فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فضل صلاة الفجر في جماعة

( بابُُ فَضْلِ صَلاَةِ الفَجْرِ فِي جَمَاعةٍ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل صَلَاة الْفجْر مَعَ الْجَمَاعَة، إِنَّمَا ذكر هَذِه التَّرْجَمَة مُقَيّدَة وَذكر التَّرْجَمَة الَّتِي قبلهَا مُطلقَة إِشَارَة إِلَى زِيَادَة خُصُوصِيَّة الْفجْر بالفضيلة.



[ قــ :630 ... غــ :648 ]
- حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ وَأَبُو سَلمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ تَفْضُلُ صَلاَةُ الجَمِيعِ صَلاَةَ أحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءا وَتَجْتَمِعُ مَلائِكَةُ الليْلِ وَمَلائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلاةِ الفَجْرِ ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ فاقْرَؤُا إنْ شِئْتُمْ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودا.
.

قَالَ شُعَيْبٌ وحدَّثني نافِعٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ قَالَ تَفْضُلُهَا تَكْمِلَة الحَدِيث بِسَبْعٍ وعِشْرِينَ دَرَجَةً ( انْظُر الحَدِيث 645) .


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وتجتمع مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار) ، فَإِنَّهُ يدل على مزية لصَلَاة الْفجْر على غَيرهَا.

ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة، قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان: الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَمُحَمّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.

ذكر لطائف أسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع.
والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع.
وَفِيه: السماع.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين حمصي ومدني.
وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( تفضل) أَي: تزيد صَلَاة الْجَمِيع الْإِضَافَة فِيهِ بِمَعْنى فِي: لَا، بِمَعْنى اللَّام.
فَافْهَم.
قَوْله: ( بِخَمْسَة وَعشْرين جزأ) ، كَذَا هُوَ فِي عَامَّة نسخ البُخَارِيّ.
وَقيل: وَقع فِي الصَّحِيحَيْنِ: ( خمس وَعشْرين) ، بِدُونِ الْبَاء الْمُوَحدَة وَبِدُون الْهَاء فِي آخِره، وَأول بِأَن لفظ: خمس، مجرور بِنَزْع الْخَافِض وَهُوَ: الْبَاء، كَمَا وَقع فِي نَظِيره فِي قَول الشَّاعِر:
( أشارت كُلَيْب بالأكف الْأَصَابِع)

وَتَقْدِيره: إِلَى كُلَيْب.
وَأما حذف الْهَاء فعلى تَأْوِيل الْجُزْء بالدرجة.
قلت: وَأما لِأَن الْمُمَيز غير مَذْكُور، وَهَهُنَا مُمَيّز: خمس، غير مَذْكُور.
قَوْله: ( وتجتمع مَلَائِكَة اللَّيْل) إِلَى آخِره، وَهُوَ الْمُوجب لتفضيل صَلَاة الْفجْر مَعَ الْجَمَاعَة، وَكَذَا فِي صَلَاة الْعَصْر أَيْضا،، فَلذَلِك حث الشَّارِع على الْمُحَافظَة عَلَيْهِمَا ليَكُون من حضرهما ترفع الْمَلَائِكَة عمله وَتشفع لَهُ.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَيُمكن أَن يكون اجْتِمَاع الْمَلَائِكَة فيهمَا هما الدرجتان الزائدتان على الْخَمْسَة وَالْعِشْرين جزأ فِي سَائِر الصَّلَوَات الَّتِي لَا تَجْتَمِع الْمَلَائِكَة فِيهَا.
قَوْله: ( قُرْآن الْفجْر) ، كِنَايَة عَن صَلَاة الْفجْر، لِأَن الصَّلَاة مستلزمة لِلْقُرْآنِ.
قَوْله: ( مشهودا) أَي: محضورا فِيهِ.
قَوْله: ( قَالَ شُعَيْب) ، هُوَ شُعَيْب، الْمَذْكُور فِي سَنَد الحَدِيث،.

     وَقَالَ : يحْتَمل أَن يكون دَاخِلا تَحت الْإِسْنَاد الأول فتقديره: حَدثنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ شُعَيْب، وَأَن يكون تَعْلِيقا من البُخَارِيّ.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وحَدثني نَافِع، أَي: بِالْحَدِيثِ مَرْفُوعا نَحوه إلاَّ أَنه قَالَ: ( بِسبع وَعشْرين دَرَجَة) ، وَهُوَ مُوَافق لرِوَايَة مَالك وَغَيره من نَافِع، وَطَرِيق شُعَيْب هَذِه مَوْصُولَة، وَجوز الْكرْمَانِي أَن تكون معلقَة وَهُوَ بعيد، بل هِيَ معطوفة على الاسناد الاول وَالتَّقْدِير حَدثنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ شُعَيْب انْتهى ( قلت) استبعاده قَول الْكرْمَانِي بعيد لِأَنَّهُ مَا حكم بِالْجَزْمِ بل بِالِاحْتِمَالِ، وَذَلِكَ بِحَسب الظَّاهِر، بل الْقَرِيب مَا ذكره ويقويه أَن طَرِيق شُعَيْب هَذِه لم تَرَ إلاَّ عِنْد البُخَارِيّ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا قَالَه هَذَا الْقَائِل: لم يستخرجها الْإِسْمَاعِيلِيّ وَلَا أَبُو نعيم وَلَا أوردهَا الطَّبَرَانِيّ فِي مُسْند الشاميين فِي تَرْجَمَة شُعَيْب.





[ قــ :631 ... غــ :650 ]
- حدَّثنا حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا الأَعْمشُ قَالَ سَمِعْتُ سالِما قَالَ سَمِعْتُ أم الدَّرْدَاءِ تَقُولُ دَخَلَ عَلَيَّ أبُو الدَّرْدَاءِ وَهْوَ مُغْضَبٌ فَقلْتُ مَا أغْضَبَكَ فَقَالَ وَالله مَا أعْرِفُ مِنْ أمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا إلاَّ أنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعا.


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أَعمال الَّذين يصلونَ بِالْجَمَاعَة قد وَقع فِيهَا النَّقْص والتغيير مَا خلا صلَاتهم بِالْجَمَاعَة، وَلم يَقع فِيهَا شَيْء من ذَلِك، فَدلَّ ذَلِك على أَن فضل الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة فِي الْفجْر، وَالَّذِي يفهم من هَذَا الحَدِيث أَعم من ذَلِك، فَكيف يكون التطابق؟ قلت: إِذا طابق جُزْء من الحَدِيث التَّرْجَمَة يَكْفِي، وَمثل هَذَا وَقع لَهُ كثيرا فِي هَذَا الْكتاب.

ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عمر بن حَفْص النَّخعِيّ الْكُوفِي.
الثَّانِي: أَبوهُ حَفْص بن غياث بن طلق النَّخعِيّ.
الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش.
الرَّابِع: سَالم بن أبي الْجَعْد.
الْخَامِس: أم الدَّرْدَاء، الَّتِي اسْمهَا: هجيمة، وَهِي أم الدَّرْدَاء الصُّغْرَى التابعية، لَا الْكُبْرَى الَّتِي اسْمهَا: خيرة، وَهِي الصحابية.
وَإِنَّمَا قُلْنَا كَذَلِك لِأَن الْكُبْرَى مَاتَت فِي حَيَاة أبي الدَّرْدَاء، وَعَاشَتْ الصُّغْرَى بعده بِزَمَان طَوِيل، وَقد جزم أَبُو حَاتِم بِأَن سَالم بن أبي الْجَعْد لم يدْرك أَبَا الدَّرْدَاء، فعلى هَذَا لم يدْرك أم الدَّرْدَاء الْكُبْرَى.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: أم الدَّرْدَاء هِيَ: خيرة، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: بنت أبي حَدْرَد الأسْلَمِيَّة، من فاضلات الصحابيات وعاقلاتهن وعابداتهن، مَاتَت بِالشَّام فِي خلَافَة عُثْمَان.
قلت: هَذَا سَهْو مِنْهُ، وَالصَّحِيح مَا ذَكرْنَاهُ.
السَّادِس: أَبُو الدَّرْدَاء، واسْمه: عُوَيْمِر بن مَالك.

ذكر لطائف إِسْنَاده وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: السماع فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل فِي سَبْعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب.
وَفِيه: رِوَايَة التابعية عَن الصَّحَابِيّ.
وَفِيه: التَّابِعِيّ عَن التابعية.
وَفِيه: أَن رُوَاته الْأَرْبَعَة كوفيون.

وَهَذَا من أَفْرَاد البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( مغضب) ، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة.
قَوْله: ( مَا أعرف من أمة مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر وكريمة، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: ( من مُحَمَّد) بِدُونِ لَفْظَة: أمة، وَعَلِيهِ شرح ابْن بطال وَمن تبعه، فَقَالَ: يُرِيد من شَرِيعَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا لم يتَغَيَّر عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ إلاَّ الصَّلَاة فِي جمَاعَة، فَحذف الْمُضَاف إِلَيْهِ لدلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي الْوَقْت: ( من أَمر مُحَمَّد) بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْمِيم وَفِي آخِره رَاء، وَكَذَا سَاقه الْحميدِي فِي ( جمعه) ، وَكَذَا هُوَ فِي ( مُسْند أَحْمد) و ( مستخرجي الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأبي نعيم) : من طرق عَن الْأَعْمَش، وَعِنْدهم بِلَفْظ: ( مَا أعرف فيهم) ، أَي: فِي أهل الْبَلَد الَّذِي كَانَ فِيهِ أَبُو الدَّرْدَاء قيل: كَانَ لفظ: فيهم، لما حذف من رِوَايَة البُخَارِيّ صحف بعض النقلَة لفظ: أَمر، بِلَفْظَة: أمة، ليعود الضَّمِير فِي: أَنهم، على الْأمة.
قلت: لَا مَحْذُور فِي كَون لَفْظَة: امة، بل الظَّاهِر هَذَا على مَا لَا يخفى.
قَوْله: ( يصلونَ جَمِيعًا) ، أَي: مُجْتَمعين، وانتصابه على الْحَال، ومفعول: يصلونَ، مَحْذُوف تَقْدِيره، يصلونَ الصَّلَاة أَو الصَّلَوَات.

وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: جَوَاز الْغَضَب عِنْد تغير شَيْء من أُمُور الدّين، وَجَوَاز إِنْكَار الْمُنكر بِالْغَضَبِ إِذا لم يسْتَطع أَكثر من ذَلِك.





[ قــ :63 ... غــ :651 ]
- حدَّثنا مُحَمَّد بنُ العَلاَءِ قَالَ حدَّثنا أبُو أسامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بنِ عبْدِ الله عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبِي مُوسَى قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْظَمُ النَّاسِ أجْرا فِي الصَّلاةِ أبْعَدُهُمْ فأبْعَدُهُمْ مَمْشًى والَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ حَتَّى يُصَلِّيهَا مَعَ الإِمَام أعْظَمُ أجْرا مِنَ الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ.


مطابقته للتَّرْجَمَة تفهم من قَوْله: (أعظم النَّاس أجرا فِي الصَّلَاة أبعدهم، فأبعدهم ممشى) ، بَيَان ذَلِك أَنه بَين فِيهِ أَن سَبَب أعظمية الْأجر فِي الصَّلَاة هُوَ: بعد الممشى، وَهُوَ الْمسَافَة، وَذَلِكَ لوُجُود الْمَشَقَّة فِيهِ.
وَقد علم أَن أفضل الْأَعْمَال أحمزها، فَكل صَلَاة تُوجد فِيهَا الْمَشَقَّة من حَيْثُ بعد الممشى فَهِيَ أعظم أجرا وَأفضل من الصَّلَاة الَّتِي لَا يُوجد فِيهَا ذَلِك، فينتج من ذَلِك أَن صَلَاة الْفجْر إِذا كَانَ فِيهَا بُعْد الممشى مَعَ كَونه عقيب النّوم الَّذِي فِيهِ رَاحَة للبدن، مَعَ مصادفة الظلمَة أَحْيَانًا تكون أعظم أجرا وَأفضل من غَيرهَا، فبهذه الْحَيْثِيَّة طابق هَذَا الحَدِيث التَّرْجَمَة.
فَإِن قلت: تشاركها الْعشَاء فِي ذَلِك مَعَ دلَالَة آخر الحَدِيث على ذَلِك؟ قلت: نعم تشاركها فِي وجود تِلْكَ الْمَشَقَّة، وَلَا تشاركها فِي الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة، وَلَئِن سلمنَا أَنَّهَا تشاركها مُطلقًا فَلَا يضر ذَلِك، لِأَن الْمَقْصُود هُوَ مُطَابقَة مَا بَين الحَدِيث والترجمة، وَهِي مَوْجُودَة بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَهَذَا الْقدر فِيهِ الْكِفَايَة، وَلَا يحْتَاج إِلَى مَا أَكْثَره بعض الشُّرَّاح من كَلَام فِيهِ مَا فِيهِ من حرارة فِي الْقلب من الْحَسَد.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة قد ذكرُوا بِهَذَا التَّرْتِيب فيي: بابُُ من علم، لَكِن ذكر أَبُو أُسَامَة ثمَّة باسمه حَمَّاد، وَهَهُنَا بكنيته، وبريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، وَأَبُو بردة اسْمه: عَامر، وَقيل: الْحَارِث، يروي عَن أَبِيه أبي مُوسَى واسْمه: عبد الله بن قيس.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أجرا) نصب على التَّمْيِيز.
قَوْله: (أبعدهم) بِالرَّفْع خبر الْمُبْتَدَأ أَعنِي.
قَوْله: (أعظم النَّاس) .
قَوْله: (فأبعدهم) ، الْفَاء فِيهِ للاستمرار، كَمَا فِي قَوْلهم الأمثل فالأمثل، هَكَذَا قَالَه الْكرْمَانِي قلت: لم يذكر أحد من النُّحَاة أَن الْفَاء تَجِيء بِمَعْنى الِاسْتِمْرَار، وَلَكِن يُمكن أَن تكون الْفَاء هَهُنَا للتَّرْتِيب مَعَ تفَاوت من بعض الْوُجُوه.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: للفاء مَعَ الصِّفَات ثَلَاثَة أَحْوَال: أَحدهَا: أَن تدل على تَرْتِيب مَعَانِيهَا فِي الْوُجُود كَقَوْلِه:
(يَا لهف زيابة لِلْحَارِثِ الصابح ... فالغانم فالآيب)

أَي: الَّذِي صبح فغنم فآب.
وَالثَّانِي: تدل على ترتيبها فِي التَّفَاوُت من بعض الْوُجُوه، نَحْو قَوْلك: خُذ الْأَكْمَل فَالْأَفْضَل، واعمل الْأَحْسَن فالأجمل.
وَالثَّالِث: أَن تدل على تَرْتِيب موصوفاتها فِي ذَلِك، نَحْو: رحم الله المحلقين فالمقصرين.
وَقيل: تقع الْفَاء تَارَة بِمَعْنى: ثمَّ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { ثمَّ خلقنَا النُّطْفَة علقَة فخلقنا الْعلقَة مُضْغَة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا الْعِظَام لَحْمًا} (الْمُؤْمِنُونَ: 140) .
فالفا آتٍ فِيهَا بِمَعْنى: ثمَّ، لتراخي معطوفاتها، فعلى هَذَا يجوز أَن تكون الْفَاء هَهُنَا بِمَعْنى: ثمَّ، بِمَعْنى أبعدهم ثمَّ أبعدهم.
قَوْله: (ممشى) ، بِفَتْح الْمِيم الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة اسْم مَكَان، وَهُوَ مَنْصُوب على التَّمْيِيز، وَالْمعْنَى: أبعدهم مَسَافَة إِلَى الْمَسْجِد.
قَوْله: (من الَّذِي يُصَلِّي) أَعم من أَن يكون مَعَ جمَاعَة أَو وَحده.
قَوْله: (ثمَّ ينَام) قَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت: هَذَا التَّفْضِيل أَمر ظَاهر ضَرُورِيّ، فَمَا الْفَائِدَة فِي ذكره؟ قلت: مَعْنَاهُ أَن الَّذِي ينتظرها حَتَّى يُصليهَا مَعَ الإِمَام آخر الْوَقْت أعظم أجرا من الَّذِي يُصليهَا فِي وَقت الِاخْتِيَار وَحده، أَو: الَّذِي ينتظرها حَتَّى يُصليهَا مَعَ الإِمَام أعظم أجرا من الَّذِي يُصليهَا أَيْضا مَعَ الإِمَام بِدُونِ انْتِظَار، أَي: كَمَا أَن بعد الْمَكَان مُؤثر فِي زِيَادَة الْأجر كَذَلِك طول الزَّمَان، لِأَنَّهُمَا يتضمنان لزِيَادَة الْمَشَقَّة الْوَاقِعَة مُقَدّمَة للْجَمَاعَة قلت: قد علم أَن السَّبَب فِي تَحْصِيل هَذَا الْأجر الْعَظِيم انْتِظَار الصَّلَاة وإقامتها مَعَ الإِمَام، فَإِن وجد أَحدهمَا دون الْأُخَر فَلَا يحصل لَهُ ذَلِك، وَيعلم من هَذَا أَيْضا أَن تَأْخِير الصَّلَاة عَن وَقت الِاخْتِيَار لَا يَخْلُو عَن أجر كَمَا فِي تَأْخِير الظّهْر إِلَى أَن) يبرد الْوَقْت عِنْد اشتداد الْحر، وَتَأْخِير الْعَصْر إِلَى مَا قبل تغير قرص الشَّمْس، وَتَأْخِير الْعشَاء إِلَى مَا قبل ثلث اللَّيْل، وَتَأْخِير الصُّبْح إِلَى وَقت الْإِسْفَار.
ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا.
فَإِن قلت: فَمَا فَائِدَة: ثمَّ ينَام؟ قلت: أَشَارَ إِلَى الاسْتِرَاحَة الْمُقَابلَة للْمَشَقَّة الَّتِي فِي ضمن الِانْتِظَار.

وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: الدّلَالَة على فضل الْمَسْجِد الْبعيد لأجل كَثْرَة الخطا، وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك فِي الْبابُُ الَّذِي يَلِي هَذَا الْبابُُ، إِن شَاءَ الله.