فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فضل من استبرأ لدينه

( بابُُ فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرأَ لِدِينِهِ)

الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: أَن قَوْله: بابُُ، مَرْفُوع مُضَاف تَقْدِيره: هَذَا بابُُ فضل من اسْتَبْرَأَ، وَكلمَة: من، مَوْصُولَة، و: اسْتَبْرَأَ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَهُوَ الضَّمِير الْمُسْتَتر فِيهِ الرَّاجِع إِلَى: من، صلَة للموصولة.
و: اسْتَبْرَأَ، استفعل، أَي: طلب الْبَرَاءَة لدينِهِ من الذَّم الشَّرْعِيّ، أَي: طلب الْبَرَاءَة من الْإِثْم.
يُقَال: بَرِئت من الدُّيُون والعيوب، وبرئت مِنْك بَرَاءَة، وبرئت من الْمَرَض بُرأ، بِالضَّمِّ، وَأهل الْحجاز يَقُولُونَ: برأت من الْمَرَض برأَ، بِالْفَتْح، وَيَقُول كلهم فِي الْمُسْتَقْبل: يبرأ بِالْفَتْح، وبرأ الله الْخلق برأَ أَيْضا، بِالْفَتْح، وَهُوَ البارىء.
وَفِي ( الْعبابُ) : والتركيب يدل على التباعد عَن الشَّيْء ومزايلته، وعَلى الْخلق.
قَوْله: ( لدينِهِ) أَي لأجل دينه.
النَّوْع الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبابُُ الأول بَيَان الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَالْإِحْسَان، وَإِن ذَلِك كُله دين، وَالْمَذْكُور هَهُنَا الِاسْتِبْرَاء للدّين الَّذِي يَشْمَل الْإِيمَان وَالْإِحْسَان، وَلَا شكّ أَن الِاسْتِبْرَاء للدّين من الدّين.
النَّوْع الثَّالِث: وَجه التَّرْجَمَة وَهُوَ أَنه لما أَرَادَ أَن يذكر حَدِيث النُّعْمَان بن بشير، رَضِي الله عَنهُ، عقيب حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، للمناسبة الَّتِي ذَكرنَاهَا، عقد لَهُ بابُُا.
وَترْجم لَهُ بقوله: فضل من اسْتَبْرَأَ لدينِهِ، وَعين هَذَا اللَّفْظ لعمومه واشتماله سَائِر أَلْفَاظ الحَدِيث، وَإِنَّمَا لم يقل: اسْتَبْرَأَ لعرضه وَدينه، اكْتِفَاء بقوله: دينه، لِأَن الِاسْتِبْرَاء للدّين لَازم للاستبراء للعرض لِأَن الِاسْتِبْرَاء للعرض لأجل الْمُرُوءَة فِي صون عرضه، وَذَلِكَ من الْحيَاء، وَالْحيَاء من الْإِيمَان، فالاستبراء للعرض أَيْضا من الْإِيمَان.



[ قــ :52 ... غــ :52 ]
- حدّثنا أبُو نَعِيْمٍ حدّثنا زَكَرياءُ عَن عامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعمْانَ بنَ بَشِيرٍ يقولُ سَمِعْتُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقولُ الحَلالُ بَيِّنٌ والحَرامُ بَيِّنٌ وَبيْنِهما مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُها كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَات اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضهِ ومَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعِي يَرْعَى حَولَ الحِمى يُوشِكُ أَن يُواقِعَهُ أَلا وإنّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلا إنّ حِمَى اللَّهِ فِي أرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلا وإنّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسدُ كُلُّهُ وَإِذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وهْيَ القَلبُ.

( الحَدِيث 25 طرفه فِي: 2051) .

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ أَنه أَخذ جزأ مِنْهُ وَترْجم بِهِ كَمَا ذكرنَا.

بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو نعيم، بِضَم النُّون، الْفضل، بالضاد الْمُعْجَمَة، ابْن دُكَيْن، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف، وَهُوَ لقب لَهُ، واسْمه عَمْرو ابْن حَمَّاد بن زُهَيْر الْقرشِي التَّيْمِيّ الطلحي الْملَائي، مولى آل طَلْحَة بن عبد الله، وَكَانَ يَبِيع الملاء فَقيل لَهُ: الْملَائي، بِضَم الْمِيم وَالْمدّ.
سمع الْأَعْمَش وَغَيره من الْكِبَار، وَقل من يُشَارِكهُ فِي كَثْرَة الشُّيُوخ، وَعنهُ أَحْمد وَغَيره من الْحفاظ.
قَالَ أَبُو نعيم: شاركت الثَّوْريّ فِي أَرْبَعِينَ شَيخا أَو خمسين شَيخا، وَاتَّفَقُوا على الثَّنَاء عَلَيْهِ، وَوَصفه بِالْحِفْظِ والاتقان.
.

     وَقَالَ  أَيْضا: أدْركْت ثَمَانمِائَة شيخ، مِنْهُم الْأَعْمَش فَمن دونه، فَمَا رَأَيْت أحدا يَقُول بِخلق الْقُرْآن، وَمَا تكلم أحد بِهَذَا إلاَّ رُمِيَ بالزندقة.
وروى البُخَارِيّ عَنهُ بِغَيْر وَاسِطَة، وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه بِوَاسِطَة، ولد سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَمَات سنة ثَمَان، أَو: تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ بِالْكُوفَةِ.
الثَّانِي: زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة، واسْمه: خَالِد بن مَيْمُون الْهَمدَانِي الْكُوفِي، سمع جمعا من التَّابِعين مِنْهُم الشّعبِيّ والسبيعي، وَعنهُ الثَّوْريّ وَشعْبَة وَخلق، وَمَات سنة سبع أَو تسع وَأَرْبَعين وَمِائَة.
قَالَ النَّسَائِيّ: ثِقَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الثَّالِث: عَامر الشّعبِيّ وَقد تقدم ذكره.
الرَّابِع: النُّعْمَان بن بشير، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الشين الْمُعْجَمَة، ابْن سعد بن ثَعْلَبَة بن خلاس، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام، الْأنْصَارِيّ الخزرجي، وَأمه عمْرَة بنت رَوَاحَة أُخْت عبد الله بن رَوَاحَة، ولد بعد أَرْبَعَة عشر شهرا من الْهِجْرَة، وَهُوَ أول مَوْلُود ولد للْأَنْصَار بعد الْهِجْرَة وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ: ولد هُوَ وَعبد الله بن الزبير، رَضِي الله عَنْهُم، فِي الْعَام الثَّانِي من الْهِجْرَة،.

     وَقَالَ  ابْن الزبير: هُوَ أكبر مني، رُوِيَ لَهُ مائَة حَدِيث وَأَرْبَعَة عشر حَدِيثا، قتل فِيمَا بَين دمشق وحمص يَوْم وَاسِط سنة خمس وَسِتِّينَ، وَكَانَ زبيريا،.

     وَقَالَ  عَليّ بن عُثْمَان النُّفَيْلِي، عَن أبي مسْهر: كَانَ النُّعْمَان بن بشير عَاملا على حمص لِابْنِ الزبير، لما تمردت أهل حمص خرج هَارِبا، فَاتبعهُ خَالِد بن حلى الكلَاعِي فَقتله،.

     وَقَالَ  الْمفضل بن غَسَّان الْغلابِي: قتل فِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ بسلمية وَهُوَ صَحَابِيّ ابْن صَحَابِيّ ابْن صحابية، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة من اسْمه النُّعْمَان بن بشير غير هَذَا، فَهُوَ من الْأَفْرَاد، وَمِنْهُم: النُّعْمَان، جماعات فَوق الثَّلَاثِينَ.

بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَالسَّمَاع.
وَمِنْهَا: أَن رِجَاله كلهم كوفيون، وَقد دخل النُّعْمَان الْكُوفَة وَولي إمرتها وَقد روى أَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه من طَرِيق ابْن أبي جرير، بِفَتْح الْحَاء المهمة فِي آخِره زَاي مُعْجمَة، عَن الشّعبِيّ: أَن النُّعْمَان بن بشير خطب بِهِ بِالْكُوفَةِ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: أَنه خطب بِهِ بحمص، والتوفيق بَينهمَا بِأَنَّهُ سمع مرَّتَيْنِ، فَإِن النُّعْمَان ولي إمرة البلدتين وَاحِدَة بعد أُخْرَى.
وَمِنْهَا: أَن هَذَا وَقع للْبُخَارِيّ رباعيا من جِهَة شَيْخه أَبُو نعيم، وَوَقع لَهُ من جِهَة غَيره خماسياً لما سَيَأْتِي، وَوَقع لمُسلم فِي أَعلَى طرقه خماسياً.
وَمِنْهَا أَن فِيهِ التَّصْرِيح.
بِسَمَاع النُّعْمَان بن بشير عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيه رد على من يَقُول: لم يسمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
.

     وَقَالَ  أَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ: قَالَ أهل الْمَدِينَة: لَا يَصح للنعمان سَماع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحَكَاهُ القَاضِي عِيَاض عَن يحيى بن معِين، ويحكى عَن الْوَاقِدِيّ أَيْضا.
.

     وَقَالَ  أهل الْعرَاق: سَمَاعه صَحِيح، وَيدل عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَة مُسلم والإسماعيلي من طَرِيق زَكَرِيَّا، وأهوى النُّعْمَان بإصبعيه إِلَى أُذُنَيْهِ، وَهَذَا تَصْرِيح بِسَمَاعِهِ، وَكَذَا قَول النُّعْمَان: هَهُنَا سَمِعت، وَهُوَ الصَّحِيح.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: المحكي عَن قَول أهل الْمَدِينَة بَاطِل أَو ضَعِيف.
قلت: وَهُوَ مِمَّن تحمل عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَبيا، وَأَدَّاهُ بَالغا وَفِيه دَلِيل على صِحَة تحمل الصَّبِي الْمُمَيز لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاتَ والنعمان ابْن ثَمَان سِنِين.
فَإِن قلت: إِن زَكَرِيَّا مَوْصُوف بالتدليس وَهَهُنَا قد عنعن، وَكَذَا فِي غير هَذِه الرِّوَايَة لَيْسَ لَهُ رِوَايَة عَن الشّعبِيّ، إلاَّ مُعَنْعنًا.
قلت: ذكر فِي فَوَائِد أبي الْهَيْثَم من طَرِيق يزِيد بن هَارُون عَن زَكَرِيَّا قَالَ: حَدثنَا الشّعبِيّ فَحصل الْأَمْن من تدليسه.
فَإِن قلت: قد قَالَ أَبُو عمر: هَذَا الحَدِيث لم يروه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير النُّعْمَان بن بشير، وَلم يروه عَن النُّعْمَان غير الشّعبِيّ.
قلت: أما الأول: فَإِن كَانَ مُرَاده من وَجه صَحِيح فَمُسلم، وَإِن أَرَادَ مُطلقًا فَلَا نسلم، لِأَنَّهُ رُوِيَ من حَدِيث ابْن عمر وعمار وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُم، أخرج حَدِيثهمْ الطَّبَرَانِيّ، وَكَذَا رُوِيَ من حَدِيث وَاثِلَة، أخرجه الْأَصْبَهَانِيّ، وَفِي أسانيدها مقَال.
وَأما الثَّانِي: فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَن النُّعْمَان أَيْضا خَيْثَمَة بن عبد الرَّحْمَن، أخرجه أَحْمد وَعبد الْملك بن عُمَيْر، أخرجه أَبُو عوَانَة وَسَالم بن حَرْب، أخرجه الطَّبَرَانِيّ، وَلكنه مَشْهُور عَن الشّعبِيّ، رَوَاهُ عَنهُ خلق كثير من الْكُوفِيّين، وَرَوَاهُ عَنهُ من الْبَصرِيين عبد الله بن عون، وَقد سَاق البُخَارِيّ إِسْنَاده فِي الْبيُوع على مَا نذكرهُ الْآن، وَلم يسق لَفظه، وَسَاقه أَبُو دَاوُد.

بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن أبي نعيم عَن زَكَرِيَّا عَن عَامر عَنهُ بِهِ، وَأخرجه فِي الْبيُوع عَن عَليّ بن عبد الله، وَعبد الله بن مُحَمَّد، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، كِلَاهُمَا عَن أبي فَرْوَة الْهَمدَانِي، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن ابْن أبي عدي عَن عبد الله بن عون، كِلَاهُمَا عَنهُ بِهِ.
وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن أَبِيه، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن عِيسَى بن يُونُس، ثَلَاثَتهمْ عَن زَكَرِيَّا بِهِ، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير عَن مطرف وَأبي فَرْوَة، وَعَن عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث عَن أَبِيه عَن جده عَن خَالِد بن يزِيد، وَعَن سعيد بن أبي هِلَال عَن عون بن عبد الله بن عتبَة، وَعَن قُتَيْبَة عَن يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عجلَان عَن عبد الرَّحْمَن بن سعيد، أربعتهم عَنهُ بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى عَن عِيسَى بن يُونُس بِهِ، وَعَن أَحْمد بن يُونُس عَن أبي شهَاب الحناط عَن ابْن عون بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبيُوع عَن هناد عَن وَكِيع بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد عَن مجَالد عَنهُ نَحوه،.

     وَقَالَ : حسن صَحِيح، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْبيُوع عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث، وَفِي الْأَشْرِبَة عَن حميد بن مسْعدَة عَن يزِيد بن زُرَيْع، كِلَاهُمَا عَن ابْن عون بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن عَمْرو بن رَافع عَن ابْن الْمُبَارك عَن زَكَرِيَّا بِهِ.

بَيَان اللُّغَات: قَوْله: ( الْحَلَال) هُوَ ضد الْحَرَام وَهُوَ من: حل يحل من بابُُ ضرب يضْرب، وَأما حلَّ بِالْمَكَانِ فَهُوَ من بابُُ: نصر ينصر، ومصدره: حل وحلول وَمحل، وَالْمحل: الْمَكَان الَّذِي تحل فِيهِ، وَمن هَذَا الْبابُُ: حللت الْعقْدَة أحلهَا حلا إِذا فتحتها، وَمن الأول: حل الْمحرم يحل حَلَالا، وَمن الثَّانِي: حل الْعَذَاب يحل، أَي: وَجب، وَأحل الله الشَّيْء: جعله حَلَالا وَأحل الْمحرم من الْإِحْرَام مثل: حل، وأحللنا، دَخَلنَا فِي شهور الْحل، وَأحلت الشَّاة: إِذا نزل اللَّبن فِي ضرْعهَا، والتحليل ضد التَّحْرِيم، تَقول: حللته تحليلاً وتحلة وتحللته إِذا سَأَلته أَن يجعلك فِي حل من قبله، واستحل الشَّيْء عده حَلَالا، وتحلحل عَن مَكَانَهُ إِذا زَالَ.
قَوْله: ( بَين) أَي ظَاهر، من بابُُ: يبين بَيَانا إِذا اتَّضَح، وَهُوَ على وزن: فيعل، إِمَّا بِمَعْنى بَائِن، أَو هُوَ صفة مشبهة.
قَوْله: ( وَالْحرَام) ، هُوَ ضد الْحَلَال، وَكَذَلِكَ الْحَرَام، بِكَسْر الْحَاء، وَرجل حرَام: أَي محرم، وَالتَّحْرِيم ضد التَّحْلِيل، وبابُه من حرم الشَّيْء، بِالضَّمِّ، حُرْمَة.
وَأما حرمه الشَّيْء يحرمه حرما مثل: سَرقه سرقا، بِكَسْر الرَّاء، وحريمة وحرمانا، وأحرمه أَيْضا إِذا مَنعه، وَأما حرم الرجل، بِالْكَسْرِ، يحرم، بِالْفَتْح، إِذا قمر، وأحرمته أَنا إِذا أقمرته، وَيُقَال: حرمت الصَّلَاة على الْمَرْأَة بِالْكَسْرِ، لُغَة فِي حرمت، وَأحرم: دخل فِي الشَّهْر الْحَرَام، وَأحرم أَيْضا بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة.
قَوْله: ( مُشْتَبهَات) جَاءَ فِيهِ خمس رِوَايَات.
الأولى: متشبهات، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، على وزن: مفتعلات، وَهِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه.
الثَّانِيَة: مُشْتَبهَات، بِضَم الْمِيم وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الشين الْمُشَدّدَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الْمَكْسُورَة، على وزن: متفعلات، وَهِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ.
الثَّالِثَة: مشبهات، بِضَم الْمِيم وَفتح الشين وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة الْمُشَدّدَة، على وزن: مفعلات، وَهِي رِوَايَة السَّمرقَنْدِي وَرِوَايَة مُسلم.
الرَّابِعَة: مثلهَا غير أَن باءها مَكْسُورَة، على وزن: مفعلات، على صِيغَة الْفَاعِل.
الْخَامِسَة: مشبهات بِضَم الْمِيم وَسُكُون الشين وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة المخففة؛ وَالْكل من: اشْتبهَ الْأَمر: إِذا لم يَتَّضِح، غير أَن معنى الأولى المشكلات من الْأُمُور، لما فِيهِ من شبه الطَّرفَيْنِ المتخالفين، فَيُشبه مرّة هَذَا وَمرَّة هَذَا، وَكَذَلِكَ معنى الثَّانِيَة غير أَن فِيهِ معنى التَّكَلُّف، وَمعنى الثَّالِثَة أَنَّهَا مشبهات بغَيْرهَا مِمَّا لم يتَيَقَّن فِيهِ حكمهَا على التَّعْيِين، وَيُقَال: مَعْنَاهَا مشبهات بالحلال.
وَمعنى الرَّابِعَة أَنَّهَا مشبهات أَنْفسهَا بالحلال وَمعنى الْخَامِسَة: مثل الرَّابِعَة، غير أَن الأولى من بابُُ التفعيل، وَالثَّانيَِة من بابُُ الْأَفْعَال.
قَالَ القَاضِي: فِي الثَّلَاثَة الأول كلهَا بِمَعْنى: مشكلات، وَيشْتَبه يفتعل، أَي يشكل، وَمِنْه: { أَن الْبَقر تشابه علينا} ( الْبَقَرَة: 70) قَوْله: ( فَمن اتَّقى) أَي: حذر.
( المشتبهات) وَهِي جمع: مشتبهة، وَالِاخْتِلَاف فِي لَفظهَا من الروَاة كَالَّتِي قبلهَا، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم والإسماعيلي: ( فَمن اتَّقى الشُّبُهَات) بِدُونِ الْمِيم، وَهِي جمع شُبْهَة، وَهِي الالتباس.
وأصل: اتَّقى أوتقى، لِأَنَّهُ من وقى يقي وقاية، فقلبت الْوَاو تَاء، وأدغمت التَّاء فِي التَّاء.
قَوْله: ( اسْتَبْرَأَ) ، بِالْهَمْزَةِ، وَقد ذكرنَا مَعْنَاهُ.
قَوْله: ( لعرضه) ، بِكَسْر الْعين، قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: الْعرض مَوضِع الْمَدْح والذم من الْإِنْسَان، ذهب أَبُو الْعَبَّاس إِلَى أَن الْقَائِل إِذا ذكر عرض فلَان فَمَعْنَاه أُمُوره الَّتِي يرْتَفع بهَا أَو يسْقط بذكرها، وَمن جِهَتهَا يحمد ويذم، فَيجوز أَن يكون أمورا يُوصف هُوَ بهَا دون أسلافه، وَيجوز أَن تذكر أسلافه لتلحقه النقيصة بعيبهم، وَلَا يعلم من أهل اللُّغَة خِلَافه إلاَّ مَا قَالَ ابْن قُتَيْبَة، فَإِنَّهُ أنكر أَن يكون الْعرض الأسلاف، وَزعم أَن عرض الرجل نَفسه، يُقَال: أكرمت عَنهُ عرضي، أَي: صنت عَنهُ نَفسِي، و: فلَان نقي الْعرض أَي بَرِيء من أَن يشْتم أَو يعاب، وَقيل: عرض الرجل جَانِبه الَّذِي يصونه فِي نَفسه، وحسبه ويحامي عَنهُ، قَالَ عنترة:
( فَإِذا شربت فإنني مستهلك ... مَالِي، وعرضي وافر لم يكلم)

قَوْله: ( وَمن وَقع فِي الشُّبُهَات) ، بِضَم الشين وَالْبَاء، وفيهَا من اخْتِلَاف الروَاة مَا تقدم.
قَوْله: ( الْحمى) ، بِكَسْر الْحَاء وَفتح الْمِيم المخففة، وَهُوَ مَوضِع حظره الإِمَام لنَفسِهِ وَمنع الْغَيْر عَنهُ،.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: حميته إِذا دفعت عَنهُ، وَهَذَا شَيْء حمي: أَي مَحْظُور: لَا يقرب؛.

     وَقَالَ  بَعضهم: الْحمى المحمي أطلق الْمصدر على اسْم الْمَفْعُول.
قلت: هَذَا لَيْسَ بمصدر بل هُوَ: اسْم مصدر، ومصدر: حمى يحمي حماية.
قَوْله: ( يُوشك) بِكَسْر الشين أَي: يقرب.
قَوْله: ( أَن يُوَافقهُ) أَي يَقع فِيهِ قَوْله: ( مَحَارمه) أَي: مَعَاصيه الَّتِي حرمهَا: كَالْقَتْلِ وَالسَّرِقَة، وَهُوَ جمع محرم، وَهُوَ الْحَرَام، وَمِنْه يُقَال هُوَ ذُو محرم مِنْهَا إِذا لم يحل لَهُ نِكَاحهَا، ومحارم اللَّيْل مخاوفها الَّتِي يحرم على الجبان أَن يسلكها.
قَوْله: ( مُضْغَة) أَي: قِطْعَة من اللَّحْم سميت بذلك لِأَنَّهَا تمضغ فِي الْفَم لصغرها.
قَوْله: ( صلحت) ، بِفَتْح اللَّام وَضمّهَا، وَالْفَتْح أصح، وَفِي ( الْعبابُ) : الصّلاح ضد الْفساد، تَقول: صلح الشَّيْء يصلح صلوحا، مِثَال: دخل يدْخل دُخُولا.
.

     وَقَالَ  الْفراء: حكى أَصْحَابنَا أَيْضا بِضَم اللَّام.
قَوْله: ( فسد) من فسد الشَّيْء يفْسد فَسَادًا وفسودا فَهُوَ فَاسد،.

     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد: فسد يفْسد، مِثَال: قعد يقْعد، لُغَة ضَعِيفَة، وَقوم فسدى، كَمَا قاولوا: سَاقِط وسقطي، وَكَذَلِكَ: فسد، بِضَم السِّين، فَسَادًا فَهُوَ فسيد،.

     وَقَالَ  اللَّيْث: الْفساد ضد الصّلاح، والمفسدة خلاف الْمصلحَة، وَفِي ( الْعبابُ) الْفساد أَخذ المَال بِغَيْر حق، هَكَذَا فسر مُسلم البطين قَوْله تَعَالَى: { للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا} ( الْقَصَص: 83) قَوْله: ( الْقلب) ، وَفِي ( الْعبابُ) : الْقلب: الْفُؤَاد، وَقد يعبر بِهِ عَن الْعقل،.

     وَقَالَ  الْفراء فِي قَوْله تَعَالَى: { إِن فِي ذَلِك لذكرى لمن كَانَ لَهُ قلب} ( ق: 37) أَي: عقل، يُقَال: مَا قَلْبك مَعَك أَي: مَا عقلك.
وَقيل: الْقلب أخص من الْفُؤَاد،.

     وَقَالَ  الْأَصْمَعِي: وَفِي الْبَطن الْفُؤَاد وَهُوَ الْقلب، سمي بِهِ لتقلبه فِي الْأُمُور، وَقيل: لِأَنَّهُ خَالص مَا فِي الْبدن، إِذْ خَالص كل شَيْء قلبه، وَأَصله مصدر قلبت الشَّيْء أقلبه قلبا إِذا رَددته عَليّ بِذَاتِهِ، وقلبت الْإِنَاء رَددته على وَجهه، وقلبت الرجل عَن رَأْيه وَعَن طَرِيقه إِذا صرفته عَنهُ، ثمَّ نقل وسمى بِهِ هَذَا الْعُضْو الشريف لسرعة الخواطر فِيهِ وترددها عَلَيْهِ، وَقد نظم بَعضهم هَذَا الْمَعْنى فَقَالَ:
( مَا سمي الْقلب إلاَّ من تقلبه ... فاحذر على الْقلب من قلب وتحويل)

وَكَانَ مِمَّا يَدْعُو بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبت قلبِي على دينك) .
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ، ثمَّ إِن الْعَرَب لما نقلته لهَذَا الْعُضْو التزمت فِيهِ التفخيم فِي قافه، للْفرق بَينه وَبَين أَصله، وَقد قَالَ بَعضهم: ليحذر اللبيب من سرعَة انقلاب قلبه، إِذْ لَيْسَ بَين الْقلب وَالْقلب إلاَّ التفخيم، وَمَا يَعْقِلهَا إلاَّ كل ذِي فهم مُسْتَقِيم.

بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: ( الْحَلَال) مُبْتَدأ و ( بَين) خَبره، وَكَذَلِكَ ( الْحَرَام بَين) : مُبْتَدأ وَخبر، وَكَذَلِكَ قَوْله: ( وَبَينهمَا مُشْتَبهَات) ، وَلَكِن الْخَبَر هَهُنَا مقدم وَهُوَ الظّرْف.
قَوْله: ( لَا يعلمهَا كثير من النَّاس) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة لقَوْله ( مُشْتَبهَات) .
قَوْله: ( فَمن اتَّقى) ، كلمة: من، مَوْصُولَة مُبْتَدأ، وَقَوله: ( اتَّقى الشُّبُهَات) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَهُوَ الضَّمِير الَّذِي فِي: اتَّقى، الْعَائِد إِلَى: من، وَالْمَفْعُول، وَهُوَ قَوْله: ( الشُّبُهَات) ، صلَة لَهَا، وَقَوله: ( اسْتَبْرَأَ) خَبره، و ( لعرضه) يتَعَلَّق بِهِ.
قَوْله: ( من وَقع) إِلَخ، كلمة من هَهُنَا يجوز أَن تكون شَرْطِيَّة، وَيجوز أَن تكون مَوْصُولَة.
فَإِذا كَانَت شَرْطِيَّة فَقَوله: وَقع فِي الشُّبُهَات، جملَة وَقعت فعل الشَّرْط، وَالْجَوَاب مَحْذُوف تَقْدِيره.
وَمن وَقع فِي الشُّبُهَات وَقع فِي الْحَرَام.
وَهَكَذَا فِي رِوَايَة الدَّارمِيّ عَن أبي نعيم شيخ البُخَارِيّ بِإِظْهَار الْجَواب، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق زَكَرِيَّا الَّتِي أخرجه مِنْهَا البُخَارِيّ.
وَقَوله: ( كرَاع يرْعَى حول الْحمى) جملَة مستأنفة، وَقَوله: كرَاع، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف.
أَي مثله كرَاع أَي مثل رَاع يرْعَى وَقَوله: ( يرْعَى) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل صفة لراع، أَو الْمَفْعُول مَحْذُوف تَقْدِير: كرَاع يرْعَى مواشيه.
وَقَوله: ( حول الْحمى) كَلَام إضافي نصب على الظّرْف.
وَقَوله: ( يُوشك إِن يواقعه) جملَة وَقعت صفة أُخْرَى لراع ويوشك، من أَفعَال المقاربة، وَهُوَ مثل كَاد وَعَسَى فِي الِاسْتِعْمَال: أَعنِي تَارَة يسْتَعْمل اسْتِعْمَال: كَاد، بِأَن يرفع الْفِعْل، وَخَبره فعل مضارع بِغَيْر أَن متأول باسم الْفِعْل، نَحْو: يُوشك زيد يَجِيء، أَي: جائيا، نَحْو: كَاد زيد يَجِيء.
وَتارَة يسْتَعْمل اسْتِعْمَال عَسى، بِأَن يكون فاعلها على نَوْعَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يكون إسما نَحْو: عَسى زيد أَن يخرج، فزيد فَاعل، وَأَن يخرج فِي مَوضِع نصب لِأَنَّهُ يمنزلة: قَارب زيد الْخُرُوج، وَالْآخر: أَن يكون مَعَ صلتها فِي مَوضِع الرّفْع: نَحْو عَسى أَن يخرج زيد، فَيكون إِذْ ذَاك بِمَنْزِلَة قرب أَن يخرج، أَي: خُرُوجه، وَكَذَلِكَ يُوشك زيد أَن يجىء، ويوشك أَن يَجِيء زيد.
وَفِي قَوْله: ( يُوشك) ضمير هُوَ فَاعله.
وَقَوله: ( إِن يواقعه) فِي مَوضِع نصب لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة يُقَارب الرَّاعِي المواقعة فِي الْحمى، وَأَعَادَهُ الْكرْمَانِي إِلَى الْحَرَام، وَمَا قُلْنَا أوجه وأصوب.
وَأما إِذا كَانَت مَوْصُولَة فَتكون مَرْفُوعَة بِالِابْتِدَاءِ، وخبرها هُوَ قَوْله: كرَاع يرْعَى، وَلَا يكون فِيهِ حذف، وَالتَّقْدِير: الَّذِي وَقع فِي الشُّبُهَات كرَاع يرْعَى، أَي: مثل رَاع يرْعَى مواشيه حول الْحمى، وَقَوله: يُوشك اسْتِئْنَاف قَوْله: ( أَلا) بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف اللَّام، وحرف التَّنْبِيه، فَيدل على تحقق مَا بعْدهَا، وَتدْخل على الجملتين نَحْو: { أَلا أَنهم هم السُّفَهَاء} ( الْبَقَرَة: 13) { أَلا يَوْم يَأْتِيهم لَيْسَ مصروفا عَنْهُم} ( هود: 8) .
وإفادتها التَّحْقِيق من جِهَة تركيبها من الْهمزَة، و: لَا وهمزة الِاسْتِفْهَام إِذا دخلت على النَّفْي أفادت التَّحْقِيق نَحْو: { أَلَيْسَ ذَلِك بِقَادِر على أَن يحيي الْمَوْتَى} ( الْقِيَامَة: 40) .

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: ولكونها بِهَذَا المنصب من التَّحْقِيق لَا تقع الْجُمْلَة بعْدهَا إلاَّ مصدرة بِنَحْوِ مَا يتلَقَّى بِهِ الْقسم، نَحْو: { أَلا إِن أَوْلِيَاء الله} ( يُونُس: 62) قَوْله: ( أَلا وَإِن لكل ملك حمى) ، الْوَاو فِيهِ عطف على مُقَدّر تَقْدِيره: أَلا إِن الْأَمر كَمَا تقدم، وَإِن لكل ملك حمى.
وَقَوله: ( حمى) نصب لِأَنَّهُ اسْم إِن، وخبرها هُوَ قَوْله: ( لكل ملك) مقدما.
قَوْله: ( أَلا وَإِن حمى الله مَحَارمه) ، هَكَذَا رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيره: ( أَلا إِن حمى الله فِي أرضه مَحَارمه) .
وَفِي رِوَايَة أبي فَرْوَة: ( مَعَاصيه) بدل: مَحَارمه، وَلم يذكر: الْوَاو، هَهُنَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره بِالْوَاو: ( أَلا وَإِن حمى الله مَحَارمه) فَإِن قلت: مَا وَجه ذكر: الْوَاو، هَهُنَا وَتركهَا؟ وَمَا وَجه ذكرهَا فِي قَوْله: ( إِلَّا وَإِن فِي الْجَسَد) ؟ قلت: أما وَجه ذكرهَا فِي قَوْله: ( أَلا وَإِن حمى الله) فبالنظر إِلَى وجود التناسب بَين الجملتين من حَيْثُ ذكر الْحمى فِيهَا، وَأما وَجه تَركهَا فبالنظر إِلَى بعد الْمُنَاسبَة بَين حمى الْمُلُوك، وَبَين حمى الله الَّذِي هُوَ الْملك الْحق لَا ملك حَقِيقَة الإل هـ تَعَالَى، وَأما وَجه ذكرهَا فِي قَوْله: ( أَلا وَإِن فِي الْجَسَد) ، فبالنظر إِلَى وجود الْمُنَاسبَة بَين جملتين نظرا إِلَى أَن الأَصْل فِي الاتقاء والوقوع هُوَ مَا كَانَ بِالْقَلْبِ، لِأَنَّهُ عماد الْأَمر وملاكه، وَبِه قوامه ونظامه، وَعَلِيهِ تبنى فروعه، وَبِه تتمّ أُصُوله، قَوْله: ( مُضْغَة) نصب لِأَنَّهُ اسْم إِن وخبرها هُوَ قَوْله: ( فِي الْجَسَد) مقدما.
وَقَوله: ( إِذا صلحت) أَي: المضغة وَهِي: الْقلب، وَكلمَة إِذا هَهُنَا بِمَعْنى: إِن، لِأَن مَدْخُول: إِذا، لَا بُد أَن يكون مُتَحَقق الْوُقُوع، وَهَهُنَا الصّلاح غير مُتَحَقق لاحْتِمَال الْفساد، والقرينة على ذَلِك ذكر الْمُقَابل فَافْهَم.
قَوْله: ( صلح الْجَسَد) جَوَاب: إِذا، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي قَوْله: ( وَإِذا فَسدتْ) .
قَوْله: ( وَهِي الْقلب) جملَة إسمية بِالْوَاو، وَأَيْضًا عطف على مُقَدّر.

بَيَان الْمعَانِي: أجمع الْعلمَاء على عظم موقع هَذَا الحَدِيث، وَأَنه أحد الْأَحَادِيث الَّتِي عَلَيْهَا مدَار الْإِسْلَام.
قَالَت جمَاعَة: هُوَ ثلث الْإِسْلَام، وان الاسلام يَدُور عَلَيْهِ وعَلى حَدِيث.
( الاعمال بِالنِّيَّاتِ) ، وَحَدِيث: ( من حسن اسلام الْمَرْء تَركه مَا لَا يعنيه) .
.

     وَقَالَ  أَبُو دَاوُد: يَدُور على أَرْبَعَة أَحَادِيث هَذِه الثَّلَاثَة وَحَدِيث: ( لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يحب لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ) .
قَالُوا: سَبَب عظم موقعه انه، عَلَيْهِ السَّلَام، نبه فِيهِ على صَلَاح الْمطعم وَالْمشْرَب والملبس والمنكح وَغَيرهَا، وانه يَنْبَغِي أَن يكون حَلَالا، وأرشد إِلَى معرفَة الْحَلَال، وَأَنه يَنْبَغِي ترك المشتبهات، فَإِنَّهُ سَبَب لحماية دينه وَعرضه، وحذر من مواقعة الشُّبُهَات، وأوضح ذَلِك بِضَرْب الْمثل بالحمى، ثمَّ بَين أهم الْأُمُور وَهُوَ: مُرَاعَاة الْقلب.
.

     وَقَالَ  ابْن الْعَرَبِيّ: يُمكن أَن ينتزع من هَذَا الحَدِيث وَحده جَمِيع الْأَحْكَام،.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: لِأَنَّهُ اشْتَمَل على التَّفْصِيل بَين الْحَلَال وَغَيره، وعَلى تعلق جَمِيع الْأَعْمَال بِالْقَلْبِ فَمن هُنَا يُمكن أَن يرد إِلَيْهِ جَمِيع الاحكام.
قَوْله: ( الْحَلَال بَين) بِمَعْنى: ظَاهر، بِالنّظرِ إِلَى مَا دلّ على الْحل بِلَا شُبْهَة، اَوْ على الْحَرَام بِلَا شُبْهَة، ( وَبَينهمَا مُشْتَبهَات) أَي: الوسائط الَّتِي يكتنفها دليلان من الطَّرفَيْنِ، بِحَيْثُ يَقع الِاشْتِبَاه ويعسر، تَرْجِيح دَلِيل أحد الطَّرفَيْنِ إلاّ عِنْد قَلِيل من الْعلمَاء.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ أَن الْأَشْيَاء ثَلَاثَة أَقسَام: حَلَال وَاضح لَا يخفى حلّه كاكل الْخبز والفواكه، وكالكلام وَالْمَشْي وَغير ذَلِك.
وَحرَام بَين: كَالْخمرِ وَالدَّم وَالزِّنَا وَالْكذب واشباه ذَلِك.
واما المشبهات: فَمَعْنَاه أَنَّهَا لَيست بواضحة الْحل وَالْحُرْمَة، وَلِهَذَا لَا يعرفهَا كثير من النَّاس، وَأما الْعلمَاء فيعرفون حكمهَا بِنَصّ أَو قِيَاس أَو اسْتِصْحَاب وَغَيره، فَإِذا تردد الشَّيْء بَين الْحل وَالْحُرْمَة، وَلم يكن نَص وَلَا إِجْمَاع، اجْتهد فِيهِ الْمُجْتَهد فألحقه بِأَحَدِهِمَا بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيّ، فَإِذا ألحقهُ بِهِ صَار حَلَالا أَو حَرَامًا.
وَقد يكون دَلِيله غير خَال عَن الِاجْتِهَاد، فَيكون الْوَرع تَركه.
وَمَا لم يظْهر للمجتهد فِيهِ شَيْء، وَهُوَ مشتبه، فَهَل يُؤْخَذ بِالْحلِّ أَو الْحُرْمَة؟ أَو يتَوَقَّف فِيهِ؟ ثَلَاثَة مَذَاهِب حَكَاهَا القَاضِي عِيَاض عَن أَصْحَاب الْأُصُول، وَالظَّاهِر أَنَّهَا مخرجة على الْخلاف الْمَعْرُوف فِي حكم الْأَشْيَاء قبل وُرُود الشَّرْع، وَفِيه أَرْبَعَة مَذَاهِب: أَحدهَا:، وَهُوَ الْأَصَح انه: لَا يحكم بتحليل وَلَا تَحْرِيم وَلَا إِبَاحَة وَلَا غَيرهَا، لِأَن التَّكْلِيف عِنْد أهل الْحق لَا يثبت إلاَّ بِالشَّرْعِ.
وَالثَّانِي: ان الحكم الْحل أَو الْإِبَاحَة.
وَالثَّالِث: الْمَنْع.
وَالرَّابِع: الْوَقْف.
.

     وَقَالَ  الْمَازرِيّ: المشتبهات الْمَكْرُوه لَا يُقَال فِيهِ حَلَال وَلَا حرَام بَين.
.

     وَقَالَ  غَيره: فَيكون الْوَرع تَركه،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: من أَمْثِلَة المتشابهات مُعَاملَة من كَانَ فِي مَاله شُبْهَة، أَو خالطه رَبًّا، فَهَذَا يكره مُعَامَلَته.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: لَا شكّ أَن ثَمَّ أموراً جلية التَّحْرِيم، وأموراً جلية التَّحْلِيل، وأموراً مترددة بَين الْحل وَالْحُرْمَة، وَهُوَ الَّذِي تتعارض فِيهَا الْأَدِلَّة، فَهِيَ المشتبهات، وَاخْتلف فِي حكمهَا.
فَقيل: حرَام لِأَنَّهَا توقع فِي الْحَرَام، وَقيل: مَكْرُوهَة، والورع تَركهَا.
وَقيل: لَا يُقَال فِيهَا وَاحِد مِنْهُمَا، وَالصَّوَاب الثَّانِي، لِأَن الشَّرْع أخرجهَا من الْحَرَام فَهِيَ مرتاب فِيهَا.
.

     وَقَالَ  عَلَيْهِ السَّلَام: ( دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك) ، فَهَذَا هُوَ الْوَرع.
.

     وَقَالَ  بعض النَّاس: إِنَّهَا حَلَال يتورع عَنْهَا.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَيست هَذِه عبارَة صَحِيحَة، لِأَن أقل مَرَاتِب الْحَلَال ان يَسْتَوِي فعله وَتَركه، فَيكون مُبَاحا، وَمَا كَانَ كَذَلِك لَا يتَصَوَّر فِيهِ الْوَرع، فَإِنَّهُ إِن ترجح أحد طَرفَيْهِ على الآخر خرج عَن ان يكون مُبَاحا، وَحِينَئِذٍ: إِمَّا أَن يكون تَركه راجحاً على فعله، وَهُوَ الْمَكْرُوه، أَو فعله راجحاً على تَركه وَهُوَ الْمَنْدُوب، فَأَما مثل مَا تقدم مِمَّا يكون دَلِيله غير خَال عَن الِاحْتِمَال الْبَين: كَجلْد الْميتَة بعد الدّباغ، فَإِنَّهُ غير طَاهِر على الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك، فَلَا يسْتَعْمل فِي شَيْء من الْمَائِعَات لِأَنَّهَا تنجس، لَا المَاء وَحده، فَإِنَّهُ عِنْده يدْفع النَّجَاسَة مَا لم يتَغَيَّر، هَذَا هُوَ الَّذِي ترجح عِنْده، لكنه كَانَ يَتَّقِي المَاء فِي خَاصَّة نَفسه.
وَحكي عَن أبي حنيفَة وسُفْيَان الثَّوْريّ، رَضِي الله عَنْهُمَا، أَنهم قَالَا: لِأَن أخر من السَّمَاء أَهْون عَليّ من أَن افتي بِتَحْرِيم قَلِيل النَّبِيذ، وَمَا شربته قطّ، وَلَا أشربه.
فعملوا بالترجيح فِي الْفتيا، وتورعوا عَنهُ فِي أنفسهم.
.

     وَقَالَ  بعض الْمُحَقِّقين، من حكم الْحَكِيم أَن يُوسع على الْمُسلمين فِي الْأَحْكَام، ويضيق على نَفسه، يَعْنِي بِهِ هَذَا الْمَعْنى، ومنشأ هَذَا الْوَرع الِالْتِفَات إِلَى إِمْكَان اعْتِبَار الشَّرْع ذَلِك الْمَرْجُوح، وَهَذَا الِالْتِفَات ينشأ من القَوْل: بَان الْمُصِيب وَاحِد، وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك، وَمِنْه ثار القَوْل فِي مذْهبه بمراعاة الْخلاف.
قلت: وَكَذَلِكَ أَيْضا كَانَ الشَّافِعِي، رَحمَه الله، يُرَاعِي الْخلاف، وَقد نَص على ذَلِك فِي مسَائِل، وَقد قَالَ أَصْحَابه بمراعاة الْخلاف حَيْثُ لَا تفوت بِهِ سنة فِي مَذْهَبهم، وَقد عقب البُخَارِيّ هَذَا الْبابُُ بِمَا ذكره فِي كتاب الْبيُوع فِي بابُُ تَفْسِير الشُّبُهَات، قَالَ فِيهِ:.

     وَقَالَ  حسان بن أبي سِنَان: مَا رَأَيْت شَيْئا أَهْون من الْوَرع: دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك.
وَأورد فِيهِ حَدِيث الْمَرْأَة السَّوْدَاء، وَأَنَّهَا أَرْضَعَتْه وَزَوجته.
وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ وَكَيف وَقد قيل، وَحَدِيث ابْن وليدة زَمعَة، وَأَنه قضى بِهِ لعبد بن زَمعَة أَخِيه بالفراش، ثمَّ قَالَ لسودة: احتجبي مِنْهُ لما رأى من شبهه، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِي الله تَعَالَى، وَحَدِيث عدي بن حَاتِم، رَضِي الله عَنهُ، وَقَوله: اجد مَعَ كَلْبِي على الصَّيْد كَلْبا آخر، لَا أَدْرِي أَيهمَا أَخذ.
قَالَ: لَا تَأْكُل.
ثمَّ ذكر حَدِيث التمرة المسقوطة، وَقَول النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لَوْلَا أَن تكون صَدَقَة لأكلتها) ، ثمَّ عقبه بِمَا لَا يجْتَنب، فَقَالَ: بابُُ من لم ير الوساوس وَنَحْوهَا من الشُّبُهَات، وَذكر فِيهِ حَدِيث الرجل يجد الشَّيْء فِي الصَّلَاة.
قَالَ: لَا، حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا، ثمَّ ذكر حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا: ( أَن قوما قَالُوا: يَا رَسُول الله، إِن قوما يأتوننا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أذكروا اسْم الله عَلَيْهِ أم لَا؟ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: سموا عَلَيْهِ وكلوه) .

قلت: فَتحصل لنا مِمَّا تقدم ذكره أَن المشتبهات الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث الَّتِي يَنْبَغِي اجتنابها فِيهِ أَقْوَال.
احدها: أَنه الَّذِي تَعَارَضَت فِيهِ الْأَدِلَّة فاشتبهت، فَمثل هَذَا يجب فِيهِ الْوَقْف إِلَى التَّرْجِيح، لِأَن الْإِقْدَام على أحد الْأَمريْنِ من غير رُجْحَان الحكم بِغَيْر دَلِيل محرم.
وَالثَّانِي: المُرَاد بِهِ المكروهات، وَهُوَ قَول الْخطابِيّ والمازري وَغَيرهمَا، وَيدخل فِيهِ مَوَاضِع اخْتِلَاف الْعلمَاء.
وَالثَّالِث: أَنه الْمُبَاح،.

     وَقَالَ  بَعضهم: هِيَ حَلَال يتورع عَنْهَا، وَقد رده الْقُرْطُبِيّ كَمَا تقدم،.

     وَقَالَ : فَإِن قيل: هَذَا يُؤَدِّي إِلَى رفع مَعْلُوم من الشَّرْع، وَهُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخُلَفَاء بعده وَأكْثر أَصْحَابه كَانُوا يزهدون فِي الْمُبَاح، فَرَفَضُوا التنعم بِطيب الْأَطْعِمَة ولين اللبَاس وَحسن المساكن، وتلبسوا بضدها من خشونة الْعَيْش، وَهُوَ مَعْلُوم مَنْقُول من سيرهم، قَالَ: فَالْجَوَاب أَن ذَلِك مَحْمُول على مُوجب شَرْعِي اقْتضى تَرْجِيح التّرْك على الْفِعْل، فَلم يَزْهَدُوا فِي مُبَاح، لِأَن حَقِيقَته التَّسَاوِي، بل فِي أَمر مَكْرُوه، وَلَكِن الْمَكْرُوه تَارَة يكرههُ الشَّرْع، من حَيْثُ هُوَ، وَتارَة يكرههُ لما يُؤَدِّي إِلَيْهِ: كالقبلة للصَّائِم، فَإِنَّهَا تكره لما يخَاف مِنْهَا من إِفْسَاد الصَّوْم، ومسألتنا من هَذَا الْقَبِيل، لِأَنَّهُ انْكَشَفَ لَهُم من عَاقِبَة مَا خَافُوا على نُفُوسهم مِنْهُ مفاسد، أما فِي الْحَال من الركون إِلَى الدُّنْيَا، وَأما فِي الْمَآل من الْحساب عَلَيْهِ والمطالبة بالشكر وَغَيره، وَهَذَا آخر كَلَامه.
قلت: وَقد اخْتلف أَصْحَاب الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى، فِي ترك الطّيب وَترك لبس الناعم، فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإسفرائني: إِن ذَلِك لَيْسَ بِطَاعَة، وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى: { قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ والطيبات من الرزق قل هِيَ للَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة} ( الْأَعْرَاف: 32) .
.

     وَقَالَ  الشَّيْخ ابو الطّيب الطَّبَرِيّ: إِنَّه طَاعَة، وَدَلِيله مَا علم من أَمر السّلف من خشونة الْعَيْش.
.

     وَقَالَ  ابْن الصّباغ: يخْتَلف ذَلِك بإختلاف أَحْوَال النَّاس، وتفرغهم لِلْعِبَادَةِ وقصودهم واشتغالهم بالضيق وَالسعَة.
.

     وَقَالَ  الرَّافِعِيّ، من أَصْحَابنَا: هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَأما مَا يخرج إِلَى بابُُ الوسوسة من تَجْوِيز الْأَمر الْبعيد فَهَذَا لَيْسَ من المشتبهات الْمَطْلُوب اجتنابها، وَقد ذكر الْعلمَاء لَهُ أَمْثِلَة؛ فَقَالُوا: هُوَ مَا يَقْتَضِيهِ تَجْوِيز أَمر بعيد كَتَرْكِ النِّكَاح من نسَاء بلد كَبِير خوفًا أَن يكون لَهُ فِيهَا محرم، وَترك اسْتِعْمَال مَاء فِي فلاة لجَوَاز عرُوض النَّجَاسَة، أَو غسل ثوب مَخَافَة طرؤ نَجَاسَة عَلَيْهِ لم يشاهدها، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يُشبههُ، فَهَذَا لَيْسَ من الْوَرع.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: الْوَرع فِي مثل هَذَا وَسْوَسَة شيطانية، إِذْ لَيْسَ فِيهَا من معنى الشُّبْهَة شَيْء، وَسبب الْوُقُوع فِي ذَلِك عدم الْعلم بالمقاصد الشَّرْعِيَّة.
قلت: من ذَلِك مَا ذكره الشَّيْخ الإِمَام عبد الله بن يُوسُف الْجُوَيْنِيّ، وَالِد إِمَام الْحَرَمَيْنِ، فَحكى عَن قوم أَنَّهُمَا لَا يلبسُونَ ثيابًا جدداً حَتَّى يغسلوها، لما فِيهَا مِمَّن يعاني قصر الثِّيَاب، ودقها وتجفيفها، وإلقائها وَهِي رطبَة على الأَرْض النَّجِسَة، ومباشرتها بِمَا يغلب على الظَّن نَجَاسَته من غير أَن يغسل بعد ذَلِك، فَاشْتَدَّ نكيره عَلَيْهِم،.

     وَقَالَ : هَذِه طَريقَة الْخَوَارِج الحرورية، أبلاهم الله، تَعَالَى بالغلق فِي غير مَوضِع القلق، وبالتهاون فِي مَوضِع الِاحْتِيَاط، وفاعل ذَلِك معترض على أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ، فانهم كَانُوا يلبسُونَ الثِّيَاب الجدد قبل غسلهَا، وَحَال الثِّيَاب فِي أعصارهم، كحالها فِي أعصارنا، وَلَو أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بغسلها مَا خَفِي، لِأَنَّهُ مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى، وَذكر أَيْضا: أَن قوما يغسلون أَفْوَاههم إِذا أكلُوا الْخبز خوفًا من رَوْث الثيران عِنْد الدياس، فَإِنَّهَا تقيم أَيَّامًا فِي المداسة، وَلَا يكَاد يَخْلُو طحين عَن ذَلِك.
قَالَ الشَّيْخ: هَذَا غلو وَخُرُوج عَن عَادَة السّلف، وَمَا روى أحد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ أَنهم رَأَوْا غسل الْفَم من ذَلِك.
فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي التمرة الَّتِي وجدهَا فِي بَيته: لَوْلَا إِنِّي أَخَاف أَن تكون من الصَّدَقَة لأكلتها؟ وَدخُول الصَّدَقَة بَيت النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بعيد لِأَنَّهَا كَانَت مُحرمَة عَلَيْهِ.
وَأجِيب عَنهُ: أَن مَا توقعه النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يكن بَعيدا، لانهم كَانُوا يأْتونَ بالصدقات إِلَى الْمَسْجِد، وتوقع أَن يكون صبي أَو من لَا يعقل أَدخل التمرة الْبَيْت، فاتقى ذَلِك لقُرْبه.

قَوْله: ( لَا يعلمهَا كثير من النَّاس) اي: لَا يعلم المشتبهات كثير من النَّاس، أَرَادَ: لَا يعلم حكمهَا، وَجَاء ذَلِك مُفَسرًا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: ( وَهِي لَا يدْرِي كثير من النَّاس أَمن الْحَلَال هِيَ أم من الْحَرَام؟) .

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: معنى مُشْتَبهَات: أَي تشتبه على بعض النَّاس دون بعض، لَا أَنَّهَا فِي نَفسهَا مشتبهة على كل النَّاس لَا بَيَان لَهَا، بل الْعلمَاء يعرفونها، لِأَن الله تَعَالَى جعل عَلَيْهَا دَلَائِل يعرفهَا بهَا أهل الْعلم، وَلِهَذَا قَالَ، عَلَيْهِ السَّلَام: ( لَا يعلمهَا كثير من النَّاس) وَلم يقل: لَا يعلمهَا كل النَّاس، أَو أحد مِنْهُم،.

     وَقَالَ  بعض الْعلمَاء: معرفَة حكمهَا مُمكن، لَكِن للقليل من النَّاس وهم: المجتهدون، فالمشتبهات على هَذَا فِي حق غَيرهم، وَقد يَقع لَهُم حَيْثُ لَا يظْهر لَهُم تَرْجِيح لأحد اللَّفْظَيْنِ.
قَوْله: ( اسْتَبْرَأَ) أَي: طلب الْبَرَاءَة فِي دينه من النَّقْص، وَعرضه من الطعْن فِيهِ.
قَوْله: ( لدينِهِ) إِشَارَة إِلَى مَا يتَعَلَّق بِاللَّه تَعَالَى، وَقَوله: وَعرضه، إِشَارَة الى مَا يتَعَلَّق بِالنَّاسِ، أَو ذَاك اشارة إِلَى مَا يتَعَلَّق بِالشَّرْعِ، وَهَذَا إِلَى الْمُرُوءَة.
فان قلت: لِمَ قدم الْعرض على الدّين؟ قلت: الْقَصْد هُوَ ذكرهمَا جَمِيعًا من غير نظر إِلَى التَّرْتِيب، لِأَن الْوَاو لَا تدل على التَّرْتِيب على مَا عرف فِي مَوْضِعه، وَأما تَقْدِيم: الْعرض، فَيمكن أَن يكون لأجل تعلقه بِالنَّاسِ الْمُقْتَضِي لمزيد الاهتمام بِهِ.
قَوْله: ( وَمن وَقع فِي الشُّبُهَات) قَالَ الْخطابِيّ: كل شَيْء أشبه الْحَلَال من وَجه، وَالْحرَام من وَجه فَهُوَ شُبْهَة.
.

     وَقَالَ  غَيره: هَذَا يكون لأحد وَجْهَيْن: أَحدهمَا: إِذا عود نَفسه عدم التحرر مِمَّا يشْتَبه أثر ذَلِك فِي استهانته، فَوَقع فِي الْحَرَام مَعَ الْعلم بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنه إِذا تعاطى الشُّبُهَات وَقع فِي الْحَرَام فِي نفس الْأَمر، وَقد قيل بدل الْوَجْه الثَّانِي: إِن من أَكثر وُقُوع الشُّبُهَات أظلم قلبه عَلَيْهِ لفقدان نور الْعلم والورع، فَيَقَع فِي الْحَرَام وَلَا يشْعر بِهِ،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَفِيه دَلِيل أَن من لم يتق الشُّبُهَات الْمُخْتَلف فِيهَا، وانتهك حرمتهَا، فقد أوجد السَّبِيل على عرضه فِيمَا رَوَاهُ واشهد بِهِ.
قلت: حَاصِل مَا ذكر الْعلمَاء هَهُنَا فِي تَفْسِير الشُّبُهَات أَرْبَعَة أَشْيَاء.
تعَارض الادلة، وَاخْتِلَاف الْعلمَاء، وَقسم الْمَكْرُوه والمباح.
وَقد قيل: الْمَكْرُوه عقبَة بَين الْحل وَالْحرَام، فَمن استكثر من الْمَكْرُوه تطرق إِلَى الْحَرَام، والمباح عقبَة بَينه وَبَين الْمَكْرُوه، فَمن استكثر مِنْهُ تطرق إِلَى الْمَكْرُوه، ويعضد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن حبَان من طَرِيق ذكر مُسلم أسنادها وَلم يسْبق لَفظهَا، فِيهَا من الزِّيَادَة: ( اجعلوا بَيْنكُم وَبَين الْحَرَام ستْرَة من الْحَلَال، من فعل ذَلِك اسْتَبْرَأَ لعرضه وَدينه، وَمن ارتع فِيهِ كَانَ كالمرتع إِلَى جنب الْحمى يُوشك ان يَقع فِيهِ) .

قَوْله: ( كرَاع يرْعَى حول الْحمى) : هَذَا تَشْبِيه حَال من يدْخل فِي الشُّبُهَات بِحَال الرَّاعِي الَّذِي يرْعَى حول الْمَكَان الْمَحْظُور بِحَيْثُ أَنه لَا يَأْمَن الْوُقُوع فِيهِ وَوجه الشّبَه حُصُول الْعقَاب بِعَدَمِ الِاحْتِرَاز فِي ذَلِك، فَكَمَا أَن الرَّاعِي إِذا جَرّه رعيه حول الْحمى إِلَى وُقُوعه فِي الْحمى، اسْتحق الْعقَاب بِسَبَب ذَلِك، فَكَذَلِك من أَكثر من الشُّبُهَات وَتعرض لمقدماتها وَقع فِي الْحَرَام فَاسْتحقَّ الْعقَاب.
فان قلت: مَا يُسمى هَذَا التَّشْبِيه؟ قلت: هَذَا تَشْبِيه ملفوف، لِأَنَّهُ تَشْبِيه بالمحسوس الَّذِي لَا يخفى حَاله، شبه الْمُكَلف بالراعي، وَالنَّفس الْبَهِيمَة بالأنعام، والمشتبهات بِمَا حول الْحمى والمحارم بالحمى، وَتَنَاول المشتبهات بالرتع حول الْحمى، فَيكون تَشْبِيها ملفوفاً بِاعْتِبَار طَرفَيْهِ، وتمثيلا بِاعْتِبَار وَجهه.
قَوْله: ( أَلا وَإِن لكل ملك حمى) هَذَا مثل ضربه النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَذَلِكَ أَن مُلُوك الْعَرَب كَانَت تَحْمِي مرَاعِي لمواشيها، وتتوعد على من يقربهَا، والخائف من عُقُوبَة السُّلْطَان يبعد بماشيته خوف الْوُقُوع، وَغير الْخَائِف يقرب مِنْهَا ويرعى فِي جوانبها، فَلَا يَأْمَن من أَن يَقع فِيهَا من غير اخْتِيَاره، فيعاقب على ذَلِك.
وَللَّه تَعَالَى أَيْضا حمى وَهُوَ: الْمعاصِي، فَمن ارْتكب شَيْئا مِنْهَا اسْتحق الْعقُوبَة وَمن قاربه بِالدُّخُولِ فِي الشُّبُهَات يُوشك أَن يَقع فِيهَا، وَقد ادّعى بَعضهم أَن هَذَا الْمثل من كَلَام الشّعبِيّ، وَأَنه مدرج فِي الحَدِيث، وَرُبمَا اسْتدلَّ فِي ذَلِك لما وَقع لِابْنِ الْجَارُود والاسماعيلي من رِوَايَة ابْن عون عَن الشعبى، قَالَ ابْن عون فِي آخر الحَدِيث: فَلَا ادري الْمثل من النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، اَوْ من قَول الشّعبِيّ؟ وَأجِيب: بِأَن تردد ابْن عون فِي رَفعه لَا يسْتَلْزم كَونه مدرجاً، لِأَن الاثبات قد جزموا باتصاله وَرَفعه، فَلَا يقْدَح شكّ بَعضهم فِيهِ.
فان قلت: قد سقط الْمثل فِي رِوَايَة بعض الروَاة، كَأبي فَرْوَة عَن الشّعبِيّ، فَدلَّ على الإدراج.
قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن هَذَا لَا يقْدَح فِيمَن اثْبتْ من الْحفاظ الاثبات، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ ابْن حبَان الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي حذف البُخَارِيّ قَوْله: وَقع فِي الْحَرَام، ليصير مَا قبل الْمثل مرتبطاً بِهِ، فَيسلم من دَعْوَى الإدراج.
قلت: هَذَا الْكَلَام لَيْسَ لَهُ معنى أصلا، وَلَا هُوَ دَلِيل على منع دَعْوَى الإدراج، وَذَلِكَ لَان قَوْله: وَقع فِي الْحَرَام، لم يحذفه البُخَارِيّ عمدا، وَإِنَّمَا رَوَاهُ فِي هَذِه الطَّرِيق هَكَذَا، مثل مَا سَمعه، وَقد ثَبت ذَلِك فِي غير هَذِه الطَّرِيق، وَكَيف يحذف لفظا مَرْفُوعا مُتَّفقا عَلَيْهِ لأجل الدّلَالَة على رفع لفظ قد قيل فِيهِ بالإدراج؟ وَقَوله: ( ليصير) مَا قبل الْمثل مرتبطاً بِهِ، إِن أَرَادَ بِهِ الارتباط الْمَعْنَوِيّ فَلَا يَصح، لَان كلاًّ مِنْهُمَا كَلَام بِذَاتِهِ مُسْتَقل، وَإِن اراد بِهِ الارتباط اللَّفْظِيّ فَكَذَلِك لَا يَصح، وَهُوَ ظَاهر.

قَوْله: ( مُضْغَة) أطلقها على الْقلب إِرَادَة تَصْغِير الْقلب بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الْجَسَد، مَعَ أَن صَلَاح الْجَسَد وفساده تابعان لَهُ، أَو لما كَانَ هُوَ سُلْطَان الْبدن لما صلح صلح الْأَعْضَاء الْأُخَر الَّتِي هِيَ كالرعية، وَهُوَ بِحَسب الطِّبّ أول نقطة تكون من النُّطْفَة، وَمِنْه تظهر القوى، وَمِنْه تنبعث الْأَرْوَاح، وَمِنْه ينشأ الْإِدْرَاك ويبتدىء التعقل، فلهذه الْمعَانِي خص الْقلب بذلك، وَاحْتج جمَاعَة بِهَذَا الحَدِيث، وَبِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى: { لَهُم قُلُوب لَا يعْقلُونَ بهَا} ( الْحَج: 46) على أَن الْعقل فِي الْقلب لَا فِي الرَّأْس.
قلت: فِيهِ خلاف مَشْهُور، فمذهب الشَّافِعِيَّة والمتكلمين أَنه فى الْقلب، وَمذهب أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه فِي الدِّمَاغ.
وَحكي الأول عَن الفلاسفة، وَالثَّانِي عَن الْأَطِبَّاء.
وَاحْتج بِأَنَّهُ إِذا فسد الدِّمَاغ فسد الْعقل.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن الْعقل إِنَّمَا هُوَ فِي الْقلب، وَمَا فِي الرَّأْس مِنْهُ فَإِنَّمَا هُوَ عَن الْقلب.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: لَيْسَ فِيهِ دلَالَة على أَن الْعقل فِي الْقلب، وَاسْتدلَّ بِهِ أَيْضا على أَن: من حلف لَا يَأْكُل لَحْمًا، فَأكل قلباً، حنث.
قلت: ولأصحاب الشَّافِعِي فِيهَا قَولَانِ، احدهما: يَحْنَث، وَإِلَيْهِ مَال أَبُو بكر الصيدلاني الْمروزِي، وَالأَصَح انه: لَا يَحْنَث، لِأَنَّهُ لَا يُسمى لَحْمًا.