فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب خطبة الإمام في الكسوف

(بابُُ خُطْبَةِ الإمامِ فِي الكُسُوفِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان خطْبَة الإِمَام فِي كسوف الشَّمْس.

وقالَتْ عائِشَةُ وأسْمَاءُ خطَبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: خطب فِي الْكُسُوف، أما تَعْلِيق عَائِشَة فقد أخرجه فِي بابُُ الصَّدَقَة فِي الْكُسُوف، وَقد مضى عَن قريب، وَفِيه: وَقد تجلت الشَّمْس وخطب النَّاس، وَأما تَعْلِيق أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أُخْت عَائِشَة لأَبِيهَا، فَسَيَأْتِي بعد أحد عشر بابُُا فِي: بابُُ قَول الإِمَام فِي خطْبَة الْكُسُوف: أما بعد.



[ قــ :1013 ... غــ :1046 ]
- حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَرٍ قَالَ حدَّثني اللَّيْثُ عنْ عُقَيْل عنِ ابنِ شهَابٍ ح وحدَّثني أحْمَدُ بنُ صَالِحٍ قَالَ حدَّثنا عَنْبَسةُ قَالَ حدَّثنا يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ حدَّثني عُرْوَةُ عَنْ عائِشَةَ زَوْجِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخَرَجَ إلَى المَسْجِدِ فصَفَّ النَّاسُ وَرَاءَهُ فكَبَّرَ فَاقْتَرَأَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قِرَاءَةً طوِيلَةً ثُمَّ كَبَّرَ فرَكَعَ رُكُوعا طَوِيلاً ثُمَّ قالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فقامَ ولَمْ يَسْجُدْ وقَرَأ قِرَاءَةً طَوِيلةً هِيَ أدْنَى مِنَ القِرَاءَةِ الأولَى ثُمَّ كَبَّرَ ورَكَعَ رُكُوعا طَوِيلاً وَهْوَ أدْنَى مِنَ الرُّكُوعِ ثُمَّ الأول قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ ربَّنَا ولكَ الحَمْدُ ثُمَّ سجَدَ ثُمَّ قَالَ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِثْلَ ذالِكَ فَاسْتَكْمَلَ أرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي أرْبَعِ سَجَدَاتٍ وانْجَلَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أنْ يَنْصَرِفَ ثُمَّ قامَ فأثْنَى عَلَى الله بِمَا هُوَ أهْلُهُ ثُمَّ قَالَ هُمَا آيَتَانِ منْ آيَاتِ الله لاَ يَخْسِفَانِ لِموْتِ أحَدٍ ولاَ لِحَيَاتِهِ فَإذَا رأيْتُمُوهما فافْزَعُوا إلَى الصَّلاةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ثمَّ قَامَ فَأثْنى على الله بِمَا هُوَ أَهله) ، لِأَن الْقيام وَالثنَاء على الله فِيهِ هُوَ الْخطْبَة.

ذكر رِجَاله: وهم تِسْعَة، لِأَنَّهُ رَوَاهُ من طَرِيقين: الأول: يحيى بن بكير، هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة أَبُو زَكَرِيَّا المَخْزُومِي الْمصْرِيّ.
الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد الْمصْرِيّ.
الثَّالِث: عقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد الْمصْرِيّ.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الْخَامِس: أَحْمد بن صَالح أَبُو جَعْفَر الْمصْرِيّ.
السَّادِس: عَنْبَسَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا سين مُهْملَة مَفْتُوحَة: ابْن خَالِد بن يزِيد الْأَيْلِي، مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة.
السَّابِع: يُونُس بن يزِيد بن مسكان أَبُو يزِيد الْأَيْلِي، مَاتَ سنة بضع وَخمسين وَمِائَة.
الثَّامِن: عُرْوَة بن الزبير.
التَّاسِع: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد كَذَلِك فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن أَحْمد بن صَالح من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
وَفِيه: أَن رُوَاته مصريون مَا خلا ابْن شهَاب وَعُرْوَة، فَإِنَّهُمَا مدنيان.
وَفِيه: رِوَايَة الشَّخْص عَن عَمه، وَهُوَ: عَنْبَسَة عَن يُونُس.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد الله بن الْمُبَارك.
وَأخرجه مُسلم فِي الْكُسُوف عَن حَرْمَلَة بن يحيى وَأبي الطَّاهِر بن السَّرْح وَمُحَمّد بن سَلمَة، ثَلَاثَتهمْ عَن ابْن وهب عَن يُونُس بِهِ.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أبي الطَّاهِر وَابْن سَلمَة بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي الطَّاهِر بِهِ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَصف النَّاس) بِرَفْع النَّاس لِأَنَّهُ فَاعل صف، يُقَال: صف الْقَوْم إِذا صَارُوا صفا، وَيجوز نصب النَّاس وَالْفَاعِل مَحْذُوف أَي: فَصف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، النَّاس وَرَاءه.
قَوْله: (ثمَّ قَالَ فِي الرَّكْعَة الْأَخِيرَة) أَي: فعل، وَهُوَ إِطْلَاق القَوْل على الْفِعْل، وَالْعرب تفعل هَذَا كثيرا.
قَوْله: (ثمَّ قَامَ فَأثْنى على الله تَعَالَى) يَعْنِي: قَامَ لأجل الْخطْبَة فَخَطب.
قَوْله: (فافزعوا) ، بِفَتْح الزَّاي، أَي: التجئوا وتوجهوا إِلَيْهَا.
أَو: اسْتَعِينُوا بهَا على دفع الْأَمر الْحَادِث من: بابُُ: فزع بِالْكَسْرِ يفزع بِالْفَتْح فَزعًا، والفزع فِي الأَصْل: الْخَوْف، فَوضع مَوضِع الإغاثة والنصر لِأَن من شَأْنه الإغاثة وَالدَّفْع.
قَوْله: (إِلَى الصَّلَاة) قَالَ بَعضهم: أَي الْمَعْهُودَة الْحَاصِل، وَهِي الَّتِي تقدم فعلهَا مِنْهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قبل الْخطْبَة، وَلم يصب من اسْتدلَّ بِهِ على مُطلق الصَّلَاة.
قلت: الَّذِي اسْتدلَّ بِهِ على مُطلق الصَّلَاة هُوَ الْمسيب لِأَن الْمَذْكُور هُوَ الصَّلَاة فَإِذا ذكرت مُطلقَة ينْصَرف إِلَى الصَّلَاة الْمَعْهُودَة فِيمَا بَينهم الَّتِي يصلونها على الصّفة الْمَعْهُودَة، وَلَا تذْهب أذهان النَّاس إلاّ إِلَى ذَلِك، وَالْعجب من غير الْمُصِيب يرد كَلَام الْمُصِيب.

ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: وَقد مر أَكثر ذَلِك.
فِيهِ: فعل صَلَاة الْكُسُوف فِي الْمَسْجِد دون الصَّحرَاء وَإِن كَانَ يجوز فعلهَا فِي الصَّحرَاء، وَلَعَلَّ كَونهَا فِي الْمَسْجِد هَهُنَا لخوف الْفَوْت بالانجلاء،.

     وَقَالَ  الْقَدُورِيّ: كَانَ أَبُو حنيفَة يرى صَلَاة الْكُسُوف فِي الْمَسْجِد وَالْأَفْضَل فِي الْجَامِع.
وَفِي (شرح الطَّحَاوِيّ) : صَلَاة الْكُسُوف فِي الْمَسْجِد الْجَامِع أَو فِي مصلى الْعِيد، وَعند مَالك: تصلى فِيهِ دون الصَّحرَاء.
.

     وَقَالَ  ابْن حبيب: هُوَ مُخَيّر، وَحكي عَن أصبغ: وَصوب بعض أهل الْعلم الْمَسْجِد فِي الْمصر الْكَبِير للْمَشَقَّة، وَخَوف الْفَوْت دون الصَّغِير.
وَفِيه: الْخطْبَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهَا مستقصىً.
وَفِيه: تَقْدِيم الإِمَام على الْمَأْمُوم، وَهُوَ من قَوْله: (فَصف النَّاس وَرَاءه) ، وَفِيه: الْمُبَادرَة إِلَى الْمَأْمُور بِهِ والمسارعة إِلَى فعله.
وَفِيه: الالتجاء إِلَى الله تَعَالَى عِنْد المخاوف بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَار لِأَنَّهُ سَبَب لمحو مَا فرط مِنْهُ من الْعِصْيَان.
وَفِيه: أَن الذُّنُوب سَبَب لوُقُوع البلايا والعقوبات العاجلة والآجلة.

وكانَ يُحَدِّثُ كَثِيرُ بنُ عَبَّاسٍ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا كانَ يُحَدِّثُ يَوْمَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ بِمِثْلِ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ إنَّ أخاكَ يَوْمَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ بِالمَدِينَةِ لَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ مِثْلَ الصُّبْحِ قالَ أجَلْ لأِنَّهُ أخْطَأ السُّنَّةَ
قَوْله: (كَانَ يحدث كثير بن عَبَّاس) وَهُوَ مقول الزُّهْرِيّ عطفا على قَوْله: (حَدثنِي عُرْوَة) .
وَقَوله: (كثير) ، بِالرَّفْع: اسْم كَانَ وَخَبره.
قَوْله: (يحدث) ، مقدما، وَقد وَقع صَرِيحًا فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق الزبيدِيّ عَن الزُّهْرِيّ بِلَفْظ (قَالَ: كثير ابْن الْعَبَّاس يحدث أَن ابْن عَبَّاس كَانَ يحدث عَن صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم كسفت الشَّمْس، مثل مَا حدث عُرْوَة عَن عَائِشَة) .
وَحَدِيث عُرْوَة عَن عَائِشَة هُوَ مَا روى عُرْوَة عَنْهَا (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جهر فِي صَلَاة الخسوف بقرَاءَته، فصلى أَربع ركوعات فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبع سَجدَات) .
قَالَ الزُّهْرِيّ: وَأَخْبرنِي كثير بن عَبَّاس عَن ابْن عَبَّاس (عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه صلى أَربع ركوعات فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبع سَجدَات.
.
) إِلَى هُنَا لفظ مُسلم.
قَوْله: (فَقلت) الْقَائِل هُوَ الزُّهْرِيّ.
قَوْله: (أَن أَخَاك) يَعْنِي: عبد الله بن الزبير.
قَوْله: (مثل الصُّبْح) ، أَي: مثل صَلَاة الصُّبْح فِي الْعدَد والهيئة.
قَوْله: (قَالَ: أجل) أَي: قَالَ عُرْوَة: نعم صلى كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان، فَقَالَ: أجل كَذَلِك صنع (لِأَنَّهُ إخطأ السّنة) أَي: لِأَن عبد الله بن الزبير أَخطَأ السّنة، لِأَن السّنة هِيَ أَن تصلي فِي كل رَكْعَة ركوعان.
.

     وَقَالَ : بَعضهم: وَتعقب بِأَن عُرْوَة تَابِعِيّ وَعبد الله صَحَابِيّ فالأخذ بِفِعْلِهِ أولى.
ثمَّ أجَاب: بِمَا حَاصله: إِن مَا صنعه عبد الله يتَأَدَّى بِهِ أصل السّنة، وَإِن كَانَ فِيهِ تَقْصِير بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَمَال السّنة، وَيحْتَمل أَن يكون عبد الله أَخطَأ السّنة من غير قصد لِأَنَّهَا لم تبلغه.
قلت: وَقد قُلْنَا فِي أول أَبْوَاب الْكُسُوف: إِن عُرْوَة أَحَق بالْخَطَأ من عبد الله الصاحب الَّذِي عمل بِمَا علم، وَعُرْوَة أنكر مَا لَا يعلم، وَلَا نسلم أَنَّهَا لم تبلغه لاحْتِمَال أَنه بلغه من أبي بكرَة أَو من غَيره مَعَ بُلُوغ حَدِيث عَائِشَة إِيَّاه، فَاخْتَارَ حَدِيث أبي بكرَة لموافقته الْقيَاس، فَإِذا لَا يُقَال فِيهِ: إِنَّه أَخطَأ السّنة.
وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.