فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب سجود المسلمين مع المشركين والمشرك نجس ليس له وضوء

(بابُُ سُجُودِ المُسْلِمِينَ مَعَ المُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكُ نَجِسٌ لَيْسَ لَهُ وُضُوءٌ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان سُجُود الْمُسلمين مَعَ الْمُشْركين.
قَوْله: (والمشرك نجس) ، أَي: وَالْحَال أَن الْمُشرك نجس.
بِكَسْر الْجِيم وَفتحهَا،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: ضبطناه بِالْفَتْح،.

     وَقَالَ : الْقَزاز إِذا قَالُوهُ مَعَ الرجس اتَّبعُوهُ إِيَّاه، قَالُوا: رِجْس نجس، بِكَسْر النُّون وَسُكُون الْجِيم، وَالنَّجس، فِي اللُّغَة: كل مستقذر
وكانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ
هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، بِحَذْف: غير، وَهَذَا هُوَ اللَّائِق بِحَالهِ لِأَنَّهُ لم يُوَافق ابْن عمر أحد على جَوَاز السُّجُود بِغَيْر وضوء إلاّ الشّعبِيّ، وَلَكِن الْأَصَح: على غير وضوء، لما روى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق عبيد بن الْحسن عَن رجل زعم أَنه كنفسه عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: (كَانَ ابْن عمر ينزل عَن رَاحِلَته فيهريق المَاء ثمَّ يركب فَيقْرَأ السَّجْدَة فَيسْجد وَمَا يتَوَضَّأ) ، وَذكر ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن زَكَرِيَّا (عَن الشّعبِيّ فِي الرجل يقْرَأ السَّجْدَة وَهُوَ على غير وضوء، فَكَانَ يسْجد) .
وروى أَيْضا: حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن الْأَعْمَش عَن عَطاء (عَن أبي عبد الرَّحْمَن، قَالَ: كَانَ يقْرَأ السَّجْدَة وَهُوَ على غير وضوء، وَهُوَ على غير الْقبْلَة، وَهُوَ يمشي فيومىء بِرَأْسِهِ إِيمَاء ثمَّ يسلم) .
فَإِن قلت: روى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن اللَّيْث عَن نَافِع (عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: لَا يسْجد الرجل إلاّ وَهُوَ طَاهِر) .
قلت: وفْق بَينهمَا بِأَن حمل قَوْله: (طَاهِر) ، على الطَّهَارَة الْكُبْرَى، أَو يكون هَذَا على حَالَة الِاخْتِيَار، وَذَلِكَ على حَالَة الضَّرُورَة،.

     وَقَالَ  ابْن بطال مُعْتَرضًا على البُخَارِيّ فِي هَذِه التَّرْجَمَة: إِن أَرَادَ الِاحْتِجَاج على قَول ابْن عمر بسجود الْمُشْركين فَلَا حجَّة فِيهِ، لِأَن سجودهم لم يكن على وَجه الْعِبَادَة لله تَعَالَى، وَإِنَّمَا كَانَ لما ألْقى الشَّيْطَان على لِسَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تِلْكَ الغرانيق العلى، وَإِن شفاعتهم ترتجى، بعد قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} (النَّجْم: 91 و 02) .
فسجدوا لما سمعُوا من تَعْظِيم آلِهَتهم، فَلَمَّا علم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا ألْقى على لِسَانه حزن لَهُ فَأنْزل الله تَسْلِيَة عَمَّا عرض لَهُ (وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته) أَي إِذا تَلا ألْقى الشَّيْطَان فِي تِلَاوَته، فَلَا يستنبط من سجودهم جَوَاز السُّجُود على غير الْوضُوء، لِأَن الْمُشرك نجس لَا يَصح لَهُ الْوضُوء وَلَا السُّجُود إلاّ بعد عقد الْإِسْلَام، وَإِن أَرَادَ الرَّد على ابْن عمر.
بقوله: (والمشرك نجس) ، لَيْسَ لَهُ وضوء فَهُوَ أشبه بِالصَّوَابِ، وَأجَاب ابْن رشيد بِأَن مَقْصُود البُخَارِيّ تَأْكِيد مَشْرُوعِيَّة السُّجُود بِأَن الْمُشرك قد أقرّ على السُّجُود، وسمى الصَّحَابِيّ فعله سجودا مَعَ عدم أَهْلِيَّته، فالمتأهل لذَلِك أَحْرَى بِأَن يسْجد على كل حَال وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود أَن الَّذِي مَا سجد عُوقِبَ بِأَن قتل كَافِرًا، فَلَعَلَّ جَمِيع من وفْق للسُّجُود يَوْمئِذٍ ختم لَهُ بِالْحُسْنَى، فَأسلم ببركة السُّجُود.
انْتهى.

قلت: فِيهِ بحث من وُجُوه:
الأول: أَن تقريرهم على السُّجُود لم يكن لاعْتِبَار سجودهم، وَإِنَّمَا كَانَ طَمَعا لإسلامهم.

الثَّانِي: أَن تَسْمِيَة الصَّحَابِيّ فعلهم سجودا بِالنّظرِ إِلَى الصُّورَة مَعَ علمه بِأَن سجودهم كلا سُجُود، لِأَن السُّجُود طَاعَة وَالطَّاعَة مَوْقُوفَة على الْإِيمَان.

الثَّالِث: أَن قَوْله: وَلَعَلَّ جَمِيع من وفْق إِلَى آخِره ظن وتخمين، فَلَا يبتنى عَلَيْهِ حكم، ثمَّ الَّذِي قَالَه ابْن بطال: إِنَّمَا كَانَ لما ألْقى الشَّيْطَان على لِسَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
.
إِلَى آخِره، مَوْجُود فِي كثير من التفاسير، ذكرُوا أَنه لما قَرَأَ سُورَة النَّجْم، وَوَقع فِي السُّورَة ذكر آلِهَتهم فِي قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} (النَّجْم: 91 و 02) .
وسمعوا ذكر آلِهَتهم فِي الْقُرْآن فَرُبمَا ظنوه أَو بَعضهم أَن ذَلِك مدح لَهَا، وَقيل: إِنَّهُم سمعُوا بعد ذكر آلِهَتهم: تِلْكَ الغرانيق العلى، وَإِن شَفَاعَتهَا لترتجى، فَقيل: إِن بَعضهم هُوَ الْقَائِل لَهَا، أَي: بعض الْمُشْركين، لما ذكر آلِهَتهم خَشوا أَن يذمها، فبدر بَعضهم فَقَالَ ذَلِك، سَمعه من سَمعه وظنوا أَو بَعضهم أَن ذَلِك من قِرَاءَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل إِن إِبْلِيس لَعنه الله هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِك حِين وصل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى هَذِه اللآية فظنوا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِك وَقيل: إِن إِبْلِيس أجْرى ذَلِك على لِسَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا بَاطِل قطعا.
وَمَا كَانَ الله ليسلطه على نبيه وَقد عصمه مِنْهُ وَمن غَيره، وَكَذَلِكَ كَون إِبْلِيس قَالَهَا وَشبه صَوته بِصَوْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَاطِل أَيْضا، وَإِذا كَانَ لَا يَسْتَطِيع أَن يتشبه بِهِ فِي النّوم كَمَا أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك فِي الحَدِيث الصَّحِيح، وَهُوَ قَوْله: (من رَآنِي فِي الْمَنَام فقد رَآنِي فَإِن الشَّيْطَان لَا يتشبه بِي وَلَا يتَمَثَّل بِي) .
فَإِذا كَانَ لَا يقدر على التَّشَبُّه بِهِ فِي الْمَنَام من الرَّائِي لَهُ، والنائم لَيْسَ فِي مَحل التَّكْلِيف والضبط، فَكيف يتشبه بِهِ فِي حَالَة إستيقاظ من يسمع قِرَاءَته؟ هَذَا من الْمحَال الَّذِي لَا يقبله قلب مُؤمن، وَهَذَا الحَدِيث الَّذِي ذكر فِيهِ ذكر ذَلِك أَكثر طرقه مُنْقَطِعَة معلولة، وَلم يُوجد لَهَا إِسْنَاد صَحِيح وَلَا مُتَّصِل إلاّ من ثَلَاثَة طرق.
أَحدهَا: مَا رَوَاهُ الْبَزَّار فِي مُسْنده قَالَ: حَدثنَا يُوسُف بن حَمَّاد حَدثنَا أُميَّة بن خَالِد حَدثنَا شُعْبَة عَن أبي بشر عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس فِيمَا أَحسب، أَشك فِي الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ بِمَكَّة فَقَرَأَ سُورَة النَّجْم حَتَّى انْتهى إِلَى {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} (النَّجْم: 91 و 02) .
فَجرى على لِسَانه: تِلْكَ الغرانيق العلى الشَّفَاعَة مِنْهُم ترتجى، قَالَ: فَسمع ذَلِك مشركو أهل مَكَّة فسروا بذلك، فَاشْتَدَّ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إلاّ إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته فَينْسَخ الله مَا يلقِي الشَّيْطَان ثمَّ يحكم الله آيَاته} (الْحَج: 25) .
ثمَّ قَالَ الْبَزَّار: وَلَا نعلمهُ يرْوى بِإِسْنَاد مُتَّصِل يجوز ذكره، وَلم يسْندهُ عَن شُعْبَة إلاّ أُميَّة بن خَالِد، وَغَيره يُرْسِلهُ عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: وَإِنَّمَا يعرف هَذَا من حَدِيث الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي تَفْسِير أبي بكر بن مرْدَوَيْه عَن سعيد بن جُبَير: لَا أعلمهُ إلاّ عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَرَأَ النَّجْم فَلَمَّا بلغ: {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} (النَّجْم: 91 و 02) .
ألْقى الشَّيْطَان على لِسَانه: تِلْكَ الغرانيق العلى وشفاعتها ترتجى، فَلَمَّا بلغ آخرهَا سجد وَسجد مَعَه الْمُسلمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إلاّ إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته} (الْحَج: 25) .
إِلَى قَوْله: {عَذَاب يَوْم عقيم} (الْحَج: 55) .
قَالَ يَوْم بدر.
وَالطَّرِيق الثَّانِي رِوَايَة مُحَمَّد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس.
وَالطَّرِيق الثَّالِث: مَا رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي (تَفْسِيره) قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن كَامِل حَدثنَا مُحَمَّد بن سعيد حَدثنِي أبي حَدثنَا عمي حَدثنَا أبي عَن أَبِيه (عَن ابْن عَبَّاس قَوْله: {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} (النَّجْم: 91 و 02) .
قَالَ: بَيْنَمَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي أنزلت عَلَيْهِ آلِهَة الْعَرَب، فَسمع الْمُشْركُونَ يتلوها، وَقَالُوا إِنَّه يذكر آلِهَتنَا بِخَير، فدنوا فَبَيْنَمَا هُوَ يتلوها ألْقى الشَّيْطَان: تِلْكَ الغرانيق العلى مِنْهَا الشَّفَاعَة ترتجى، فعلق يتلوها، فَنزل جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، فنسخها ثمَّ قَالَ: {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي.
.
} (الْحَج: 25) .
الْآيَة، وَظَاهر هَذِه الرِّوَايَة الثَّالِثَة أَن الْآيَة أنزلت عَلَيْهِ فِي الصَّلَاة، وَأَنه تَلا مَا أنزل عَلَيْهِ، وَأَن الشَّيْطَان ألْقى عَلَيْهِ هَذِه الزِّيَادَة، وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علق يتلوها يظنّ أَنَّهَا أنزلت وَأَنه اشْتبهَ عَلَيْهِ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَان بِوَحْي الْملك إِلَيْهِ، وَهَذَا أَيْضا مُمْتَنع فِي حَقه أَن يدْخل عَلَيْهِ فِيمَا حَقه الْبَلَاغ، وَكَيف يشْتَبه عَلَيْهِ مزج الذَّم بالمدح، فآخر الْكَلَام وَهُوَ قَوْله: {ألكم الذّكر وَله الْأُنْثَى} (النَّجْم: 12) .
الْآيَات رد لما أَلْقَاهُ الشَّيْطَان على زعمهم، وَجَمِيع هَذِه المسانيد الثَّلَاثَة لَا يحْتَج بِشَيْء مِنْهَا: أما الْإِسْنَاد الأول: وَإِن كَانَ رِجَاله ثِقَات فَإِن الرَّاوِي شكّ فِيهِ كَمَا أخبر عَن نَفسه، فإمَّا شكّ فِي رَفعه، فَيكون مَوْقُوفا.
وَفِي وَصله فَيكون مُرْسلا، وَكِلَاهُمَا لَيْسَ بِحجَّة خُصُوصا فِيمَا فِيهِ قدح فِي حق الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، بل لَو جزم الثِّقَة بِرَفْعِهِ وَوَصله حملناه على الْغَلَط وَالوهم، وَأما الْإِسْنَاد الثَّانِي: فَإِن مُحَمَّد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ ضَعِيف بالِاتِّفَاقِ، مَنْسُوب إِلَى الْكَذِب، وَقد فسر الْكَلْبِيّ فِي رِوَايَته الغرانقة العلى: بِالْمَلَائِكَةِ، لَا بآلهة الْمُشْركين، كَمَا يَقُولُونَ: إِن الْمَلَائِكَة بَنَات الله، وكذبوا على الله فَرد الله ذَلِك عَلَيْهِم بقوله: {ألكم الذّكر وَله الْأُنْثَى} (النَّجْم: 12) .
فعلى هَذَا فَلَعَلَّهُ كَانَ قُرْآنًا ثمَّ نسخ لتوهم الْمُشْركين بذلك مدح آلِهَتهم.
وَأما الْإِسْنَاد الثَّالِث: فَإِن مُحَمَّد بن سعد هُوَ الْعَوْفِيّ، وَهُوَ ابْن سعد بن مُحَمَّد بن الْحسن ابْن عَطِيَّة الْعَوْفِيّ، تكلم فِيهِ الْخَطِيب، فَقَالَ: كَانَ لينًا فِي الحَدِيث، وَأَبوهُ سعد بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عَطِيَّة، قَالَ فِيهِ أَحْمد: لم يكن مِمَّن يستأهل أَن يكْتب عَنهُ، وَلَا كَانَ موضعا لذَلِك، وَعم أَبِيه: هُوَ الْحُسَيْن بن الْحسن بن عَطِيَّة، ضعفه ابْن معِين وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَغَيرهم، وَالْحسن بن عَطِيَّة ضعفه البُخَارِيّ وَأَبُو حَاتِم، وَهَذِه سلسلة ضعفاء، وَلَعَلَّ عَطِيَّة الْعَوْفِيّ سَمعه من الْكَلْبِيّ فَإِنَّهُ كَانَ يروي عَنهُ ويكنيه بِأبي سعيد لضَعْفه، ويوهم أَنه: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ.
.

     وَقَالَ  عِيَاض: هَذَا حَدِيث لم يُخرجهُ أحد من أهل الصِّحَّة.
وَلَا رُوَاة ثِقَة بِسَنَد سليم مُتَّصِل، وَإِنَّمَا أولع بِهِ وبمثله الْمُفَسِّرُونَ، والمؤرخون المولعون بِكُل قريب، المتلقنون من الصُّحُف كل صَحِيح وَسَقِيم.
قلت: الْأَمر كَذَلِك، فَإِن غَالب هَؤُلَاءِ مثل الطرقية وَالْقصاص وَلَيْسَ عِنْدهم تَمْيِيز، يخبطون خبط عشواء، ويمشون فِي ظلمَة ظلماء، وَكَيف يُقَال مثل هَذَا وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على عصمَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونزاهته عَن مثل هَذِه الرذيلة؟ وَلَو وَقعت هَذِه الْقِصَّة لوجدت قُرَيْش على الْمُسلمين بهَا الصولة، ولأقامت عَلَيْهِم الْيَهُود بهَا الْحجَّة، كَمَا علم من عَادَة الْمُنَافِقين وعناد الْمُشْركين، كَمَا وَقع فِي قصَّة الْإِسْرَاء حَتَّى كَانَت فِي ذَلِك لبَعض الضُّعَفَاء ردة.



[ قــ :1035 ... غــ :1071 ]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ عِكْرِمَة عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَجَدَ بِالنَّجْمِ وسَجَدَ مَعَهُ المُسْلِمُونَ وَالمُشْرِكُونَ وَالجِنُّ والإنْسُ.

(الحَدِيث 1701 طرفه فِي: 2684) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد تقدمُوا غير مرّة، وَعبد الْوَارِث بن سعيد وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن أبي معمر، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الصَّلَاة عَن هَارُون بن عبد الله بن الْبَزَّار عَن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث عَن أَبِيه بِهِ،.

     وَقَالَ : حسن صَحِيح.

قَوْله: (سجد بِالنَّجْمِ) زَاد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من هَذَا الْوَجْه: بِمَكَّة، وَيُسْتَفَاد من ذَلِك أَن قصَّة ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود متحدة.
قَوْله: (وَسجد مَعَه الْمُسلمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنّ وَالْإِنْس) قَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّه مَحْمُول على من كَانَ حَاضرا.
قلت: يُعَكر عَلَيْهِ أَن الْألف وَاللَّام فِي الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين أبطلت الجمعية، صَارَت لاستغراق الْجِنْس وَكَذَلِكَ الْألف وَاللَّام فِي: الْجِنّ والأنس، للاستغراق، فَيشْمَل الْحَاضِر وَالْغَائِب، حَتَّى روى الْبَزَّار: (عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتبت عِنْده سُورَة النَّجْم،.
فَلَمَّا بلغ السَّجْدَة سجد وسجدنا مَعَه، وسجدت الدواة والقلم) ، وَإِسْنَاده صَحِيح.
وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (سجد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بآخر النَّجْم وَالْجِنّ وَالْإِنْس وَالشَّجر) فَإِن قلت: من أَيْن علم الرَّاوِي أَن الْجِنّ سجدوا؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: إِمَّا بِإِخْبَار النَّبِي ... صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ، وَإِمَّا بِإِزَالَة الله تَعَالَى الْحجاب.
قلت: قَالَ شَيخنَا زين الدّين: الظَّاهِر أَن الحَدِيث من مَرَاسِيل ابْن عَبَّاس عَن الصَّحَابَة، فَإِنَّهُ لم يشْهد تِلْكَ الْقِصَّة، خُصُوصا إِن كَانَت قبل فرض الصَّلَاة، كَمَا تقدم فِي حَدِيث مخرمَة، ومراسيل الصَّحَابَة مَقْبُولَة على الصَّحِيح، وَالظَّاهِر أَن ابْن عَبَّاس سَمعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحدث بِهِ،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: لفظ الْإِنْس مُكَرر، بل لفظ الْجِنّ أَيْضا لِأَنَّهُ إِجْمَال بعد تَفْصِيل نَحْو: {تِلْكَ عشرَة كَامِلَة} (الْبَقَرَة: 691) .
.

     وَقَالَ  أَيْضا: فَإِن قلت: لِمَ سجد الْمُشْركُونَ وهم لَا يَعْتَقِدُونَ الْقُرْآن (قلت) قيل لأَنهم سمعُوا أَسمَاء أصنامهم حَيْثُ قَالَ {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى قَالَ القَاضِي عِيَاض كَانَ سَبَب سجودهم فِيمَا قَالَ ابْن مَسْعُود، أَنَّهَا أول سَجْدَة نزلت قلت: اسْتشْكل هَذَا بِأَن: إقرأ باسم رَبك، أول السُّور نزولاً، وفيهَا أَيْضا سَجْدَة، فَهِيَ سَابِقَة على النَّجْم.
وَأجِيب: بِأَن السَّابِق من إقرأ أَولهَا، وَأما بقيتها فَنزلت بعد ذَلِك، بِدَلِيل قصَّة أبي جهل فِي نَهْيه للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الصَّلَاة، أَو المُرَاد: أول سُورَة استعلن بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والنجم، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: احْتج بِهَذَا الحَدِيث أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَعبد الله بن وهب وَابْن حبيب الْمَالِكِي على أَن سُورَة النَّجْم فِيهَا سَجْدَة،.

     وَقَالَ  سعيد بن جُبَير وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَعِكْرِمَة وطاووس وَمَالك: لَيْسَ فِي سُورَة النَّجْم سَجْدَة، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْآتِي فِي الْبابُُ الَّذِي يَلِي هَذَا الْبابُُ، وَسَنذكر الْجَواب عِنْد ذكره، وَرُوِيَ فِي هَذَا الْبابُُ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة.
مِنْهُم: أَبُو هُرَيْرَة رَوَاهُ عَنهُ أَحْمد.

     وَقَالَ : (سجد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمسلمون فِي النَّجْم إلاّ رجلَيْنِ من قُرَيْش أَرَادَا بذلك الشُّهْرَة) .
وَرِجَال إِسْنَاده ثِقَات.
وَمِنْهُم: أَبُو الدَّرْدَاء أخرج حَدِيثه التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة أم الدَّرْدَاء عَنهُ.
قَالَ: سجدت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِحْدَى عشرَة سَجْدَة، مِنْهَا الَّتِي فِي النَّجْم.
وَمِنْهُم: عبد الله بن عمر، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة مُصعب بن ثَابت عَن نَافِع (عَن ابْن عمر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ: والنجم، بِمَكَّة فَسجدَ وَسجد النَّاس مَعَه حَتَّى إِن الرجل ليرْفَع إِلَى جَبينه شَيْئا من الأَرْض فَيسْجد عَلَيْهِ، وَحَتَّى يسْجد على الرجل) ، وَمصْعَب بن ثَابت مُخْتَلف فِيهِ، ضعفه أَحْمد وَابْن معِين وَوَثَّقَهُ ابْن أبي حبَان،.

     وَقَالَ  أَبُو حَاتِم: صَدُوق كثير الْغَلَط.
وَمِنْهُم: الْمطلب بن أبي ودَاعَة، أخرج النَّسَائِيّ حَدِيثه بِإِسْنَاد صَحِيح من رِوَايَة ابْنه جَعْفَر بن الْمطلب عَنهُ، قَالَ: (قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة سُورَة النَّجْم فَسجدَ وَسجد من مَعَه، فَرفعت رَأْسِي وأبيت أَن أَسجد) ، وَلم يكن يَوْمئِذٍ أسلم الْمطلب.
وَمِنْهُم: عَمْرو بن الْعَاصِ، أخرج حَدِيثه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من رِوَايَة عبد الله بن نمير عَنهُ (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقرأه خمس عشرَة سَجْدَة فِي الْقُرْآن، مِنْهَا ثَلَاث فِي الْمفصل) .
وَمِنْهُم: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أخرج حَدِيثهَا الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن بشير عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة قَالَت: قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّجْمِ، فَلَمَّا بلغ السَّجْدَة سجد) .
وَعبد الرَّحْمَن بن بشير مُنكر الحَدِيث.
وَمِنْهُم: عَمْرو الجني، أخرج حَدِيثه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من رِوَايَة عُثْمَان بن صَالح، قَالَ: حَدثنِي عَمْرو الجني قَالَ: (كنت عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَرَأَ سُورَة النَّجْم فَسجدَ فِيهَا) .
قَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَعُثْمَان بن أبي صَالح شيخ البُخَارِيّ لم يدْرك أحدا من الصَّحَابَة، فَإِنَّهُ توفّي سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ، إلاّ أَنه ذكر أَن عمرا هَذَا من الْجِنّ، وَقد نسبه أَبُو مُوسَى فِي (ذيله) : من الصَّحَابَة عَمْرو بن طلق،.

     وَقَالَ  الذَّهَبِيّ: عَمْرو الجني، قيل: هُوَ ابْن طلق، أوردهُ أَبُو مُوسَى،.

     وَقَالَ : وَالْعجب أَنهم يذكرُونَ الْجِنّ من الصَّحَابَة وَلَا يذكرُونَ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل؟ قلت: لِأَن الْجِنّ آمنُوا برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ مُرْسل إِلَيْهِم، وَالْمَلَائِكَة ينزلون بالرسالة إِلَى الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ: أَن رُؤْيَة الْإِنْس للجن لَا تنكر، وَأنْكرت الْمُعْتَزلَة رُؤْيَة الْإِنْس للجن، وَاسْتدلَّ بَعضهم بقوله تَعَالَى: {إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم} (الْأَعْرَاف: 72) .
مَعَ قَوْله: {إلاّ إِبْلِيس كَانَ من الْجِنّ} (فصلت: 05) .
وَأجَاب أهل السّنة بِأَن هَذَا خرج مخرج الْغَالِب فِي عدم رُؤْيَة الْإِنْس الْجِنّ أَو الشَّيَاطِين، وَقد ثَبت فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة رُؤْيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشَّيْطَان الَّذِي أَرَادَ أَن يقطع عَلَيْهِ صلَاته، وَأَنه خنقه حَتَّى وجد برد لِسَانه، وَأَنه قَالَ: (لَوْلَا دَعْوَة سُلَيْمَان لربطته إِلَى سَارِيَة من سواري الْمَسْجِد) الحَدِيث، وَثَبت فِي الصَّحِيح رُؤْيَة أبي هُرَيْرَة لَهُ لما دخل ليَسْرِق تمر الصَّدَقَة، وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي هُرَيْرَة: (تَدْرِي من تخاطب مُنْذُ ثَلَاث؟).

     وَقَالَ  فِيهِ: (صدقك وَهُوَ كذوب) ، لَكِن أَبَا هُرَيْرَة رَآهُ فِي صُورَة مِسْكين على هَيْئَة الْإِنْس، وَهُوَ دَال على أَن الشَّيَاطِين وَالْجِنّ يتشكلون فِي غير صورهم، كَمَا تتشكل الْمَلَائِكَة فِي هَيْئَة الْآدَمِيّين، وَقد نَص الله فِي كِتَابه على عمل الْجِنّ لِسُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ومخاطبتهم لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالَ عفريت من الْجِنّ: أَنا آتِيك بِهِ.
} (النَّمْل: 93) .
الْآيَة، وَمثل هَذَا لَا يُنكر مَعَ تَصْرِيح الْقُرْآن بذلك وَثُبُوت الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.

وَرَوَاهُ ابنُ طُهْمَانَ عنْ أيُّوبَ

أَي: روى هَذَا الحَدِيث إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، بِفَتْح الطَّاء وَسُكُون الْهَاء وبالنون، وَقد مر فِي: بابُُ تَعْلِيق الْقنْدِيل فِي الْمَسْجِد، رَوَاهُ عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، وَأخرج الْإِسْمَاعِيلِيّ مُتَابَعَته من حَدِيث حَفْص عَنهُ.