الدعاء.

وروي هذا المعنى عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما.

وقد يجمع بين القولين، بأن يقال: الصلاة خلف المقام المعروف داخل فيما أمر به من الإقتداء بإبراهيم - عليه السلام - مما في أفعاله في مناسك الحج كلها واتخاذها مواضع للدعاء وذكر الله.

كما قالت عائشة - وروي مرفوعا -: ( ( إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله) ) .
خرجه أبو داود والترمذي.

فدلالة الآية على الصلاة خلف مقام إبراهيم عليه السلام لا تنافي دلالتها على الوقوف في جميع مواقفه في الحج لذكر الله ودعائه والابتهال إليه.
والله أعلم.

وبكل حال؛ فالأمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى لا يدخل فيه الصلاة إلى البيت إلا أن تكون الآية نزلت بعد الأمر باستقباله، وحديث عمر قد يشعر بذلك.

فيكون حينئذ مما أمر به من اتخاذ مقام إبراهيم مصلى: استقبال البيت الذي بناه في الصلاة إليه، كما كان إبراهيم يستقبله، وخصوصا إذا كانت الصلاة عنده.

وعلى هذا التقدير يظهر وجه تبويب البخاري على هذه الآية في ( ( أبواب استقبال القبلة) ) ، وإلا ففيه قلق.
والله أعلم.




[ قــ :391 ... غــ :397 ]
- حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن سيف، قال: سمعت مجاهدا قال: أتي ابن عمر فقيل له: هذا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل الكعبة.
فقال ابن عمر: فأقبلت والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد خرج وأجد بلالاً قائما بين البابين، فسأله بلالاً، فقلت: أصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكعبة؟ قال: نعم، ركعتين بين الساريتين اللتين على يساره إذا دخلت، ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين.

( ( سيف) ) : هو ابن أبي سليمان - ويقال: ابن سليمان - المكي مولى بني
مخزوم.

وقوله: ( ( قائما بين البابين) ) ، هكذا في أكثر النسخ، وفي بعضها ( ( بين
الناس)
)
، ولعله أصح.

وأن قيل: أن المراد قيامه في الموضع الذي هو بين البابين بعد فتحهما ـ الذي فعله ابن الزبير ـ اقتضى ذلك أن يكون واقفا في جوف الكعبة.

وقد خرج النسائي هذا الحديث، وفيه: ( ( أنه وجد بلالا واقفا على الباب) ) .

وهذا يدل على أنه لم يكن في الكعبة.

وخرجه البخاري في ( ( المغازي) ) ، وعنده: ( ( فوجد بلالا وراء الباب) ) .

وهذا يدل على أنه لم يكن في وسط البيت.

وقوله: ( ( صلى ركعتين) ) ، يخالف ما رواه نافع، عن ابن عمر، أنه قال نسيت أن أسأل بلالا كم صلى؟ وقد خرجه البخاري في موضع آخر.
والمقصود من هذا الحديث في هذا الباب: صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما خرج من الكعبة ركعتين في وجه الكعبة، والمراد بوجه الكعبة: عند باب البيت.

ويأتي مزيد بيان لذلك فيما بعد - أن شاء الله تعالى.




[ قــ :39 ... غــ :398 ]
- ثنا إسحاق بن نصر: ثنا عبد الرزاق: ابنا ابن جريج، عن عطاء، قال: سمعت ابن عباس قال: لما دخل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البيت دعا في نواحيه كلها، ولم يصل حتى خرج منه، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة، وقال ( ( هذه القبلة) ) .

هكذا خرجه البخاري عن إسحاق بن نصر، عن عبد الرزاق.

وقد رواه أصحاب عبد الرزاق كلهم، منهم: الإمام أحمد، وإسحاق بن
راهويه، فجعلوه: عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد.

وكذا رواه أصحاب ابن جريج وعنه، منهم: محمد بن بكر البرساني، وأبو عاصم، ويحيى بن سعيد وغيرهم.

فسقط من إسناد البخاري ذكر: ( ( أسامة بن زيد) ) ، وقد نبه على ذلك الإسماعيلي والبيهقي.

لكن رواه همام، عن عطاء، عن ابن عباس، لم يذكر فيه: ( ( أسامة) ) .

وهذا مما كان ابن عباس يرسله احيانا، ويسنده احيانا.
وكذلك خرجه البخاري في ( ( الحج) ) من حديث عكرمة، عن ابن عباس، إلا أن رواية عبد الرزاق، عن ابن جريج فيها ذكر ( ( أسامة) ) ؛ فإسقاطه منها وهم.

وقد تعارض ما نقله ابن عمر، عن بلال، وما نقله ابن عباس، عن أسامة في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكعبة.

وقد روي عن ابن عمر، عن أسامة وبلال وعثمان بن طلحة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في الكعبة - أيضا -، بخلاف رواية ابن عباس، عن أسامة، وهو في رواية لمسلم في ( ( صحيحه) ) على اختلاف وقع في لفظه خارج ( ( الصحيح) ) ؛ فإن من رواة الحديث من أسند الصلاة فيها إلى بلال دون صاحبيه اللذين كانا معه في الكعبة.

وقد روي ذلك عن أسامة من وجهين آخرين.

خرجهما الإمام أحمد في ( ( المسند) ) .

وقد اختلف الناس في الجمع بين إثبات صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكعبة ونفيها:
فمنهم: من حمل الصلاة على الصلاة اللغوية، وهي الدعاء، وجمعوا بذلك بين حديثي أسامة وبلال، لا سيما وقد روي عن أسامة إثبات الصلاة ونفيها.
والأكثرون حملوا الصلاة على الصلاة الشرعية، وهو الأظهر.

ثم اختلفوا:
فمنهم: من رجح حديث الإثبات على حديث النفي، وقال: مع تعارض النفي والإثبات يقدم الإثبات؛ لأن المثبت معه زيادة علم خفيت على النافي، وهذه طريقة الشافعي وأحمد وغيرهما من العلماء.

وذكر الأزرقي في ( ( كتابه) ) ، عن عبد العزيز بن أبي رواد، قال بلغني أن الفضل بن عباس دخل مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم أرسله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حاجة، فجاء وقد صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يره فلذلك كان ينكر أنه صلى.

وحديث الفضل في إنكاره الصلاة، قد خرجه الإمام أحمد من رواية أخيه
عبد الله، عنه.

ومنهم: من قال: المثبت للصلاة أراد به صلاته في عام الفتح، والنافي لها أراد صلاته في حجة الوداع، وهذا قول ابن حبان.

وهو ضعيف جدا؛ لوجهين:
أحدهما: أن ابن عباس لم ينفي صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكعبة في وقت دون وقت، بل كان ينكر ذلك جملة، وكان يكره الصلاة في الكعبة، ويقول: لا يستدبر من البيت شيء.

والثاني: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يدخل الكعبة في حجة الوداع بالكلية حتى يقال أنه دخل ولم يصل، وابن عباس قال: أنه دخل ودعا ولم يصل.
وقد اختلف العلماء في حكم الصلاة في الكعبة:
فكان ابن عباس يكره الصلاة فيها بكل حال: الفرض والنفل وهو قول طاوس، وأصبغ من المالكية، وابن جرير الطبري.

وقالت طائفة: تجوز فيها صلاة الفرض والنفل، وهو قول الثوري، وأبي حنيفة، والشافعي.

وقالت طائفة: يصلي فيها النفل دون الفرض، وهو قول عطاء، ومالك، وأحمد في ظاهر مذهبه.

لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فيها نفلا والنوافل يخفف فيها في استقبال القبلة دون
الفرائض، بدليل صحة النفل على الراحلة في السفر إلى غير القبلة، واما الفرض فلا يجوز إلى القبلة مع القدرة، فيشترط له استقبال جميع البيت، وأن لا يكون مستدبرا لشيء
منه.

وقال أحمد: إذا صلى فيها لا يصلي إلى أي جهة شاء، بل يستقبل الجهة التي استقبلها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي تجاه الباب إذا دخل، ويجعل الباب وراء ظهره.

ولم يرخص في الصلاة فيها إلا على هذا الوجه، وحمل أصحابنا ذلك على الاستحباب، وفيه نظر.

وقوله: ( ( ركع ركعتين في قبل القبلة) ) ، قبل - بضم الباء، ويجوز
إسكانها -، والمراد به: وجه الكعبة، كما في حديث ابن عمر المتقدم.
وقد تقدم أن المراد به: عند باب البيت.

وقد روي أنه المقام الذي أم فيه جبريل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند فرض الصلاة.

خرجه الأزرقي من حديث مسلم بن خالد، عن عبد الرحمان بن الحارث، عن حكيم بن حكيم، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( أمني جبريل عند باب الكعبة مرتين) ) .

وكذا خرجه ابن وهب في ( ( مسنده) ) عن يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر، عن عبد الرحمان بن الحارث، به.

وقد خرجه أبو داود والترمذي، وعندهما: ( ( أمني جبريل عند البيت مرتين) ) .

وروى ابن جرير من طريق عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: البيت كله قبلة، وقبلة البيت الباب.

وروى الأزرقي بإسناده عن ابن أبي نجيح، قال: قال عبد الله بن عمرو بن العاص: البيت كله قبلة، وقبلته وجهه، فإن أخطأك وجهه فقبلة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقبلته ما بين الميزاب إلى الركن الشامي الذي يلي المقام.

وكأنه يريد أن هذه الجهة هي التي كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إليها وهو بالمدينة، فإنها قبلة أهل المدينة.

وروى - أيضا - بإسناده عن ابن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن ابن السائب، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى يوم الفتح في وجهة الكعبة، حذو الطرقة البيضاء، ثم رفع يديه، فقال: ( ( هذه القبلة) ) .

وخرج الإمام أحمد من طريق ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، أن ابن عباس كان يخبر، أن الفضل بن عباس أخبره، أنه دخل مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البيت، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل في البيت حين دخل، ولكنه لما خرج فنزل ركع ركعتين عند باب البيت.

وخرج النسائي من حديث عطاء، عن أسامة، أنه دخل هو والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البيت، ثم خرج فصلى ركعتين مستقبل وجهة الكعبة، فقال: ( ( هذه القبلة، هذه القبلة) ) .

وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( هذه القبلة) ) ، قال ابن جرير: مراده: أن الكعبة هي القبلة، وأن قبلة الكعبة الباب.

وقد صرح جماعة من العلماء، منهم: سفيان الثوري بأن الصلاة إلى جهة الباب عند البيت أفضل من الصلاة إلى جهة أخرى، وأن وقوف الإمام عند الباب أفضل.

وقال الخطابي: يحتمل أنه أراد أنه قد استقر أمر هذه القبلة فلا ينسخ كما نسخ بيت المقدس، ويحتمل أن يكون علمهم السنة في مقام الإمام واستقبال البيت من جهة الكعبة، وأن كانت الصلاة من جهاتها جائزة، ويحتمل أن يكون دل به على أن حكم من شاهد البيت وعاينه في استقباله حسا خلاف حكم من غاب عنه، فيصلي إليه توخيا واستدلالا.

وزعم غيره: أن مراده: أن القبلة هي الكعبة نفسها، لا المسجد ولا الحرم، وهذا قاله بعض من يرى أن الواجب على البعيد الاستدلال على العين.

وقول الخطابي أصح من هذا.
والله أعلم.

وقد اختلف الناس في مقام إبراهيم الذي صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وراءه ركعتين في حجه وعمرته: هل كان عند باب البيت؟ أم كان في مكانه الآن؟ على قولين:
أحدهما: أنه كان في مكانه الآن، وهذا قول ابن أبي مليكة وعمرو بن دينار وسفيان بن عيينة، ولم يذكر الأزرقي غير هذا القول.

وروى شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، قال: كان المقام إلى لزق البيت، فقال عمر لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو نحيته من البيت ليصلي الناس إليه، ففعل ذلك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فانزل الله - عز وجل -: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى} [البقرة:15] .
وذكر موسى بن عقبة: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخره في يوم الفتح إلى مكانه الآن، وكان ملصقا بالبيت.

فعلى هذا: يكون النبي قد صلى وراءه في موضعه الآن في حجته، وأما في عمرة القضية فصلى وراءه عند البيت.

والقول الثاني: أنه كان في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ملصقا بالبيت، وإنما أخره عمر إلى مكانه الآن، هذا قول عروة بن الزبير، رواه هشام بن عروة، عن أبيه.

وروي عنه، عن أبيه، عن عائشة.

وروى الإمام أحمد عن عبد الرزاق، عن ابن جريج،: سمعت عطاء وغيره من أصحابنا يزعمون أن عمر أول من وضع المقام في موضعه الآن، وإنما كان في قبل
الكعبة.

وعن عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، قال: كان المقام إلى جنب البيت، كانوا يخافون عليه، من السيول، وكان الناس يصلون خلفه، فقال عمر للمطلب: هل تدري أين كان موضعه الأول؟ قال: نعم، فوضعه موضعه الآن.

وروي - أيضا - نحوه عن ابن عيينة، خلاف قوله الأول.

وقال مالك: كان المقام في عهد إبراهيم - عليه السلام - في مكانه الآن، وكان أهل الجاهلية ألصقوه إلى البيت خيفة السيل، فكان كذلك في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر، فلما ولي عمر وحج رده إلى موضعه الذي هو فيه اليوم، بعد أن قاس موضعه بخيوط قديمة كانت في خزائن الكعبة، قيس بها حين أخر -: ذكر ذلك صاحب ( ( تهذيب المدونة) ) .

وذكر ابن سعد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى يوم الفتح ركعتي الطواف خلف المقام، وهو لاصق بالبيت.

فعلى هذا؛ يحتمل أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صلى في قبل الكعبة وقال: ( ( هذه القبلة) ) أشار إلى المقام الذي أمر الله باتخاذه مصلى.

وقد ورد هذا في رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل يوم الفتح الكعبة وأخرج مقام إبراهيم، وكان في الكعبة فألزقه إلى حائط الكعبة، ثم قال: ( ( أيها الناس، هذه القبلة) ) .

خرجه ابن مردويه.

والكلبي، متروك لا يحتج به.

وقد ذهب قوم إلى أنه يستحب صلاة ركعتي الطواف في قبل البيت حيث كان المقام عندهم.

فروى عبد الرزاق، عن جعفر، عن عطاء بن السائب، أنه رأى سالم بن
عبد الله طاف مع هشام بن عبد الملك، فلما فرغا من طوافهما ذهب هشام ليركع عند
المقام، فأخذ سالم بيده، وقال: هاهنا، فانطلق به إلى قبل البيت، فترك من كسوته ثلاث شقاق مما يلي الحجر، ثم استقبل الرابعة، ثم صلى إليها، ثم قال: أن المقام كان هاهنا ليس بينه وبين البيت إلا مقدار أربع أذرع، فلما كثر الناس وتضيقوا حمله عمر فجعله هاهنا في هذا المكان الذي هو فيه.

وقد روي: أن الناس كانوا يصلون إلى جانب البيت، وأن أول من صلى خلف المقام عمر في خلافته.

روى الإمام أحمد في ( ( كتاب المناسك) ) عن عبد الرزاق، عن معمر، عن
هشام، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر - بعض خلافته - كانوا يصلون إلى صقع البيت، حتى صلى عمر خلف المقام.

وعن أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا طاف بالبيت صلى الركعتين إلى صقع البيت.

قال أبو معاوية: يعني: حائط البيت.
قال: وفعل ذلك أبو بكر، ثم فعل ذلك عمر شطرا من خلافته، ثم قال: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:15] ، فصلى إلى المقام، فصلى الناس بعده.

وهذا يوهم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل إلى المقام، وهذا باطل يرده حديث ابن عمر وجابر كما تقدم، وهذا يناقض ما قاله عروة: أن المقام كان في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر ملصقا بالبيت، فكيف يكون كذلك ثم يزعم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر صليا عند البيت، ولم يصليا خلف المقام إلى أن صلى خلفه عمر؟ فقد اضطرب قول عروة في هذا واختلف.

وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب إذا خطب بالمسجد الحرام عند باب الكعبة.
وروي أنه خطب يوم الفتح على درج باب الكعبة.

وفي ( ( المسند) ) ، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب وظهره إلى الملتزم.

ولم يكن بمكة منبر في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وقد ذكر الأزرقي في ( ( كتابه) ) عن جده، عن عبد الرحمان بن حسن، عن
أبيه، قال: أول من خطب بمكة على منبر معاوية بن أبي سفيان، قدم به من الشام سنة حج في خلافته، منبر صغير على ثلاث درجات، وكانت الخلفاء والولاة قبل ذلك يخطبون يوم الجمعة على أرجلهم قياما في وجه الكعبة وفي الحجر.