فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب ما جاء في القبلة، ومن لم ير الإعادة على من سها، فصلى إلى غير القبلة «

باب ما جاء في القبلة، ومن لم ير الإعادة على من سها
فصلى إلى غير القبلة
وقد سلم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ركعتي الظهر، فأقبل على الناس بوجهه، ثم أتم ما بقي.

خرج فيه ثلاث أحاديث:
الحديث الأول:
قال:
[ قــ :396 ... غــ :402 ]
- حدثنا عمرو بن عون: ثنا هشيم، عن حميد، عن انس، قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] ، وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله، لو أمرت نسائك أن يحتجبن؛ فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الغيرة عليه، فقلت لهن: { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنّ} [التحريم:5] ، فنزلت هذه الآية.

وقال ابن أبي مريم: أبنا يحيى بن أيوب: حدثني حميد، قال: سمعت أنسا -
بهذا.
هذا الحديث مشهور عن حميد، عن انس، وقد خرجه البخاري - أيضا - في ( ( التفسير) ) من حديث يحيى بن سعيد، عن حميد.

ورواه - أيضا - يزيد بن زريع وابن علية وابن أبي عدي وحماد بن سلمة
وغيرهم، عن حميد، عن انس.

وإنما ذكر البخاري رواية يحيى بن أيوب: حدثني حميد، قال: سمعت أنسا؛ ليبين به أن حميدا سمعه من انس؛ فإن حميدا يروي عن انس كثيرا.

وروي عن حماد بن سلمة، أنه قالَ: أكثر حديث حميد لم يسمعه من انس، إنما سمعه من ثابت، عنه.

وروي عن شعبة، أنه لم يسمع من انس إلا خمسة أحاديث.

وروي عنه، أنه لم يسمع منه إلا بضعة وعشرين حديثا.

وقد سبق القول في تسامح يحيى بن أيوب والمصريين والشاميين في لفظة: ( ( ثنا) ) -: كما قاله الإسماعيلي.

وقال علي بن المديني في هذا الحديث: هو من صحيح الحديث.

ولم يخرج مسلم هذا الحديث، إنما خرج من رواية سعيد بن عامر، عن
جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال: وافقت ربي في ثلاث: في
الحجاب، وفي أسارى بدر، وفي مقام إبراهيم.

وقد أعله الحافظ أبو الفضل ابن عمار الشهيد - رحمه الله - بأنه روى عن سعيد بن عامر، عن جويرية، عن رجل، عن نافع، أن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث.
فدخل في إسناده رجل مجهول، وصار منقطعا.

وروى ابن أبي حاتم من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن ابن جريج، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: سمعت جابرا يحدث عن حجة الوداع، قال: لما طاف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له عمر: هذا مقام إبراهيم؟ قال: ( ( نعم) ) ، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] .

وهذا غريب، وهو يدل على أن هذا القول كان في حجة الوداع، وأن الآية نزلت بعد ذلك، وهو بعيد جدا، وعبد الوهاب ليس بذاك المتقن.

وقد خالفه الحفاظ، فرووا في حديث حجة الوداع الطويل، عن جعفر بن
محمد، عن أبيه، عن جابر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى إلى المقام، وقرا: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] ثُمَّ صلى ركعتين، والمقام بينه وبين البيت.

وروى الوليد بن مسلم عن مالك، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر، قال: لما وقف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم، قال له عمر: يا رسول الله، هذا مقام إبراهيم الذي قال الله: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] ؟ قال: ( ( نعم) ) .

قال الوليد: قلت لمالك: هكذا حدثك؟ قال: نعم.

وقد خرجه النسائي بمعناه.

والوليد، كثير الخطأ -: قاله أبو حاتم وأبو داود وغيرهما.

وذكر فتح مكة فيه غريب أو وهم؛ فإن هذه قطعة من حديث جابر في حجة الوداع.

وقد روي حديث انس، عن عمر من وجه آخر:
خرجه أبو داود الطيالسي: ثنا حماد بن سلمة: ثنا علي بن زيد، عن انس، قال: عمر: وافقت ربي في أربع - فذكر الخصال الثلاث المذكورة في حديث حميد، إلا أنه قال في الحجاب: فأنزل الله: { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] ، قال: ونزلت هذه الآية: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ
طِينٍ}
[المؤمنون:12] ، فلما نزلت قلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين، فنزل:
{ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] .

وقول عمر: ( ( وافقت ربي في ثلاث) ) ، ليس بصيغة حصر، فقد وافق في أكثر من هذه الخصال الثلاث والأربع.

ومما وافق فيه القرآن قبل نزوله: النهي عن الصلاة على المنافقين.

وقوله لليهود: من كان عدوا لجبريل، فنزلت الآية.

وقوله للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما اعتزل نساءه ووجد عليهن: يا رسول الله، أن كنت
طلقتهن، فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك.
قال عمر: وقل ما تكلمت - وأحمد الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول، فنزلت آية التخيير: { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنّ} [التحريم:5] الآية.

وقد خرج هذا الأخير مسلم من حديث ابن عباس، عن عمر.

وأما موافقته في النهي عن الصلاة على المنافقين؛ فمخرج في ( ( الصحيحين) ) من حديث ابن عباس، عن عمر - أيضا.

وأما موافقته في قوله: { مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} [البقرة:97] ، فرواه: أبو جعفر الرازي، عن حصين بن عبد الرحمان، عن ابن أبي ليلى، عن عمر ورواه: داود، عن الشعبي، عن عمر، وهما منقطعان.

وقد روي موافقته في خصال آخر، وقد عد الحافظ أبو موسى المديني من ذلك اثنتي عشرة خصلة.

وتخريج البخاري لهذا الحديث في هذا الباب: يدل على أنه فسر قوله تعالى:
{ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] بالأمر بالصلاة إلى البيت الذي بناه إبراهيم، وهو الكعبة، والأكثرون على خلاف ذلك، كما سبق ذكره.


قال:


[ قــ :397 ... غــ :403 ]
- حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن
عبد الله بن عمر، قال: بينا للناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة.

وقد تقدم في حديث البراء أن هذه القصة كانت في صلاة العصر، وفي حديث ابن عمر أنها كانت في صلاة الصبح.

وقد قيل: أن أهل قباء لم يبلغهم ذلك إلى الصبح، ومن دونهم إلى المدينة بلغهم في العصر يوم النسخ.

وفي هذا بعد، وقد سبق ذكره في الكلام على حديث البراء في ( ( كتاب: الإيمان) ) .
ومقصود البخاري بهذا الحديث في هذا الباب: أن من صلى إلى غير القبلة لعذر، مثل أن يظن أن القبلة في جهة فيصلي إليها، ثم تبين له أن جهة القبلة غيرها، إما في الصلاة أو بعد تمامها، فإنه لا إعادة عليه، وأن كان قد صلى إلى غير القبلة سهوا، فإنه استند إلى ما يجوز له الإسناد إليه عند اشتباه القبلة، وهو اجتهاده، وعمل بما أداه اجتهاده إليه، فلا يكون عليه إعادة.

كما أن أهل قباء صلوا بعض صلاتهم إلى بيت المقدس، مستصحبين ما أمروا به من استقبال بيت المقدس، ثم تبين لهم أن الفرض تحول إلى الكعبة، فبنوا على صلاتهم وأتموها إلى الكعبة.

وهذا هو قول جمهور العلماء، منهم: ابن المسيب، وعطاء، والحسن،
والشعبي، والثوري، وابن المبارك، وأبو حنيفة، والشافعي - في القديم -، وأحمد في ظاهر مذهبه، حتى قال أبو بكر عبد العزيز: لا يختلف قوله في ذلك، وهو قول إسحاق والمزني.

وقال مالك والأوزاعي: يعيد في الوقت، ولا يعيد بعده.

قال ابن عبد البر: وهذا على الاستحباب دون الوجوب.

وقال الشافعي - في الجديد -: يجب عليه أن يعيد.

وعليه عامة أصحابه، وهو قول المغيرة المخزومي من المالكية، وحكاه بعض أصحابنا رواية عن أحمد.

وفرقوا بين هذا وبين أهل قباء، بأن أهل قباء لم يعتمدوا في صلاتهم على اجتهاد يحتمل الخطأ، بل على نص تمسكوا به، والناسخ له لم يبلغهم إلا في أثناء الصلاة.

فإن قيل: أن النسخ لا يثبت في حقهم إلا بعد بلوغهم، فلم يثبت في حقهم إلا في أثناء صلاتهم، فلذلك بنوا على ما مضى منها.

وأن قيل: يثبت في حقهم قبل ذلك، فقد تمسكوا بنص لا يجوز لهم تركه ولا الاجتهاد في خلافه، ولا يلزمهم البحث عن استمراره، فلا ينسبون إلى تفريط، بخلاف المجتهد المخطئ.

ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن أهل قباء قد صح أنهم بلغهم ذلك في صلاة الصبح، وقد ثبت بحديث البراء أن القبلة حولت في العصر، وبينهما زمان طويل، في مثله تنتشر الحوادث المهمة الواقعة، ولا سيما مثل هذه الحادثة المتعلقة بالصلاة، فإذا لم ينسبوا ذلك إلى نوع التفريط، فالمجتهد في طلب القبلة بما يسوغ له الاعتماد عليه أولى أن لا ينسب إلى تفريط وتقصير، إذا استفرغ جهده في الاستدلال والطلب، فإن ذلك يقع في الأسفار كثيرا، فالأمر بالإعادة يشق بخلاف الأمر بإعادة صلاة واحدة.

هذا حكم من خفيت عليه القبلة واجتهد في طلبها وأخطأ.

فإن تعذر الاجتهاد لظلمة ونحوها أو فقدت الأمارات أو تعارضت، وصلى بحسب حاله، ففي الإعادة وجهان لأصحابنا، أصحهما: لا يعيد، وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وغيرهما، لأنه شرط عجز عنه فسقط كالطهارة والسترة، وكذا الجاهل بأدلة القبلة، إذا لم يجد من يسأله.

ومن أصحابنا من قال: لا إعادة عليه، وجها واحدا.

وهذا كله في السفر.
فأما في الحضر فلو أخطأ فيه القبلة أعاد عند الثوري، واحمد في ظاهر مذهبه.




[ قــ :398 ... غــ :404 ]
- حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر خمسا، فقالوا: أزيد في الصلاة؟ قال: ( ( وما ذاك؟) ) قالوا: صليت خمسا، فثنى رجليه، فسجد سجدتين.

قد بين البخاري في أول الباب وجه الاستدلال بحديث سجود السهو على أن السهو عن استقبال القبلة لا يبطل الصلاة، وهو أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم من ركعتين في الظهر وأقبل على الناس بوجهه ثم أتم ما بقي، وهذا إشارة منه إلى حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين.

وقد خرجه البخاري في ( ( أبواب سجود السهو) ) ، لكن ليس عنده أنه أقبل على الناس بوجهه، وإنما فيه: أنه قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها.

وفي ( ( صحيح مسلم) ) أنه أتى جذعا في قبلة المستجد فاستند إليها.

وهذا يدل على أنه ولى ظهره إلى القبلة واستقبل الناس بوجهه، إلا أن يكون استند إليها وظهره إلى الناس ووجهه إلى القبلة.

وإنما يعرف لفظ: ( ( ثم أقبل على الناس بوجهه) ) في حديث ابن مسعود الذي خرجه البخاري هاهنا.

وقد خرجه النسائي من طريق شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، ولفظه: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الظهر، ثم أقبل عليهم بوجهه، فقالوا: أحدث في الصلاة حدث؟ قال: ( ( وما ذاك؟) ) فأخبروه بصنيعه، فثنى رجليه، واستقبل القبلة، فسجد سجدتين، ثم سلم.

ولكن هنا لم يكن قد بقي عليه غير سجدتي السهو، على تقدير أن يكون زاد في الصلاة؛ فإن إبراهيم شك: هل كان زاد فيها أو نقص، كذا في ( ( صحيح مسلم) ) التصريح بأن هذا الشك من إبراهيم.

وفي صحيح مسلم - أيضا -، عن عمران بن حصين، قال: سلم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام فدخل الحجرة، فقام رجل بسيط اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله؟ فخرج مغضبا، فصلى الركعة التي كان ترك، ثم سلم، ثم سجد سجدتي السهو، ثم سلم.

ودخوله الحجرة يلزم منه الانحراف عن القبلة بالكلية؛ لأن الحجرة كانت عن يساره.

ومقصود البخاري: أن استدبار القبلة والانحراف عنها في الصَّلاة سهوا عن غير تعمد لا تبطل به الصَّلاة، كما دل عليه حديث سجود السهو، وقد نص عليه أحمد وغيره، فيستدل بذلك على أن من صلى إلى غير القبلة عن غير تعمد أنه لا تبطل صلاته بذلك، ولا إعادة عليه، والله أعلم.

ورواية النسائي لحديث ابن مسعود يستدل بها على أن من نسي سجود السهو حتى سلم ثم ذكر فإنه يسجد، وأن كان قد صرف وجهه عن قبلته، وهو قول
الجمهور، خلافا للحسن وابن سيرين في قولهما: لا يسجد حينئذ.

وقصة ذي اليدين يستدل بها على أن كلام الناسي لا يبطل؛ كما هو قول الشافعي، وأحمد في إحدى الروايات عنه.

وعلى أن العمل الكثير في الصلاة نسيانا يعفى عنه، وهو رواية عن أحمد، وقول للشافعي.

واستدل به بعضهم: على أن من سلم من نقصان فإنه يبني على ما مضى من صلاته، وأن طال الفصل، وهو قول الأوزاعي وغيره.

وسيأتي ذكر ذلك مفصلا في موضعه - أن شاء الله تعالى.