فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل من نومه، وما نسخ من قيام الليل

(بابُُ قِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاللَّيلِ وَنَوْمِهِ وَمَا نُسْخَ مِنْ قِيامِ اللَّيْلِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان قيام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: صلَاته بِاللَّيْلِ.
قَوْله: (من نَومه) وَفِي بعض النّسخ: (ونومه) ، بواو الْعَطف.
قَوْله: (وَمَا نسخ) أَي: بابُُ أَيْضا فِي بَيَان مَا نسخ من قيام اللَّيْل.

وقَوْلِهِ تَعَالى: { يَا أيُّهَا المُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً نِصْفُهُ أوُ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أوْ زِدْ عَليهِ ورَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أشَدُّ وِطاءً وَأقْوَمُ قِيلاً إنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحا طَوِيلاً (ع المزمل: 1 7) .
و.

     قَوْلُهُ : { عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرآنِ عَلِمَ أنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فاقْرَؤا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وأقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأقْرِضُوا الله قَرْضا حَسَنا وَمَا تُقَدِّمُوا لأِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله هُوَ خَيْرا وَأعْظَمَ أجْرا وَاسْتَغْفِرُوا الله إنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المزمل: 02) .

وَقَوله: بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: (وَمَا نسخ من قيام اللَّيْل) وَهُوَ إِلَى آخِره دَاخل فِي التَّرْجَمَة.
قَوْله عز وَجل: { يَا أَيهَا المزمل} يَعْنِي: الملتف فِي ثِيَابه، وَأَصله المتزمل، وَهُوَ الَّذِي يتزمل فِي الثِّيَاب، وكل من التف فِي ثَوْبه فقد تزمل، قلبت التَّاء زايا وأدغمت الزَّاي فِي الزَّاي، وروى ابْن أبي حَاتِم عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ: { يَا أَيهَا المزمل} أَي: يَا مُحَمَّد قد زملت الْقُرْآن، وقرىء المتزمل على الأَصْل، والمزمل، بتَخْفِيف الزَّاي وَفتح الْمِيم وَكسرهَا، على أَنه اسْم فَاعل، أَو اسْم مفعول من زمله، وَهُوَ الَّذِي زمله غَيره أَو زمل نَفسه، وَكَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نَائِما بِاللَّيْلِ متزملاً فِي قطيفة،، فنبه وَنُودِيَ بهَا.
وَعَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا سُئِلت: مَا كَانَ تزميله؟ قَالَت: كَانَ مِرْطًا طوله أَربع عشرَة ذِرَاعا وَنصفه عَليّ وَأَنا نَائِمَة، وَنصفه عَلَيْهِ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَسُئِلت: مَا كَانَ؟ فَقَالَت: وَالله مَا كَانَ خَزًّا وَلَا قَزًّا وَلَا مرعزا وَلَا إبْريسَمًا وَلَا صُوفًا، وَكَانَ سداه شعرًا وَلحمَته وَبرا، قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ، ثمَّ قَالَ: وَقيل: دخل على خَدِيجَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقد جِئْت فرقا أول مَا أَتَاهُ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وبوادره ترْعد، فَقَالَ: زَمِّلُونِي، وحسبت أَنه عرض لَهُ، فَبَيْنَمَا هوكذلك إِذْ ناداه جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، يَا أَيهَا المزمل.
وَعَن عِكْرِمَة: أَن الْمَعْنى: يَا أَيهَا الَّذِي زمل أمرا عَظِيما، أَي: حمله، والزمل: الْحمل، وازدمله: احتمله.
انْتهى.
وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) أَشَارَ إِلَى أَن القَوْل الأول نِدَاء بِمَا يهجن إِلَيْهِ الْحَالة الَّتِي كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهَا من التزميل فِي قطيفة، واستعداده للاشتغال فِي النّوم، كَمَا يفعل من لَا يهمه أَمر وَلَا يعنيه شَأْن، فَأمر أَن يخْتَار على الهجود والتهجد، وعَلى التزمل التشمر، والتخفف لِلْعِبَادَةِ والمجاهدة فِي الله عز وَجل، فَلَا جرم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد تشمر لذَلِك مَعَ أَصْحَابه حق التشمر، وَأَقْبلُوا على إحْيَاء لياليهم، ورفضوا لَهُ الرقاد والدعاة وَجَاهدُوا فِيهِ حَتَّى انتفخت أَقْدَامهم، واصفرت ألوانهم، وَظَهَرت السيماء فِي وُجُوههم، وترقى أَمرهم إِلَى حد رَحِمهم لَهُ رَبهم، فَخفف عَنْهُم.
وَأَشَارَ إِلَى أَن القَوْل الثَّانِي: وَهُوَ قَوْله: وَعَن عَائِشَة، لَيْسَ بتهجين بل هُوَ ثَنَاء عَلَيْهِ وتحسين لحالته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَأمره أَن يَدُوم على ذَلِك.
قَوْله: { قُم اللَّيْل إلاَّ قَلِيلا} أَي: مِنْهُ، قَالَ أَبُو بكر الأدفوي: للْعُلَمَاء فِيهِ أَقْوَال: الأول: أَنه لَيْسَ بِفَرْض، يدل على ذَلِك أَن بعده: { نصفه أَو انقص مِنْهُ قَلِيلا أَو زد عَلَيْهِ} وَلَيْسَ كَذَلِك يكون الْفَرْض، وَإِنَّمَا هُوَ ندب.
وَالثَّانِي: أَنه هُوَ حتم.
وَالثَّالِث: أَنه فرض على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحده، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ:.

     وَقَالَ  الْحسن وَابْن سِيرِين: صَلَاة اللَّيْل فَرِيضَة على كل مُسلم، وَلَو قدر حلب شَاة.
.

     وَقَالَ  إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق: قَالَا ذَلِك لقَوْله تَعَالَى: { فاقرأوا مَا تيَسّر مِنْهُ} ،.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي، رَحمَه الله: سَمِعت بعض الْعلمَاء يَقُول: إِن الله تَعَالَى أنزل فرضا فِي الصَّلَاة قبل فرض الصَّلَوَات الْخمس، فَقَالَ: { يَا أَيهَا المزمل قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا} الْآيَة، ثمَّ نسخ هَذَا بقوله: { فاقرأوا مَا تيَسّر مِنْهُ} ثمَّ احْتمل قَوْله: { فاقرأوا مَا تيَسّر مِنْهُ} أَن يكون فرضا ثَانِيًا، لقَوْله تَعَالَى: { وَمن اللَّيْل فتهجد بِهِ نَافِلَة لَك} (الْإِسْرَاء: 97) .
فَوَجَبَ طلب الدَّلِيل من السّنة على أحد الْمَعْنيين، فوجدن سنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَا وَاجِب من الصَّلَوَات إلاّ الْخمس.
قَالَ أَبُو عمر: قَول بعض التَّابِعين: قيام اللَّيْل فرض وَلَو قدر حلب شَاة، قَول شَاذ مَتْرُوك لإِجْمَاع الْعلمَاء أَن قيام اللَّيْل نسخ بقوله: { علم إِن لن تحصوه.
.
}
الْآيَة.
وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث عَائِشَة: افْترض الْقيام فِي أول هَذِه الصُّورَة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى أَصْحَابه حولا حَتَّى انتفخت أَقْدَامهم، وَأمْسك الله خاتمتها إثني عشر شهرا، ثمَّ نزل التَّخْفِيف فِي آخرهَا، فَصَارَ قيام اللَّيْل تَطَوّعا بعد أَن كَانَ فَرِيضَة، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَزيد بن أسلم وَآخَرين، فِيمَا حكى عَنْهُم النّحاس، وَفِي (تَفْسِير ابْن عَبَّاس) : { قُم اللَّيْل} يَعْنِي: قُم اللَّيْل كُله إلاّ قَلِيلا مِنْهُ، فَاشْتَدَّ ذَلِك على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعَلى أَصْحَابه وَقَامُوا اللَّيْل كُله وَلم يعرفوا مَا حد الْقَلِيل، فَأنْزل الله تَعَالَى: { نصفه أَو انقص مِنْهُ قَلِيلا} فَاشْتَدَّ ذَلِك أَيْضا على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعَلى أَصْحَابه فَقَامُوا اللَّيْل كُله حَتَّى انتفخت أَقْدَامهم، وَذَلِكَ قبل الصَّلَوَات الْخمس، فَفَعَلُوا ذَلِك سنة، فَأنْزل الله تَعَالَى ناسختها فَقَالَ: { علم أَن لن تحصوه} يَعْنِي: قيام اللَّيْل من الثُّلُث وَالنّصف، وَكَانَ هَذَا قبل أَن تفرض الصَّلَوَات الْخمس، فَلَمَّا فرضت الْخمس نسخت هَذِه كَمَا نسخت الزَّكَاة كل صَدَقَة، وَصَوْم رَمَضَان كل صَوْم، وَفِي (تَفْسِير ابْن الْجَوْزِيّ) : كَانَ الرجل يسهر طول اللَّيْل مَخَافَة أَن يقصر فِيمَا أَمر بِهِ من قيام ثُلثي اللَّيْل أَو نصفه أَو ثلثه، فشق عَلَيْهِم ذَلِك، فَخفف الله عَنْهُم بعد سنة، وَنسخ وجوب التَّقْدِير بقوله: { علم أَن لن تحصوه فَتَابَ عَلَيْكُم فاقرؤا مَا تيَسّر مِنْهُ} أَي: صلوا مَا تيَسّر من الصَّلَاة، وَلَو قدر حلب شَاة، ثمَّ نسخ وجوب قيام اللَّيْل بالصلوات الْخمس بعد سنة أُخْرَى، فَكَانَ بَين الْوُجُوب وَالتَّخْفِيف سنة، وَبَين الْوُجُوب والنسخ بِالْكُلِّيَّةِ سنتَانِ.

ثمَّ إِعْرَاب قَوْله تَعَالَى: { قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا} على مَا قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ: { نصفه} بدل { من اللَّيْل} و { إِلَّا قَلِيلا} اسْتثِْنَاء من النّصْف، كَأَنَّهُ قَالَ: قُم أقل من نصف اللَّيْل وَالضَّمِير فِي { مِنْهُ} و { عَلَيْهِ} لِلنِّصْفِ، وَالْمعْنَى التَّخْيِير بَين أَمريْن: بَين أَن يقوم أقل من نصف اللَّيْل على الْبَتّ، وَبَين أَن يخْتَار أحد الْأَمريْنِ، وهما النُّقْصَان من النّصْف وَالزِّيَادَة عَلَيْهِ، وَإِن شِئْت جعلت: نصفه، بَدَلا من: قَلِيلا، وَكَانَ تخييرا بَين ثَلَاث: بَين قيام النّصْف بِتَمَامِهِ، وَبَين النَّاقِص، وَبَين قيام الزَّائِد عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وصف النّصْف بالقلة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكل.

قَوْله: { ورتل الْقُرْآن ترتيلاً} يَعْنِي ترسل فِيهِ.
.

     وَقَالَ  الْحسن: بَينه، إِذا قرأته.
.

     وَقَالَ  الضَّحَّاك: إقرأ حرفا حرفا، وروى مُسلم من حَدِيث حَفْصَة: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يرتل السُّورَة حَتَّى تكون أطول من أطول مِنْهَا، وَعَن مُجَاهِد: رتل بعضه على إِثْر بعض على تؤدة، وَعَن ابْن عَبَّاس: بَينه بَيَانا، وَعنهُ: إقرأه على هينتك ثَلَاث آيَات وأربعا وخمسا،.

     وَقَالَ  قَتَادَة: تثبت فِيهِ تثبتا، وَقيل: فَصله تَفْصِيلًا وَلَا تعجل فِي قِرَاءَته.
.

     وَقَالَ  أَبُو بكر بن طَاهِر: تدبر فِي لطائف خطابه، وطالب نَفسك بِالْقيامِ بأحكامه، وقلبك بفهم مَعَانِيه، وسرك بالإقبال عَلَيْهِ.
قَوْله: { إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلاً} أَي: الْقُرْآن يثقل الله فَرَائِضه وحدوده، وَيُقَال: هُوَ ثقيل على من خَالفه، وَيُقَال: هُوَ ثقيل فِي الْمِيزَان، خَفِيف على اللِّسَان، وَيُقَال: إِن نُزُوله ثقيل كَمَا قَالَ: { لَو أنزلنَا هَذَا الْقُرْآن على جبل} (الْحَشْر: 12) .
الْآيَة،.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: يَعْنِي بالْقَوْل الثقيل: الْقُرْآن وَمَا فِيهِ من الْأَوَامِر والنواهي الَّتِي هِيَ تكاليف شاقة ثَقيلَة على الْمُكَلّفين، خَاصَّة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ متحملها بِنَفسِهِ ومحملها لأمته، فَهِيَ أثقل عَلَيْهِ وأنهض لَهُ.
قَوْله: { إِن ناشئة اللَّيْل} قَالَ السَّمرقَنْدِي: يَعْنِي سَاعَات اللَّيْل، وَهِي مَأْخُوذَة من: نشأت أَي: ابتدأت شَيْئا بعد شَيْء، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِن سَاعَات اللَّيْل الناشئة فَاكْتفى بِالْوَصْفِ عَن الِاسْم.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: ناشئة اللَّيْل النَّفس الناشئة بِاللَّيْلِ الَّتِي تنشأ من مضجعها إِلَى الْعِبَادَة، أَي: تنهض وترفع من نشأت السَّحَاب إِذا ارْتَفَعت، وَنَشَأ من مَكَانَهُ وَنشر إِذا نَهَضَ، أَو: قيام اللَّيْل، على أَن الناشئة مصدر من نَشأ إِذا أَقَامَ ونهض على فاعلة كالعاقبة.
قَوْله: { هِيَ أَشد وطأ} قَالَ السَّمرقَنْدِي: يَعْنِي: أثقل على الْمُصَلِّي من سَاعَات النَّهَار، فَأخْبر أَن الثَّوَاب على قدر الشدَّة، قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن عَامر: أَشد وطاء، بِكَسْر الْوَاو وَمد الْألف، وَالْبَاقُونَ بِنصب الْوَاو بِغَيْر مد، فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ يَعْنِي: أَشد مواطاة، أَي: مُوَافقَة بِالْقَلْبِ والسمع، يَعْنِي: أَن الْقِرَاءَة فِي اللَّيْل يتواطأ فِيهَا قلب الْمُصَلِّي وَلسَانه وسَمعه على التفهم، وَمن قَرَأَ بِالنّصب أبلغ فِي الْقيام وَأبين فِي القَوْل.
قَوْله: { وأقوم قيلا} يَعْنِي: أثبت للْقِرَاءَة، وَعَن الْحسن: أبلغ فِي الْخَبَر وَأَمْنَع من هَذَا الْعَدو.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: أقوم قيلاً.
أَشد مقَالا وَأثبت قِرَاءَة لهدوِّ الْأَصْوَات.
وَعَن أنس: أَنه قَرَأَ: وأصوب قيلاً د فَقيل لَهُ: يَا أَبَا حَمْزَة إِنَّمَا هِيَ أقوم قيلاً.
فَقَالَ: إِن أقوم وأهيأ وَاحِد.
وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : أقوم قيلاً، أصح قولا وَأَشد استقامة وصوابا بالفراغ الْقلب، وَقيل: أعجل إِجَابَة للدُّعَاء.
قَوْله: { إِن لَك فِي النَّهَار سبحا طَويلا} قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: سبحا: تَصرفا وتقلبا فِي مهماتك وشواغلك،.

     وَقَالَ  السَّمرقَنْدِي: سبحا فراغا طَويلا تقضي حوائجك فِيهِ، ففرغ نَفسك لصَلَاة اللَّيْل.
وَعَن السّديّ: سبحا طَويلا أَي: تَطَوّعا كثيرا كَأَنَّهُ جعله من السبحة، وَهِي النَّافِلَة.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: أما الْقِرَاءَة بِالْخَاءِ فاستعارة من: سبخ الصُّوف، وَهُوَ نفشه وَنشر أَجْزَائِهِ لانتشار الْهم وتفرق الْقلب بالشواغل، كلفه بِقِيَام اللَّيْل، ثمَّ ذكر الْحِكْمَة فِيمَا كلفه مِنْهُ، وَهُوَ: أَن اللَّيْل أَهْون على المواطأة وَأَشد للْقِرَاءَة لهدوِّ الرجل وخفوت الصَّوْت، وَأَنه أجمع للقلب وأهم لنشر الْهم من النَّهَار، لِأَنَّهُ وَقت تَفْرِيق الهموم وتوزع الخواطر والتقلب فِي حوائج المعاش والمعاد.
قَوْله: { علم أَن لن تحصوه} هَذَا مُرْتَبِط بِمَا قبله، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: { إِن رَبك يعلم أَنَّك تقوم أدنى من ثُلثي اللَّيْل وَنصفه وَثلثه وَطَائِفَة من الَّذين مَعَك وَالله يقدر اللَّيْل وَالنَّهَار علم أَن لن تحصوه} أَي: علم الله أَن لن تُطِيقُوا قيام اللَّيْل، وَقيل: الضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى مصدر مُقَدّر، أَي: علم أَن لَا يَصح مِنْكُم ضبط الْأَوْقَات، وَلَا يَتَأَتَّى حِسَابهَا بالتعديل والتسوية إلاّ أَن تَأْخُذُوا بالأوسع للِاحْتِيَاط، وَذَلِكَ شاق عَلَيْكُم بَالغ مِنْكُم.
قَوْله: { فَتَابَ عَلَيْكُم} عبارَة عَن الترخيص فِي ترك الْقيام الْمُقدر.
قَوْله: { فاقرأوا مَا تيَسّر} قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: عبر عَن الصَّلَاة بِالْقِرَاءَةِ، لِأَنَّهَا بعض أَرْكَانهَا، كَمَا عبر عَنْهَا بِالْقيامِ وَالرُّكُوع وَالسُّجُود، يُرِيد: فصلوا مَا تيَسّر عَلَيْكُم من صَلَاة اللَّيْل، وَهَذَا نَاسخ للْأولِ، ثمَّ نسخا جَمِيعًا بالصلوات الْخمس، وَقيل: هِيَ قِرَاءَة الْقُرْآن بِعَينهَا.
قيل: يقْرَأ مائَة آيَة، وَمن قَرَأَ مائَة آيَة فِي لَيْلَة لم يحاجه الْقُرْآن.
وَقيل: من قَرَأَ مائَة آيَة كتب من القانتين.
وَقيل: خمسين آيَة، وَقد بَين الْحِكْمَة فِي النّسخ بقوله: { علم أَن سَيكون مِنْكُم مرضى} لَا يقدرُونَ على قيام اللَّيْل { وَآخَرُونَ يضْربُونَ فِي الأَرْض} يَعْنِي: يسافرون فِي الأَرْض { يَبْتَغُونَ من فضل الله} يَعْنِي: فِي طلب الْمَعيشَة يطْلبُونَ الرزق من الله تَعَالَى: { وَآخَرُونَ يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله} يَعْنِي: يجاهدون فِي طَاعَة الله تَعَالَى.
قَوْله: { فاقرأوا مَا تيَسّر مِنْهُ} أَي: من الْقُرْآن.
قيل: فِي صَلَاة الْمغرب وَالْعشَاء.
قَوْله: { وَأقِيمُوا الصَّلَاة} أَي: الصَّلَاة الْمَفْرُوضَة.
{ وَآتوا الزَّكَاة} الْوَاجِبَة، وَقيل: زَكَاة الْفطر، وَإِنَّمَا وَجَبت بعد ذَلِك، وَمن فَسرهَا بِالزَّكَاةِ الْوَاجِبَة جعل آخر السُّورَة مدنيا.
قَوْله: { وأقرضوا الله قرضا حسنا} قيل: يُرِيد سَائِر الصَّدقَات المستحبة، وَسَماهُ قرضا تَأْكِيدًا للجزاء.
وَقيل: تصدقوا من أَمْوَالكُم بنية خَالِصَة من مَال حَلَال.
قَوْله: { وَمَا تقدمُوا لأنفسكم من خير} يَعْنِي: مَا تَعْمَلُونَ من الْأَعْمَال الصَّالِحَة وتتصدقون بنية خَالِصَة { تَجِدُوهُ عِنْد الله} يَعْنِي: تَجِدُونَ ثَوَابه فِي الْآخِرَة.
قَوْله: (هُوَ خيرا}
ثَانِي مفعولي: وجد، وَهُوَ فصل، وَجَاز وَإِن لم يَقع بَين معرفتين، لِأَن أفعل من أشبه فِي امْتِنَاعه من حُرُوف التَّعْرِيف بالمعرفة.
قَوْله: { وَاسْتَغْفرُوا الله} يَعْنِي: أطلبوا من الله لذنوبكم الْمَغْفِرَة، وَقيل: اسْتَغْفرُوا الله من تَقْصِير وذنب وَقع مِنْكُم.
{ إِن الله غَفُور} لمن تَابَ { رَحِيم} لمن اسْتغْفر.

قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا نَشَأَ قامَ بالحَبَشِيَّة

هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ عبد بن حميد الْكَجِّي فِي (تَفْسِيره) بِسَنَد صَحِيح عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق عَن سعيد بن جُبَير (عَن ابْن عَبَّاس: { إِن ناشئة اللَّيْل} (المزمل: 6) .
قَالَ هُوَ بِكَلَام الحبشية: نَشأ قَامَ) .
وأنبأنا عبد الْملك بن عَمْرو عَن رَافع ابْن عَمْرو عَن ابْن أبي مليكَة: (سُئِلَ ابْن عَبَّاس عَن قَوْله تَعَالَى: { إِن ناشئة اللَّيْل} (المزمل: 6) .
فَقَالَ أَي اللَّيْل قُمْت فقد أنشأت) وَفِي عبد أَيْضا: عَن أبي ميسرَة، قَالَ: هُوَ كَلَام الْحَبَشَة: نَشأ قَامَ، وَعَن أبي مَالك: قيام اللَّيْل بِلِسَان الْحَبَشَة: ناشئة، وَعَن قَتَادَة وَالْحسن وَأبي مجلز: كل شَيْء بعد الْعشَاء: ناشئة،.

     وَقَالَ  مُجَاهِد: إِذا قُمْت من اللَّيْل تصلي فَهِيَ ناشئة، وَفِي رِوَايَة: أَي سَاعَة تهجد فِيهَا.
.

     وَقَالَ  مُعَاوِيَة بن قُرَّة: هِيَ قيام اللَّيْل.
وَعَن عَاصِم: ناشئة اللَّيْل، مَهْمُوزَة الْيَاء، وَفِي (الْمجَاز) لأبي عُبَيْدَة: ناشئة اللَّيْل ناشئة بعد ناشئة.
وَفِي (الْمُنْتَهى) لأبي الْمَعَالِي: ناشئة اللَّيْل: أول ساعاته.
وَيُقَال: أول مَا ينشأ من اللَّيْل من الطَّاعَات هِيَ النشيئة.
وَفِي (الْمُحكم) : الناشئة أول النَّهَار وَاللَّيْل.
وَقيل: الناشئة إِذا نمت من أول اللَّيْل نومَة، ثمَّ قُمْت، وَفِي (كتاب الْهَرَوِيّ) : كل مَا حدث بِاللَّيْلِ وبدا فَهُوَ ناشىء، وَقد نَشأ وَالْجمع: ناشئة.

وَاخْتلف الْعلمَاء، هَل فِي الْقُرْآن شَيْء بِغَيْر الْعَرَبيَّة؟ فَذهب بَعضهم، إِلَى أَن غير الْعَرَبيَّة مَوْجُود فِي الْقُرْآن: كسجيل وفردوس وناشئة، وَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه لَيْسَ الْقُرْآن شَيْء بِغَيْر الْعَرَبيَّة، وَقَالُوا: مَا ورد من ذَلِك فَهُوَ من توَافق اللغتين، فعلى هَذَا لفظ، ناشئة، إِمَّا مصدر على وزن: فاعلة، كعاقبة من نَشأ إِذا قَامَ، أَو هُوَ: اسْم فَاعل، صفة لمَحْذُوف تَقْدِيره: النَّفس الناشئة، كَمَا نقلنا عَن الزَّمَخْشَرِيّ عَن قريب.

وِطَاءً قَالَ مُوَاطأةَ القُرآنِ أشَدُّ مُوَافَقَةً لِسَمْعِهِ وبَصَرِهِ وقَلْبِهِ لِيُوَاطِؤُا لِيُوَافِقُوا
وَفِي بعض النّسخ: وطاءً قَالَ مواطأة أَي: قَالَ البُخَارِيّ: معنى: وطأ مواطأة لِلْقُرْآنِ، وَفِي بعض النّسخ: مواطأة لِلْقُرْآنِ يَعْنِي: إِن ناشئة اللَّيْل، هُوَ أَشد مواطاة لِلْقُرْآنِ، وَهَذَا التَّعْلِيق أَيْضا وَصله عبد بن حميد من طَرِيق مُجَاهِد.
.

     وَقَالَ  أَشد وطاء، أَي: يُوَافق سَمعك وبصرك وقلبك بعضه بَعْضًا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
قَوْله: (ليواطؤا ليوافقوا) هَذَا من تَفْسِير بَرَاءَة من قَوْله تَعَالَى: { يحلونه عَاما ويحرمونه عَاما ليواطؤا عدَّة مَا حرم الله} (التَّوْبَة: 73) .
الْآيَة، وَذكر أَن مَعْنَاهُ: ليوافقوا، وَإِنَّمَا ذكره هَهُنَا تَأْكِيدًا لتفسيره: وطاء، وَقد وَصله الطَّبَرِيّ عَن ابْن عَبَّاس، لَكِن بِلَفْظ: (ليشابهوا) .



[ قــ :1102 ... غــ :1141 ]
- عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني محَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ حُمَيْدٍ أنَّهُ سَمِعَ أنسا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَقُولُ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنُّ أنْ لَا يَصُومَ مِنْهُ شَيْئا ويَصُومُ حَتَّى نَظُنُّ أنْ لاَ يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئا وكانَ لاَ تَشَاءُ أنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَليا إلاَّ رَأيْتَهُ نائِما إلاَّ رَأيْتَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَكَانَ لإنشاء أَن ترَاهُ من اللَّيْل مُصَليا إلاّ رَأَيْته) ، وَهُوَ قيام اللَّيْل.

ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: عبد الْعَزِيز عبد الله بن يحيى أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي العامري.
الثَّانِي: مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي كثير ضد الْقَلِيل مر فِي كتاب الْحيض.
الثَّالِث: حميد، بِضَم الْحَاء: ابْن أبي حميد الطَّوِيل.
الرَّابِع: أنس بن مَالك.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: السماع.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين مَاضِيا ومضارعا.
وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده، وَهُوَ وَمُحَمّد بن جَعْفَر مدنيان، وَحميد بَصرِي.

وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّوْم عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بِهِ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن لَا يَصُوم مِنْهُ) ، كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة فِي مَحل النصب على أَنه مفعول: يظنّ، قَوْله: (مِنْهُ شَيْئا) ، أَي: من الشَّهْر شَيْئا من الصَّوْم، وَلَفظه: شَيْئا، فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَأبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا لَيْسَ فِيهِ هَذَا اللَّفْظ.
قَوْله: (وَكَانَ) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: (وَلَا نَائِما) أَي: وَلَا تشَاء أَن ترَاهُ من اللَّيْل نَائِما إلاّ رَأَيْته نَائِما.

وَالَّذِي يُسْتَفَاد من هَذَا الحَدِيث: أَن صلَاته ونومه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخْتَلف بِاللَّيْلِ، وَلَا يَتَرَتَّب وقتا معينا بل بِحَسب مَا تيَسّر لَهُ الْقيام.
فَإِن قلت: يُعَارضهُ حَدِيث عَائِشَة: (كَانَ إِذا سمع الصَّارِخ قَامَ) .
قلت: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أخْبرت بِحَسب مَا اطَّلَعت عَلَيْهِ، لِأَن صَلَاة اللَّيْل غَالِبا كَانَت تقع مِنْهُ فِي الْبَيْت، وَخبر أنس مَحْمُول على مَا وَرَاء ذَلِك.

تابَعَهُ سُلَيْمَانُ وأبُو خالِدٍ الأحْمَرُ عنْ حُمَيْدٍ

أَي: تَابع مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن حميد سُلَيْمَان ذكر خلف أَنه ابْن بِلَال أَبُو أَيُّوب، وَيُقَال: أَبُو مُحَمَّد الْقرشِي التَّيْمِيّ وَلَاء.
قَوْله: (وَأَبُو خَالِد) عطف عَلَيْهِ، أَي: وتابع مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن حميد أَبُو خَالِد سُلَيْمَان بن حبَان الملقب بالأحمر، وَهَكَذَا وَقع فِي جَمِيع النّسخ، بواو الْعَطف،.

     وَقَالَ  بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون سُلَيْمَان هُوَ ابْن بِلَال، وَيحْتَمل أَن تكون الْوَاو زَائِدَة فَإِن أَبَا خالدٍ الْأَحْمَر اسْمه سُلَيْمَان.
قلت: هَذَا كَلَام غير موجه، لِأَن زِيَادَة: وَاو، الْعَطف نادرة، بِخِلَاف الأَصْل، سِيمَا الحكم بذلك بِالِاحْتِمَالِ فَلَا يلْزم من كَون اسْم أبي خَالِد سُلَيْمَان أَن يكون سُلَيْمَان الْمَعْطُوف عَلَيْهِ إِيَّاه.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ: وَأَبُو خَالِد بِالْوَاو، فَلَا بُد أَن يُقَال: سُلَيْمَان الْمَذْكُور غير سُلَيْمَان المكنى بِأبي خَالِد، ولولاه لَكَانَ شخصا وَاحِدًا مَذْكُورا بالإسم والكنية وَالصّفة، أما مُتَابعَة سُلَيْمَان فَقَالَ البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّوْم فِي: بابُُ مَا يذكر من صَوْم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: حَدثنِي عبد الْعَزِيز بن عبد الله، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن حميد (عَن أنس أَن أنسا يَقُول: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفْطر من الشَّهْر) الحَدِيث، وَفِي آخِره قَالَ سُلَيْمَان عَن حميد إِنَّه سَأَلَ أنسا فِي الصَّوْم، وَأما مُتَابعَة أبي خَالِد فقد ذكرهَا البُخَارِيّ فِي كتاب الصّيام، وَنَذْكُر مَا فِيهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.