فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب لا يسعى إلى الصلاة، وليأت بالسكينة والوقار

(بابٌُ لاَ يَسْعَى إلَى الصَّلاَةِ وَلْيَأْتِ بالسَّكِينَةِ والوَقارِ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ: لَا يسْعَى الرجل إِلَى الصَّلَاة ... إِلَى آخِره، وَسَقَطت هَذِه التَّرْجَمَة من رِوَايَة الْأصيلِيّ وَمن رِوَايَة أبي ذَر عَن غير السَّرخسِيّ، وَفِي بعض نسخ السراج: بابُُ مَا أدركتم فصلوا وَمَا فاتكم فَأتمُّوا، قَالَه أَبُو قَتَادَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْأَوْجه مَا مشينا عَلَيْهِ.

وَقَالَ مَا أدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَما فَاتَكُمْ فَأتِمُّوا قالَهُ أبُو قَتَادَة عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِي: قَالَه، يرجع إِلَى الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: (مَا أدركتم فصلوا وَمَا فاتكم فَأتمُّوا) ، وَالْمعْنَى: قَالَه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الْبابُُ السَّابِق.



[ قــ :618 ... غــ :636 ]
- حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبي ذِئْبٍ قَالَ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا سَمِعْتُمُ الإقَامَةَ فَامْشُوا إلَى الصَّلاَةِ وعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ والوَقَارِ ولاَ تُسْرِعُوا فَما أدرَكْتُمْ فَصَلوا ومَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا.
(الحَدِيث 636 طرفه فِي: 908) .


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة قد ذكرُوا غير مرّة.
وَأخرجه من طَرِيقين.
الأول: عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة.
الثَّانِي: عَن آدم أَيْضا عَن ابْن أبي ذِئْب عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي سَبْعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن الزُّهْرِيّ حدث عَن شيخين عَن سعيد بن الْمسيب وَأبي سَلمَة، وَقد جمع البُخَارِيّ بَينهمَا فِي: بابُُ الْمَشْي إِلَى الْجُمُعَة عَن آدم، فَقَالَ فِيهِ: عَن سعيد وَأبي سَلمَة، كِلَاهُمَا عَن أبي هُرَيْرَة، وَكَذَلِكَ أخرجه مُسلم من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن سعد عَن الزُّهْرِيّ، عَنْهُمَا.
وَالتِّرْمِذِيّ أخرجه من طَرِيق يزِيد بن زُرَيْع: عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن أبي سَلمَة وَحده، وَمن طَرِيق عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد وَحده، وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون مَا خلا شيخ البُخَارِيّ فَإِنَّهُ عسقلاني.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَة) أَي: إِقَامَة الصَّلَاة، إِنَّمَا ذكر الْإِقَامَة تَنْبِيها على مَا سواهَا لِأَنَّهُ إِذا نهى عَن إتيانها مسرعا فِي حَال الْإِقَامَة مَعَ خوف فَوت بَعْضهَا، فَقبل الْإِقَامَة أولى.
وَيُقَال: الْحِكْمَة فِي التَّقْيِيد بِالْإِقَامَةِ أَن المسرع إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة يصل إِلَيْهَا وَقد انبهر، فَيقْرَأ فِي تِلْكَ الْحَالة فَلَا يحصل لَهُ تَمام الْخُشُوع فِي الترتيل، وَغَيره، بِخِلَاف من جَاءَ قبل ذَلِك، فَإِن الصَّلَاة قد لَا تُقَام حَتَّى يستريح.
قَوْله: فَعَلَيْكُم بِالسَّكِينَةِ) كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: (وَعَلَيْكُم السكينَة) ، بِالنّصب بِلَا: بَاء، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق يُونُس، وضبطها الْقُرْطُبِيّ الشَّارِح بِالنّصب على الإغراء، وضبطها النَّوَوِيّ بِالرَّفْع على أَنَّهَا جملَة فِي مَوضِع الْحَال.
وَقيل: دُخُول الْبَاء لَا وَجه لَهُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفسِهِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { عَلَيْكُم أَنفسكُم} (الْمَائِدَة: 105) ورد بِأَنَّهَا زَائِدَة للتَّأْكِيد، وَلم تدخل للتعدية.
وَجَاء فِي الْأَحَادِيث كثير من ذَلِك نَحْو: (عَلَيْكُم بِرُخْصَة الله تَعَالَى) ، (فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاء) ، (وَعَلَيْكُم بِقِيَام اللَّيْل) .
وَنَحْو ذَلِك.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: ثمَّ إِن الَّذِي علل بقوله لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفسِهِ غير موف بمقصوده، إِذْ لَا يلْزم من كَونه يتَعَدَّى بِنَفسِهِ امْتنَاع تعديته بِالْبَاء.
انْتهى.
قلت: هَذَا الْقَائِل لم يشم شَيْئا من علم التصريف، وَنفى الْمُلَازمَة غير صَحِيح.
قَوْله: (وَالْوَقار) قَالَ عِيَاض والقرطبي: وَهُوَ بِمَعْنى السكينَة، وَذكر على سَبِيل التَّأْكِيد.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: السكينَة: التأني فِي الحركات وَاجْتنَاب الْعَبَث وَالْوَقار فِي الْهَيْئَة، كغض الْبَصَر وخفض الصَّوْت وَعدم الِالْتِفَات.
قَوْله: (وَلَا تسرعوا) ، فِيهِ زِيَادَة تَأْكِيد، وَلَا مُنَافَاة بَينه وَبَين قَوْله تَعَالَى: { فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله} (الْجُمُعَة: 9) وَإِن كَانَ مَعْنَاهُ يشْعر بالإسراع، لِأَن المُرَاد بالسعي الذّهاب، يُقَال: سعيت إِلَى كَذَا أَي: ذهبت إِلَيْهِ، وَالسَّعْي أَيْضا جَاءَ بِمَعْنى: الْعَمَل، وَبِمَعْنى: الْقَصْد.
وَالْحكمَة فِي منع الْإِسْرَاع أَنه يُنَافِي الْخُشُوع، وَتَركه أَيْضا يسْتَلْزم كَثْرَة الخطى، وَهُوَ أَمر مَنْدُوب مَطْلُوب، وَردت فِيهِ أَحَادِيث: مِنْهَا حَدِيث مُسلم رَوَاهُ عَن جَابر: (إِن بِكُل خطْوَة دَرَجَة) .
قَوْله: (فَمَا أدركتم) : الْفَاء، فِيهِ جَزَاء شَرط مَحْذُوف، أَي: إِذا بيّنت لكم مَا هُوَ أولى بكم فَمَا أدركتم فصلوا.
قَوْله: (وَمَا فاتكم فَأتمُّوا) أَي: أكملوا، وَقد بَينا اخْتِلَاف الْأَلْفَاظ فِيهِ فِي الْبابُُ السَّابِق.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الدّلَالَة على حُصُول فَضِيلَة الْجَمَاعَة بِإِدْرَاك جُزْء من الصَّلَاة.
لقَوْله: (فَمَا أدركتم فصلوا) ، وَلم يفصل بَين الْقَلِيل وَالْكثير.
وَفِيه: اسْتِحْبابُُ الدُّخُول مَعَ الإِمَام فِي أَي: حَالَة وجده عَلَيْهَا.
وَفِيه: الْحَث على التأني وَالْوَقار عِنْد الذّهاب إِلَى الصَّلَاة، وَمِنْه اسْتدلَّ قوم على أَن من أدْرك الإِمَام رَاكِعا لم تحسب لَهُ تِلْكَ الرَّكْعَة لِلْأَمْرِ بإتمام مَا فَاتَهُ، وَقد فَاتَهُ الْقيام وَالْقِرَاءَة فِيهِ، وَهُوَ أَيْضا مَذْهَب من ذهب إِلَى وجوب الْقِرَاءَة خلف الإِمَام، وَهُوَ قَول أبي هُرَيْرَة أَيْضا.
وَاخْتَارَهُ ابْن خُزَيْمَة.
وَعند أَصْحَابنَا، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور: أَنه يكون مدْركا لتِلْك الرَّكْعَة لحَدِيث أبي بكرَة حَيْثُ ركع دون الصَّفّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (زادك الله حرصا وَلَا تعد) .
وَلم يَأْمُرهُ بِإِعَادَة تِلْكَ الرَّكْعَة، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث مُعَاوِيَة ابْن ابي سُفْيَان قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تبادروني بركوع وَلَا سُجُود، فَإِنَّهُ مهما أسبقكم بِهِ إِذا ركعت تدركوني بِهِ إِذا رفعت، وَإِنِّي قد بدنت) .
وَهَذَا يدل على أَن الْمُقْتَدِي إِذا لحق الإِمَام وَهُوَ فِي الرُّكُوع فَلَو شرع مَعَه مَا لم يرفع رَأسه يصير مدْركا لتِلْك الرَّكْعَة، فَإِذا شرع وَقد رفع رَأسه لَا يكون مدْركا لتِلْك الرَّكْعَة، وَلَو ركع الْمُقْتَدِي قبل الإِمَام فَلحقه الإِمَام قبل قِيَامه يجوز عندنَا خلافًا لزفَر، رَحمَه الله.