فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد في مكانه

( بابٌُ لاَ يُقِيمُ الرَّجُلُ أخَاهُ يَوْمَ الجُمُعَةِ ويَقْعُدُ فِي مَكَانِهِ)

أَي: هَذَا بابُُ تَرْجَمته لَا يُقيم الرجل.
.
إِلَى آخِره.
قَوْله: ( وَيقْعد) يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى أَنه عطف على: لَا يُقيم، أَي: لَا يُقيم أَخَاهُ وَلَا يقْعد مَكَانَهُ، فَيكون كل مِنْهُمَا مَمْنُوعًا.
وَأما النصب فعلى تَقْدِير: وَأَن يقْعد، فَيكون حِينَئِذٍ منعا عَن الْجمع بَين الْإِقَامَة وَالْقعُود، وَيجوز أَن يكون: وَيقْعد، فِي مَحل النصب على الْحَال، فتقديره: وَهُوَ يقْعد، فَيكون مَمْنُوعًا، كَالْأولِ.
فَلَو أَقَامَهُ وَلم يقْعد هُوَ فِي مَكَانَهُ لم يكن مرتكبا للنَّهْي، وَلَو أَقَامَهُ وَقعد غَيره فَالْقِيَاس عَلَيْهِ أَن لَا يرتكب النَّهْي.
فَإِن قلت: لِمَ قيد التَّرْجَمَة بِيَوْم الْجُمُعَة، مَعَ أَن الحَدِيث الَّذِي أوردهُ فِي الْبابُُ مُطلق، والْحَدِيث الَّذِي فِيهِ التَّقْيِيد بِالْجمعَةِ أخرجه مُسلم من طَرِيق أبي الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن جَابر بِلَفْظ: ( لَا يقيمن أحدكُم أَخَاهُ يَوْم الْجُمُعَة، ثمَّ يُخَالف إِلَى مَقْعَده فيقعد فِيهِ، وَلَكِن يَقُول: تَفَسَّحُوا) .
وَكَانَ الْمُنَاسب للتَّرْجَمَة هَذَا الحَدِيث قلت: إِنَّمَا لم يخرج هَذَا الحَدِيث لِأَنَّهُ لَيْسَ على شَرطه، وَلَكِن أَشَارَ بِهَذَا الْقَيْد إِلَى هَذَا الحَدِيث.



[ قــ :884 ... غــ :911 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا مَخْلَد بنُ يَزِيدَ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قالَ سَمِعْتُ نافِعا يقُولُ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يقُولُ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ أخَاهُ مِنْ مَقْعَدِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ.
.

قُلْتُ لِنَافَعٍ الجُمُعَةَ وغَيْرَهَا.

قد ذكرنَا أَن حَدِيث الْبابُُ مُطلق والترجمة مُقَيّدَة بِيَوْم الْجُمُعَة، وأجبنا عَنهُ.
وَأَيْضًا لما كَانَ يَوْم الْجُمُعَة يَوْم ازدحام فَرُبمَا يحْتَاج شخص فِي الْجُلُوس إِلَى مَكَان الْغَيْر، وَأَيْضًا فِيهِ إِشَارَة إِلَى التبكير، فَمن بكر لم يحْتَج إِلَى شَيْء من ذَلِك.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن سَلام، بتَخْفِيف اللَّام: ابْن الْفرج أَبُو عبد الله البُخَارِيّ البيكندي، مَاتَ يَوْم الْأَحَد لتسْع خلون من صفر سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: نَافِع مولى ابْن عمر.
الْخَامِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.

ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين.
وَفِيه: السماع فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع.
وَفِيه: شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده.
وَفِيه: ذكر أَبِيه وَهُوَ رِوَايَة أبي ذَر.
وَفِيه: ذكر أحد الروَاة مَنْسُوبا إِلَى جده وَهُوَ ابْن جريج لِأَنَّهُ هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج.
وَفِيه: أَن الرَّاوِي الأول بخاري وَالثَّانِي حراني وَالثَّالِث مكي وَالرَّابِع مدنِي، والْحَدِيث أخرجه مُسلم، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي الاسْتِئْذَان عَن يحيى بن حبيب.

ذكر مَعْنَاهُ: قد علم أَن قَول الصَّحَابِيّ: نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو قَوْله: أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( أَن يُقيم) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: نهى عَن إِقَامَة الرجل أَخَاهُ.
قَوْله: ( مقعدة) ، بِفَتْح الْمِيم: مَوضِع قعوده.
قَوْله: ( وَيجْلس) بِالنّصب عطفا على قَوْله: ( أَن يُقيم) ، أَي: وَأَن يجلس، وَالْمعْنَى: كل وَاحِد مِنْهُمَا مَنْهِيّ عَنهُ، وَلَو صحت الرِّوَايَة بالرواية بِالرَّفْع لَكَانَ الْكل المجموعي مَنْهِيّا عَنهُ.
قَوْله: ( قلت لنافع: الْجُمُعَة؟) الْقَائِل لنافع هُوَ ابْن جريج، يَعْنِي هَذَا النَّهْي فِي يَوْم الْجُمُعَة خَاصَّة أَو مُطلقًا؟ قَالَ، أَي: نَافِع: الْجُمُعَة وَغَيرهَا، يَعْنِي: النَّهْي عَام فِي حق سَائِر الْأَيَّام فِي مَوَاضِع الصَّلَوَات.
وَقَوله: ( الْجُمُعَة) مَرْفُوع عى أَنه مُبْتَدأ.
وَقَوله: وَغَيرهَا، عطف عَلَيْهِ، وَالْخَبَر مَحْذُوف أَي: الْجُمُعَة وَغَيرهَا متساويان فِي النَّهْي، أَو التَّقْدِير: مَنْهِيّ عَن الْإِقَامَة فيهمَا وَيجوز النصب فيهمَا أَي: فِي الْجُمُعَة وَغَيرهَا، فَيكون النصب بِنَزْع الْخَافِض.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَجه الْكَرَاهَة فِي هَذَا الْبابُُ هُوَ أَنه لَا يفعل إلاّ تكبرا واحتقارا للَّذي يقيمه، قَالَ الله تَعَالَى: { تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا} ( الْقَصَص: 83) .
وَهَذَا من الْفساد، وَأَيْضًا فالإيثار مَمْنُوع فِي الْأَعْمَال الأخروية، وَلِأَن الْمَسْجِد بَيت الله وَالنَّاس فِيهِ سَوَاء فَمن سبق إِلَى مَكَان فَهُوَ أَحَق بِهِ.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: النَّهْي ظَاهر فِي التَّحْرِيم فَلَا يعدل عَنهُ إلاّ بِدَلِيل وَذكر ابْن قدامَة فِي ( الْمُغنِي) فَإِن قدم صاحبا فَجَلَسَ فِي مَوضِع حَتَّى إِذا قَامَ وَأَجْلسهُ مَكَانَهُ جَازَ، فعل ابْن سِيرِين ذَلِك، كَانَ يُرْسل غُلَامه يَوْم الْجُمُعَة فيجلس فِي مَكَان فَإِذا جَاءَ قَامَ الْغُلَام، فَإِن لم يكن لَهُ نَائِب وَجَاء فَقَامَ لَهُ شخص ليجلسه مَكَانَهُ جَازَ، لِأَنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ فَإِن انْتقل الْقَائِم إِلَى مَكَان أقرب لسَمَاع الْخطْبَة فَلَا بَأْس، وَإِن انْتقل إِلَى دونه كره، وَلَو آثر شخصا بمكانه لم يجز لغيره أَن يسْبقهُ إِلَيْهِ لِأَن الْحق للجالس آثر بِهِ غَيره فَقَامَ مقَامه فِي اسْتِحْقَاقه، كَمَا لَو حجر مواتا ثمَّ آثر بِهِ غَيره.
.

     وَقَالَ  ابْن عقيل: يجوز، لِأَن الْقَائِم أسقط حَقه فَبَقيَ على الأَصْل، وَإِن فرش مُصَلَّاهُ فِي مَكَان فَفِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا يجوز رَفعه وَالْجُلُوس فِي مَوْضِعه لِأَنَّهُ لَا حُرْمَة لَهُ، وَلِأَن السَّبق بالأجسام لَا بالمصلى.
وَالثَّانِي: لَا يجوز لِأَنَّهُ رُبمَا يُفْضِي إِلَى الْخُصُومَة، وَلِأَنَّهُ سبق إِلَيْهِ فَصَارَ كحجر الْموَات.
.

     وَقَالَ  القَاضِي أَبُو الطّيب من الشَّافِعِيَّة: تجوز إِقَامَة الرجل من مَكَانَهُ فِي ثَلَاث صور: وَهُوَ أَن يقْعد فِي مَوضِع الإِمَام، أَو فِي طَرِيق يمْنَع النَّاس من الْمُرُور فِيهِ، أَو بَين يَدي الصَّفّ مُسْتَقْبل الْقبْلَة.