فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: لا تتحرى الصلاة قبل غروب الشمس

باب
لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس
فيه أربعة أحاديث:
الأول
[ قــ :569 ... غــ :585 ]
- حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها) .

هكذا في رواية البخاري: ( لا يتحرى) ، على أنه خبر أريد به النهي.
وفي رواية لمسلم: ( لا يتحر) ، على أنه نهي.

وهذا الحديث موافق لرواية عروة، عن ابن عمر، كما تقدم.

وقد روى هذا الحديث – أيضا - عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يصلى مع طلوع الشمس، أو مع غروبها.

خرجه النسائي من طريق خالد، عنه.

ورواه يحيى بن سليم وعبد الرحيم بن سليمان، عن عبيد الله، عن نافع، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس.

وهو حديث منكر -: قاله أبو حاتم الرازي وغيره.

وذكر الدارقطني أنهما وهما في إسناده على عبيد الله بن عمر؛ فإن عبيد الله إنما روى هذا المتن عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة كما سبق.

وروى – أيضا – ابن أبي ذئب، عن مسلم الخياط، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا بعد الصبح حتى ترتفع الشمس وتضحى) .

مسلم، وثقه ابن معين وغيره.

وهذا غريب عن ابن عمر، بل منكر؛ فإنه لا يصح عنه رواية في النهي عن الصلاة بعد الفجر والعصر؛ فقد صح عنه أنه رخص في ذلك، كما خرجه البخاري، وسيأتي – إن شاء الله تعالى.




[ قــ :570 ... غــ :586 ]
- حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: حدثني عطاء بن يزيد الجندعي، أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ( لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغيب الشمس) .

وقد روي هذا عن أبي سعيد من وجوه متعددة:
وخرجه البخاري في ( الصيام) من طريق عبد الملك بن عمير، عن قزعة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس) .

ومن حديث عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه نهى عن صلاة بعد الصبح والعصر.


قال:


[ قــ :571 ... غــ :587 ]
- حدثنا محمد بن أبان: ثنا غندر: ثنا شعبة، عن أبي التياح، قال: سمعت حمران بن أبان يحدث، عن معاوية، قال: إنكم لتصلون صلاة، لقد صحبنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فما رأيناه يصليها، ولقد نهى عنها – يعني: الركعتين بعد العصر.

قال الإسماعيلي: قد رواه عثمان بن عمر، عن شعبة، عن أبي التياح، عن معبد الجهني، عن معاوية –جعل بدل حمران: معبدا.

قلت: غندر مقدم في أصحاب شعبة على عثمان بن عمر وغيره.

قال أحمد: ما في أصحاب شعبة أقل خطأ من غندر.
وقد توبع عليه؛ فخرجه الإمام أحمد في ( مسنده) عن غندر وحجاج، عن شعبة، عن أبي التياح، عن حمران.

وكذا رواه شبابة بن سوار وقراد أبو نوح، عن شعبة.

ورواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، قال: أخبرني أبو التياح، عن معبد الجهني، قال: خطب معاوية، فقال: ألا ما بال أقوام يصلون صلاة، قد صحبت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فما رأيناه يصليها، وقد سمعناه نهى عنها – يعني: الركعتين بعد العصر.

وهذه متابعة لعثمان بن عمر.

قال البيهقي: كأن أبا التياح سمعه منهما.
والله أعلم.


قال:


[ قــ :57 ... غــ :588 ]
- حدثنا محمد بن سلام: ثنا عبدة، عن عبيد الله، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاتين: بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب.

وهذا الحديث سبق في الباب الماضي بأتم من هذا السياق.

ومقصود البخاري بهذا: ذكر الوقتين الضيقين المنهي عن الصلاة فيهما، وهما: عند غروب الشمس، وعند طلوعها.

ومقصوده بالباب الذي قبله: ذكر الوقتين المتسعين، وهما: بعد الفجر، وبعد العصر.
فهذه أربعة أوقات:
الوقت الأول: أوله: طلوع الفجر عند جمهور العلماء، ومنهم من قال: الانصراف من صلاة الفجر.

وقد سبق ذكر هذا الاختلاف في الباب الماضي.

وآخره: اخذ الشمس في الطلوع.

والوقت الثاني: أوله: أخذ الشمس في الطلوع، وهو بدو حاجبها، كما في حديث ابن عمر.

وآخره: أن ترتفع الشمس، كما في حديث ابن عمر وأبي سعيد وغيرهما.

وجاء من حديث ابن مسعود – مرفوعاً -: (حتى ترتفع وتبيض) .

خرجه الهيثم بن كليب بإسناد فيه انقطاع.

وجاء في حديث كعب بن مرة – أو مرة بن كعب -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (حتى ترتفع قيد رمح أو رمحين) .

خرجه الإمام أحمد.

وفي إسناده اختلاف.

وخرجه الإسماعيلي من حديث عمر بن الخطاب، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بإسناد حديثه الذي خرجه البخاري هاهنا، ولكن متنه بهذا الإسناد منكر غير معروف.

وفي (مسند الإمام أحمد) عن سعيد بن نافع، قال: رآني أبو بشير الأنصاري صاحب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أصلي صلاة الضحى حين طلعت الشمس، فعاب ذلك علي، ونهاني، وقال: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا تصلوا حتى ترتفع الشمس؛ فإنها تطلع في قرني الشيطان) .

وسعيد بن نافع، روى عن جماعة من الصحابة، وذكره ابن حبان في (ثقاته) .
وخرج النسائي من حديث عبد الرحمن بن البيلماني، عن عمرو بن عبسة، أنه سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل من ساعة أقرب من الله؟ قال: (نعم؛ جوف الليل الآخر، فصل ما بدا لك حتى تصلي الصبح، ثم انته حتى تطلع الشمس، فما دامت كأنها جحفة حتى تنتشر، ثم صل ما بدا لك) – وذكر الحديث.

وخرجه – أيضا – من حديث أبي أمامة الباهلي، عن عمرو بن عبسة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه: قال: (فدع الصلاة حتى ترتفع قيد رمح، ويذهب شعاعها) .

وخرجه أبو داود، وعنده: (ثم أقصر حتى تطلع الشمس قيد رمح – أو رمحين) .

وقال سفيان، عن هشام، عن ابن سيرين: تحرم الصلاة إذا طلعت الشمس حتى تكون قيد نخلة، وتحرم إذا تغيرت حتى تغرب.

والوقت الثالث: أوله: إذا فرغ المصلي من صلاة العصر.

وآخره: دخول الوقت الرابع.

والوقت الرابع: آخره: تكامل غروب الشمس بغير خلاف.

ولم يرد ما يخالف هذا إلا حديث: (لا صلاة بعدها – يعني: العصر – حتى يطلع الشاهد) ، وهو النجم.

وقد سبق ذكره، وأن من الفقهاء من تعلق به في قوله بكراهة التنفل قبل صلاة المغرب، وهو قول أبي حنيفة وغيره.

وقال إسحاق: صلاة الركعتين قبل المغرب رخصة، فلا يزاد حينئذ على ركعتين وليست بسنة، نقله عنه ابن منصور.

ويكون عنده ما بعد غروب الشمس وقبل صلاة المغرب، كما بين طلوع الفجر وصلاة الصبح، لا يزاد فيه على ركعتين.

وأماأوله: ففيه قولان:
أحدهما: أنه اخذ الشمس في الغروب حتى تتكامل؛ لحديث ابن عمر: (إذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب) .

وهذا قول الحنفية، وأكثر أصحابنا وغيرهم.

والثاني: أوله: إذا اصفرت الشمس، وقد تقدم عن ابن سيرين، وحكي عن مالك والشافعي وإسحاق، وحكاه ابن المنذر عن أهل الرأي، ورجحه بعض أصحابنا، ومنهم من حكاهما روايتين عن أحمد.

ورأى شريح رجلاً يصلي حين أصفارت الشمس، فقال: أنهوه أن يصلي؛ فإن هذه ساعة لا تحل فيها الصلاة.

وتبويب البخاري هاهنا يشهد لهذا القول، ولكنه لم يستشهد له إلا بالنهي عن الصلاة بعد العصر، وفيه نظر؛ فإنه يجعل الوقتين وقتاً واحداً.

وإنما يستدل له بحديث عقبة بن عامر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه نهى عن الصلاة حين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب.

خرجه مسلم.

ومعنى: تضيف للغروب: تميل إليه.

وفي رواية للإمام أحمد من حديث كعب بن مرة – أو مرة بن كعب -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال بعد زوال الشمس: (ثم الصلاة مقبولة حتى تكون الشمس قيد رمح – أو رمحين -، ولا صلاة حتى تغرب الشمس) .

وخرج – أيضا - من حديث عمرو بن عبسة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (إذا تدلت الشمس للغروب فأقصر عن الصلاة حتى تغيب الشمس) .

وسنذكره بتمامه فيما بعد – إن شاء الله تعالى.

فأماالوقتان الضيقان عند طلوع الشمس وغروبها، فجمهور العلماء على النهي عن التنفل بالصلاة فيهما، وقد حكاه غير واحد إجماعاً، ولكن روي عن ابن الزبير، أنه كان يصلي عند غروب الشمس.

فخرج النسائي من طريق عمران بن حدير، قال: سألت أبا مجلز عن الركعتين عند غروب الشمس؟ فقال: كان عبد الله بن الزبير يصليهما، فأرسل إليه معاوية: ما هاتان الركعتان عند غروب الشمس، فاضطر الحديث إلى أم سلمة، فقالت أم سلمة: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي ركعتين قبل العصر، فشغل عنهما فركعهما حين غابت الشمس، ولم أره يصليهما قبل ولا بعد.

وروى محمد بن حيي بن يعلي بن أمية، عن أبيه، قال: رأيت يعلي بن أمية صلى قبل أن تطلع الشمس، فقيل له: أنت رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، تصلي قبل أن تطلع الشمس؟ قال يعلي: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، فلأن تطلع وأنت في أمر الله خير من أن تطلع وأنت لاه) .

خرجه الإمام أحمد.

ومحمد بن حيي بن يعلي بن أمية، قال ابن المديني: هو مجهول.
قال: وأبوه معروف، قد روي عنه.

مع أن يعلي إنما كانت صلاته قبل طلوع الشمس، لكن تعليله يقتضي عدم كراهة الصلاة عند طلوعها.

وأماالوقتان المتسعان، وهما: بعد الفجر، وبعد العصر، فاختلف العلماء: فمنهم من قال: لا بأس بالصلاة فيهما، وهذا مروي عن جماعة من الصحابة:
منهم: ابن عمر.

وقد خرج البخاري قوله في الباب الاتي.

ومنهم: عائشة.

ففي (صحيح مسلم) عن طاوس، قال: قالت عائشة: وهم عمر، إنما نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتحرى طلوع الشمس وغروبها.

ومعنى قولها: وهم عمر – أي: فيما روى من النهي عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر.

وفي (صحيح ابن حبان) من رواية شعبة، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، قال: سألت عائشة عن الصلاة بعد العصر، فقالت: صل؛ إنما نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة إذا طلعت الشمس، وإذا غربت الشمس.

ومنهم: بلال.

روى قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن بلال، قال: لم يكن ينهى عن الصلاة إلا عند طلوع الشمس، فإنها تطلع بين قرني الشيطان.

وخرجه الإمام أحمد.

وخرجه ابن أبي شيبة، وعنده: (عند غروب الشمس) .

والظاهر: استواء الطلوع والغروب، ولا يعلم عن أحد التفريق بينهما.

واختار ابن المنذر أن أوقات النهي ثلاثة: وقت الطلوع، ووقت الغروب، ووقت الزوال خاصة.

وممن رخص في الصلاة بعد العصر والشمس مرتفعة: علي بن أبي طالب، والزبير، وتميم الداري، وأبو أيوب، وأبو موسى، وزيد بن خالد الجهني، وابن الزبير، والنعمان بن بشير، وأم سلمة – رضي الله عنهم.

ومن التابعين: الأسود، ومسروق، وشريح، وعمرو بن ميمون، وعبد الرحمن بن الأسود، وعبيدة، والأحنف بن قيس، وطاوس.

وحكاه ابن عبد البر، عن عطاء، وابن جريج، وعمرو بن دينار.

قال: وروي عن ابن مسعود نحوه.

ولم يعلم عن أحد منهم الرخصة بعد صلاة الصبح.

وهو قول داود، فيما حكاه ابن عبد البر.

وحكي رواية عن أحمد:
قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد: هل ترى بأساً أن يصلي الرجل تطوعاً بعد العصر والشمس بيضاء مرتفعة؟ قال: لا نفعله، ولا نعيب فاعله.

قال: وبه قال أبو حنيفة.

وهذا لا يدل على أن أحمد رأى جوازه، بل رأى أن من فعله متأولاً، أو مقلداً لمن تأوله لا ينكر عليه، ولا يعاب قوله؛ لأن ذلك من موارد الاجتهاد السائغ.

ومما استدل به من ذهب إلى ذلك: ما رواه هلال بن يساف، عن وهب بن الأجدع، عن علي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (لا تصلوا بعد العصر، إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود.

والنسائي، وعنده: (إلا أن تكون الشمس بيضاء نقية مرتفعة) .

وابن خزيمة وابن حبان في (صحيحهما) .

وثبته ابن المنذر.

ووهب بن الأجدع، قال محمد بن يحيى الذهلي: ليس بمجهول؛ قد روى عنه الشعبي – أيضا.

واحتجوا - أيضا - بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعتين بعد العصر.

وقد خرجه البخاري فيما بعد.

وخرج النسائي من حديث أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: (إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة) – يعني: جوف الليل – (فكن؛ فإن الصلاة مشهودة محضورة إلى طلوع الشمس؛ فإنها تطلع بين قرني الشيطان) – وذكر الحديث، وقال فيه: (ثم الصلاة مشهودة) – يعني: بعد أن يفئ الشيطان) – وذكر الحديث، وقال فيه: (ثم تغيب بين قرني شيطان) .

وخرجه الإمام أحمد – بنحوه من حديث سليم بن عامر، عن عمرو بن عبسة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال فيه – في ذكر جوف الليل -: (فصل حتى تطلع الشمس) ، وقال فيه: (فإذا فاء الفيء فصل، فإن الصلاة محضورة مشهودة حتى تدلى الشمس للغروب، فإذا تدلت فأقصر عن الصلاة حتى تغيب الشمس) .

وهذا كله تصريح بجواز الصلاة بعد العصر وبعد الفجر؛ ولكن في هذه الروايات؛ فإن مسلماً خرج حديث عمرو بن عبسة من طريق أبي أمامة عنه، وذكر فيه: أنه أمره أن يقصر عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تغرب.

وكذا في أكثر الروايات.
وهذه زيادة صحيحة، سقطت في تلك الروايات.

وذهب أكثر العلماء إلى النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وهذا هو الثابت عن عمر بن الخطاب، وكان يضرب من صلى بعد العصر، وكذلك روي عن خالد بن الوليد – أيضا -، وهو قول ابن عباس ومعاوية، وروي عن ابن عمر وجماعة من الصحابة.

وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم، وهو قول مالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور.

وفي (صحيح مسلم) عن المختار بن فلفل، قال: سألت أنس بن مالك عن التطوع بعد العصر، فقال: كان عمر يضرب الأيدي على صلاة بعد العصر.

وروى الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: كره عمر الصلاة بعد العصر، وأنا أكره ما كره عمر.

وقد صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النهي عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب كما سبق ذلك من حديث عمر وغيره من الصحابة، الذي رواه عنهم ابن عباس، ومن حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، ومعاوية.

وخرج مسلم من حديث عمرو بن عبسة، ومن حديث أبي بصرة في الصلاة بعد العصر كحديث معاوية.

وأكثر من جعل ما بعد الفجر والعصر وقت نهي حرم الصلاة فيه إلى طلوع الشمس وغروبها في الجملة، وإن أجاز بعضهم في الوقتين الطويلين للتنزيه، روي ذلك صريحاً عن ابن سيرين.

وسبب هذا: أن المقصود بالنهي بالأصالة هو وقت الطلوع والغروب؛ لما في السجود حينئذ من مشابهة سجود الكفار في الصورة، وإنما نهى عن الصلاة قبل ذلك سداً للذريعة؛ لئلا يتدرج بالصلاة فيه إلى الصلاة في وقت الطلوع والغروب.
وقد جاء ذلك صريحاً عن غير واحد من الصحابة والتابعين.

وروى ابن جريج: سمعت أبا سعد الأعمى يخبر، عن رجل، يقال له: السائب مولى الفارسيين، عن زيد بن خالد، أن عمر رآه يركع بعد العصر ركعتين، فمشى إليه فضربه بالدرة وهو يصلي، فلما انصرف قال: دعها يا أمير المؤمنين، فوالله لا أدعها أبداً بعد إذ رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليهما، فجلس إليه عمر، فقال: يا زيد، لولا أني أخشى أن يتخذها الناس سلماً إلى الصلاة حتى الليل، لم أضرب فيهما.

وخرجه الإمام أحمد.

وفي إسناده رجلان غير معروفين.

وروى الليث بن سعد، عن أبي الأسود، عن عروة، أنه قال: أخبرني تميم الداري – أو أخبرت - أن تميماً الداري ركع ركعتين بعد نهي عمر بن الخطاب عن الصلاة بعد العصر، فأتاه عمر، فضربه بالدرة، فأشار إليه تميم أن اجلس، وهو في صلاته، فجلس عمر حتى فرغ تميم من صلاته، فقال لعم: لم ضربتني؟ قال: لأنك ركعت هاتين الركعتين، وقد نهيت عنهما.
قال: فإني قد صليتهما مع من هو خير منك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فقال عمر: إنه ليس بي أيها الرهط، ولكني اخاف أن يأتي بعدكم قوم يصلون ما بين العصر إلى المغرب حتى يمروا بالساعة التي نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلوا فيها، كما وصلوا ما بين الظهر والعصر.

خرجه الطبراني.

وخرجه الإمام أحمد – مختصراً -، عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: خرج عمر على الناس يضربهم على السجدتين بعد العصر، حتى مر بتميم الداري، فقال: لا أدعهما؛ صليتهما مع خير منك، رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فقال عمر: لو أن الناس كانو كهيئتك لم أبال.

ورواية عروة عن عمر مرسلة.

وخرج الحاكم من رواية هشام بن حجير، قال: كان طاوس يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن عباس: اتركهما، فقال: إنما نهي عنهما أن تتخذ سلماً أن يوصل ذلك إلى غروب الشمس.

قال ابن عباس: فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نهى عن صلاة بعد العصر، وما ندري أتعذب عليه أم تؤجر؛ لأن الله يقول: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب: 36] .

وقول من قال: إن النهي عنها كان سداً لذريعة الصلاة في وقت الكراهة الأصلي، فلا يكون محرماً – غير صحيح؛ فإنه إذا ثبت نهي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها كان نهيه للتحريم، وإن كان معللاً بسد الذريعة، كما نهى عن ربا الفضل معللاً بسد الذريعة لربا النسيئة، وكل منهما محرم، وكما نهى عن شرب قليل ما أسكر كثيرة، لأنه ذريعة إلى السكر، وكلاهما محرم، ونظائر ذلك.

والذين حرموا الصلاة بعد الفجر والعصر اتفقوا على تحريم التنفل الذي لا سبب له، وأماما له سبب كتحية المسجد ونحوها فلهم فيه قولان مشهوران: أجازه الشافعي، ومنعه أبو حنيفة ومالك، وعن أحمد فيه روايتان.

ولذلك اختلفت الرواية عن مالك فيمن صلى ركعتي الفجر في بيته، ثم دخل المسجد: هل يصلي ركعتين، أم لا؟ وأجاز سجود التلاوة في هذا الوقت، وأمابعد صلاة الفجر فلا يفعل عنده شيء من ذلك في المشهور عنه.

وعنه رواية أخرى: يفعل سجود التلاوة، وصلاة الكسوف خاصة.

وفي (سنن أبي داود) بإسناد فيه نظر، عن ابن عمر، أنه نهى عن سجود التلاوة بعد الصبح، وقال: صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومع أبي بكر وعمر وعثمان، فلم يسجدوا حتى تطلع الشمس.

وأماقضاء الفرائض الفائتة، فأجازه الأكثرون، منهم: مالك والشافعي وأحمد استدلالاً بامر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلى ركعة من الصبح ثم طلعت عليه الشمس أن يتم صلاته.
ومنع ذلك أبو حنيفة، وقد سبق ذكره، ويأتي فيما بعد – إن شاء الله.

فأمافروض الكفاية كصلاة الجنازة، فيجوز فعلها في الوقتين المتسعين عند الجمهور، ومنهم من حكاه إجماعاً كابن المنذر وغيره.

وفي فعلها في الوقتين الضيقين قولان، هما روايتان عن مالك وأحمد، ومنع أحمد – في رواية عنه – من فعلها بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وترتفع، اتباعاً لما روي في ذلك عن ابن عمر.

وكذا روى ابن القاسم عن مالك، أنه لا يصلي على الجنائز إذا اصفرت الشمس حتى تغرب، وإذا أسفر الضوء حتى ترتفع الشمس.
وهذا يرجع إلى أن وقت الاختيار يخرج بالإسفار ويدخل وقت الكراهة.
وعلى مثل هذا ينبغي حمل المروي عن أحمد – أيضا.

وينبغي على هذا القول أن يكون أول وقت النهي عن الصلاة إسفار الوقت جداً.

وعن الليث، قال: لا يصلي على الجنازة في الساعة التي تكره فيها الصلاة.

ومنع الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة من الصلاة على الجنازة في الوقتين الضيقين دون الواسعين.

وأجازه الشافعي في جميع الأوقات؛ لأنه يرى أن النهي يختص بالتطوع المطلق الذي ليس له سبب.