فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب موعظة المحدث عند القبر، وقعود أصحابه حوله

( بابُُ مَوْعِظَةِ المُحَدِّثِ عِنْدَ القَبْرِ وَقُعُودِ أصْحَابِهِ حَوْلَهُ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان وعظ الْمُحدث عِنْد الْقَبْر، وَالْمَوْعِظَة مصدر ميمي يُقَال: وعظ يُعْط وعظا وموعظة، والوعظ: النصح والتذكير بالعواقب، تَقول: وعظته وعظا وعظة فاتعظ أَي: قبل الموعظة.
قَوْله: ( وقعود أَصْحَابه) ، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: ( موعظة الْمُحدث) ، أَي: وَفِي بَيَان قعُود أَصْحَاب الْمُحدث حول الْمُحدث، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن الْجُلُوس مَعَ الْجَمَاعَة عِنْد الْقَبْر، إِن كَانَ لمصْلحَة تتَعَلَّق بالحي أَو الْمَيِّت لَا يكره ذَلِك، فَأَما مصلحَة الْحَيّ فَمثل أَن يجْتَمع قوم عِنْد قبر وَفِيهِمْ من يَعِظهُمْ وَيذكرهُمْ الْمَوْت وأحوال الْآخِرَة، وَأما مصلحَة الْمَيِّت فَمثل مَا إِذا اجْتَمعُوا عِنْده لقِرَاءَة الْقُرْآن وَالذكر، فَإِن الْمَيِّت ينْتَفع بِهِ وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث معقل بن يسَار قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( اقرأوا ي س على مَوْتَاكُم) .
وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا، فَالْحَدِيث يدل على أَن الْمَيِّت ينْتَفع بِقِرَاءَة الْقُرْآن عِنْده، وَهُوَ حجَّة على من قَالَ: إِن الْمَيِّت لَا ينْتَفع بِقِرَاءَة الْقُرْآن.

يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجدَاثِ الأجْدَاثُ القُبُورُ
مُطَابقَة هَذَا وَمَا بعده للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن ذكر خُرُوج بني آدم من الْقُبُور وبعثرة مَا فِي الْقُبُور وإيفاضهم أَي: إسراعهم إِلَى الْمَحْشَر وهم يَنْسلونَ أَي: يخرجُون، كل ذَلِك من الموعظة.
والأجداث جمع: جدث، وَهُوَ الْقَبْر.
وَقد قَالُوا: جدف، بِالْفَاءِ مَوضِع الثَّاء الْمُثَلَّثَة إلاَّ إِنَّهُم لم يَقُولُوا فِي الْجمع: أجداف، بِالْفَاءِ وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن المُرَاد من الأجداث فِي الْآيَة: الْقُبُور، وَقد وَصله ابْن أبي حَاتِم وَغَيره من طَرِيق قَتَادَة وَالسُّديّ وَغَيرهمَا وَفِي ( الْمُخَصّص) قَالَ الْفَارِسِي: اشتقاق الجدف بِالْفَاءِ من التجديف، وَهُوَ كفر النعم، وَفِي ( الصِّحَاح) : الجدث الْقَبْر وَالْجمع أجدث وأجداث.
.

     وَقَالَ  ابْن جني: وأجدث، مَوضِع، وَقد نفى سِيبَوَيْهٍ أَن يكون أفعل من أبنيه الْوَاحِد، فَيجب أَن يعد هَذَا مِمَّا فَاتَهُ، إلاَّ أَن يكون جمع الجدث الَّذِي هُوَ الْقَبْر على أجدث، ثمَّ سمى بِهِ الْموضع، وَفِي ( الْمجَاز) لأبي عُبَيْدَة: بالثاء لُغَة أهل الْعَالِيَة، وَأهل نجد يَقُولُونَ: جدف، بِالْفَاءِ.

بُعْثِرَتْ: أُثِيرَتْ، بَعْثَرْتُ حَوْضِي أيْ جَعَلْتُ أسْفَلَهُ أعْلاهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَإِذا الْقُبُور بعثرت} ( الانفطار: 4) .
وَأَن مَعْنَاهُ: أثيرت من الإثارة، وَفِي ( الصِّحَاح) : قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: بعثر مَا فِي الْقُبُور أثير وَأخرج.
.

     وَقَالَ  فِي ( الْمجَاز) : بعثرت حَوْضِي أَي: هدمته.
وَفِي ( الْمعَانِي) للفراء: بعثرت وبحثرت: لُغَتَانِ وَفِي ( تَفْسِير الطَّبَرِيّ) عَن ابْن عَبَّاس: بعثرت بحثت.
وَفِي ( الْمُحكم) : بعثر الْمَتَاع وَالتُّرَاب قلبه، وبعثر الشَّيْء فرقه، وَزعم يَعْقُوب أَن عينهَا بدل من عين بعثر أَو غين بدل مِنْهَا، وبعثر الْخَبَر بَحثه.
وَفِي ( الواعي فِي اللُّغَة) : بعثرته إِذا قلبت ترابه وبددته.

الإيفَاضُ الإسْرَاعُ
الإيفاض، بِكَسْر الْهمزَة، مصدر من أوفض يوفض إيفاضا، وأصل إيفاض أوفاض، قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { كَأَنَّهُمْ إِلَى نضب يوفضون} ( المعارج: 34) .
وثلاثيه: وفض من الوفض، وَهُوَ: العجلة.

وَقَرَأ الأعْمَشُ إلَى نَصْبٍ إلَى شَيْءٍ مَنْصُوبٍ يَسْتَبِقُونَ إلَيْهِ وَالنُّصْبُ وَاحِدٌ وَالنَّصْبُ مَصْدَرٌ
الْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان.
قَوْله: ( إِلَى نصب) ، بِفَتْح النُّون كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: بِالضَّمِّ، وَالْأول أصح، وَهُوَ قِرَاءَة الْجُمْهُور، وَحكى الطَّبَرِيّ أَنه لم يقرأه بِالضَّمِّ إِلَّا الْحسن الْبَصْرِيّ وَفِي ( الْمعَانِي) للزجاج: قُرِئت ( نصب) ، نصب، بِضَم النُّون وَسُكُون الصَّاد، و: نصب، بِضَم النُّون وَالصَّاد، وَمن قَرَأَ: نصب وَنصب، فَمَعْنَاه كَأَنَّهُمْ يوفضون إِلَى علم مَنْصُوب لَهُم، وَمن قَرَأَ: نصب، فَمَعْنَاه إِلَى أصنام لَهُم، وَكَانَت النصب الْآلهَة الَّتِي كَانَت تعبد من أَحْجَار.
وَفِي ( الْمُنْتَهى) : النصب وَالنّصب وَالنّصب، بِمَعْنى مثل: الْعُمر والعمر والعمر، وَقيل: النصب حجر ينصب فيعبد وَيصب عَلَيْهِ دِمَاء الذَّبَائِح، وَقيل: هُوَ الْعلم ينصب للْقَوْم، أَي: علم كَانَ.
وَفِي ( الْمُحكم) : النصب جمع نصيبة، كسفينة وسفن، وَقيل: النصب الْغَايَة، ذكره عبد فِي تَفْسِيره عَن مُجَاهِد وَأبي الْعَالِيَة، وَضَعفه ابْن سَيّده،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: قَرَأَ أَبُو الْعَالِيَة وَالْحسن بِضَم النُّون وَالصَّاد،.

     وَقَالَ  الْحسن فِيمَا حَكَاهُ عبد فِي تَفْسِيره: كَانُوا يبتدرون إِذا طلعت الشَّمْس إِلَى نصبهم سرَاعًا أَيهمْ يستلمها أَولا لَا يلوي أَوَّلهمْ على آخِرهم.
.

     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدَة: النصب بِالْفَتْح الْعلم الَّذِي ينصب، وَنصب بِالضَّمِّ جمَاعَة مثل: رهن وَرهن.
قَوْله: ( يوفضون) أَي: يسرعون، وَهُوَ من الإيفاض كَمَا مر،.

     وَقَالَ  ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن قُرَّة عَن الْحسن فِي قَوْله: { إِلَى نصب يوفضون} ( المعارج: 34) .
أَي: يبتدرون أَيهمْ يستلمه أول.
قَوْله: ( والنضب وَاحِد وَالنّصب مصدر) أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن لفظ النصب يسْتَعْمل إسما وَيسْتَعْمل مصدرا وَيجمع على أنصاب.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: النصب وَاحِد وَالنّصب مصدر، كَذَا وَقع فِيهِ، وَالَّذِي فِي ( الْمعَانِي) للفراء: النصب وَالنّصب وَاحِد، وَهُوَ مصدر، وَالْجمع أنصاب، فَكَانَ التَّغْيِير من بعض النقلَة.
قلت: لَا تَغْيِير فِيهِ لِأَن البُخَارِيّ فرق بِكَلَامِهِ هَذَا بَين الِاسْم والمصدر، وَلَكِن من قصرت يَده عَن علم الصّرْف لَا يفرق بَين الإسم والمصدر فِي مجيئها على لفظ وَاحِد.

يَوْمَ الخُرُوجِ مِنَ القُبُورِ يَنْسِلُونَ يَخْرُجُونَ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى قَوْله تَعَالَى: { ذَلِك يَوْم الْخُرُوج} ( ق: 24) .
أَي من الْقُبُور وَفسّر قَوْله: { يَنْسلونَ} ( الْأَنْبِيَاء: 69، ي س: 15) .
بقوله: { يخرجُون} ( ق: 24) .
كَذَا ذكره عبد عَن قَتَادَة،.

     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدَة: يَنْسلونَ يسرعون، وَالذِّئْب ينسل ويعسل.
وَفِي ( الْكَامِل) : العسلان غير النسلان، وَفِي كتاب الزّجاج وَابْن جرير الطَّبَرِيّ و ( تَفْسِير ابْن عَبَّاس) { يَنْسلونَ} ( الْأَنْبِيَاء: 69، ي س: 15) .
يخرجُون بِسُرْعَة.
وَفِي ( الْمُجْمل) : النسلان مشْيَة الذِّئْب إِذا أعنق وأسرع فِي الْمَشْي، وَفِي ( الْمُحكم) : نسل ينسل نَسْلًا ونسلانا.
وَأَصله للذئب، ثمَّ اسْتعْمل فِي غير ذَلِك.
وَفِي ( الْجَامِع) للقزاز: نسولاً، وَأَصله عَدو مَعَ مقاربة خطو.



[ قــ :1308 ... غــ :1362 ]
- حدَّثنا عُثْمَانُ قَالَ حدَّثني جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ سَعْدِ بنِ عُبَيْدَةَ عَن أبي عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ عَلِيٍّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ.
قَالَ كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعَ الغَرْقَدِ فَأَتَانَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ مَا منِ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلاَّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإلاَّ قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أوْ سَعِيدَةً فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُول الله أفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا ونَدَعُ العَمَلَ فَمَنْ كانَ مِنَّا مِنْ أهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ أهْلِ السَّعَادَةِ وَأمَّا منْ كانَ مِنَّا مِنْ أهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ الشَّقَاوَةِ قَالَ أمَّا أهلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ وَأمَّا أهحلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ فأمَّا مَنْ أعْطَى واتَّقَى الآيَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فَقعدَ وقعدنا حوله) ، وَكَانَ فِي قعوده، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَلَامه بِمَا قَالَه فِيهِ وعظ لَهُم.

ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عُثْمَان بن مُحَمَّد بن أبي شيبَة، واسْمه إِبْرَاهِيم أَبُو الْحسن الْعَبْسِي.
الثَّانِي: جرير بن عبد الحميد الضَّبِّيّ.
الثَّالِث: مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر.
الرَّابِع: سعد بن عُبَيْدَة، بِضَم الْعين وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد مر فِي آخر كتاب الْوضُوء.
الْخَامِس: أَبُو عبد الرَّحْمَن، هُوَ عبد الله بن حبيب، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة، مر فِي: بابُُ غسل الْمَذْي فِي كتاب الْغسْل.
السَّادِس: عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور غير مَنْسُوب، وَكَذَلِكَ اثْنَان فِيمَا بعده.
وَفِيه: أحدهم مَذْكُور بكنيته.
وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون إلاَّ جَرِيرًا رازي وَأَصله من الْكُوفَة.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن آدم بن أبي إِيَاس، وَعَن بشر بن خَالِد عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر وَعَن يحيى عَن وَكِيع، ثَلَاثَتهمْ عَن شُعْبَة وَعَن أبي نعيم عَن سُفْيَان وَعَن مُسَدّد عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد ثَلَاثَتهمْ عَن الْأَعْمَش عَنهُ بِهِ وَفِي الْقدر عَن عَبْدَانِ وَفِي الْأَدَب عَن بنْدَار عَن غنْدر.
وَأخرجه مُسلم فِي الْقدر عَن عُثْمَان ابْن أبي شيبَة وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَزُهَيْر بن حَرْب، ثَلَاثَتهمْ عَن جرير بِهِ وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب، وَأبي سعيد الْأَشَج، ثَلَاثَتهمْ عَن وَكِيع بِهِ وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وهناد بن السّري وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن أبي كريب وَعَن أبي مُوسَى وَابْن بشار.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن مُسَدّد.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْقدر عَن الْحسن بن عَليّ الْخلال وَفِي التَّفْسِير عَن بنْدَار.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَعَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن أبي مُعَاوِيَة ووكيع بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( فِي بَقِيع) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْقَاف وَهُوَ من الأَرْض مَوضِع فِيهِ أروم شجر من ضروب شَتَّى، وَبِه سمى: بَقِيع الْغَرْقَد، بِالْمَدِينَةِ وَهِي مَقْبرَة أَهلهَا، و: الْغَرْقَد، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْقَاف وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: وَهُوَ شجر لَهُ شوك كَانَ ينْبت هُنَاكَ فَذهب الشّجر وَبَقِي الإسم لَازِما للموضع.
.

     وَقَالَ  الْأَصْمَعِي: قطعت غرقدات فِي هَذَا الْموضع حِين دفن فِيهِ عُثْمَان بن مَظْعُون، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
.

     وَقَالَ  ياقوت: وبالمدينة أَيْضا بَقِيع الزبير وبقيع الْخَيل عِنْد دَار زيد بن ثَابت وبقيع الخبجبة، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة الساكنة وَالْجِيم المفوحة وَالْبَاء الْمُوَحدَة الْأُخْرَى، كَذَا ذكره السُّهيْلي، وَغَيره يَقُول: الجبجبة، بجيمين، وبقيع الْخضمات، قَالَ الْخطابِيّ: وَمن النَّاس من يَقُوله بِالْبَاء،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة: الْغَرْقَد وأحدها غرقدة وَإِذا عظمت العوسجة فَهِيَ غرقدة، والعوسج من شجر الشوك لَهُ ثَمَر أَحْمَر مدور كَأَنَّهُ خرز العقيق.
.

     وَقَالَ  أَبُو الْعَلَاء المعري: هُوَ نبت من نَبَات السهل،.

     وَقَالَ  أَبُو زيد الْأنْصَارِيّ: الْغَرْقَد ينْبت بِكُل مَكَان مَا خلا حر الرمل، وَذكر ابْن البيطار فِي ( جَامعه) أَن الْغَرْقَد اسْم عَرَبِيّ يُسَمِّي بِهِ بعض الْعَرَب النَّوْع الْأَبْيَض الْكَبِير من العوسج.
قَالَ أَبُو عمر: إِن مضغه مر.
وَفِي الحَدِيث فِي ذكر الدَّجَّال كل شَيْء يواري يَهُودِيّا ينْطق إلاَّ الْغَرْقَد فَإِنَّهُ من شجرهم فَلَا ينْطق،.

     وَقَالَ  الْأَصْمَعِي: الْغَرْقَد من شجر الْحجاز.
وَفِي ( الْمُحكم) : بَقِيع الْغَرْقَد يُسمى كفنة لِأَنَّهُ يدْفن فِيهِ.
قَوْله: ( وَمَعَهُ مخصرة) ، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وَالرَّاء: وَهُوَ شَيْء يَأْخُذهُ الرجل بِيَدِهِ ليتوكأ عَلَيْهِ مثل الْعَصَا وَنَحْوه، وَهُوَ أَيْضا مَا يَأْخُذهُ الْملك يُشِير بِهِ إِذا خطب، وَاخْتصرَ الرجل أمسك المخصرة.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: التخصير إمْسَاك الْقَضِيب بِالْيَدِ، وَجزم ابْن بطال أَنه الْعَصَا.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: عَصا أَو قضيب.
قَوْله: ( فَنَكس) ، بتَخْفِيف الْكَاف وتشديدها، لُغَتَانِ، أَي: خفض رَأسه وطأطأ بِهِ إِلَى الأَرْض على هَيْئَة المهموم المفكر، وَيحْتَمل أَيْضا أَن يُرَاد بنكس: نكس المخصرة.
قَوْله: ( ينكت) من النكت، وَهُوَ أَن يضْرب فِي الأَرْض بقضيب يُؤثر فِيهَا، وَيُقَال: النكت قرعك الأَرْض بِعُود أَو بأصبع يُؤثر فِيهَا.
قَوْله: ( منفوسة) أَي: مصنوعة مخلوقة.
قَوْله: ( إِلَّا كتب) ، على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: ( مَكَانهَا) ، بِالرَّفْع مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، وَأَصله: كتب الله مَكَان تِلْكَ النَّفس المخلوقة، وَكلمَة: من، للْبَيَان.
قَوْله: ( وَالنَّار) ، قَالَ الْكرْمَانِي: الْوَاو فِي: النَّار، بِمَعْنى: أَو.
قلت: لم أدر مَا حمله على هَذَا.
قَوْله: ( وَإِلَّا) كلمة: إِلَّا، الثَّانِيَة تروى بِالْوَاو وتروى بِدُونِهَا، وَفِيه غرابة من الْكَلَام، وَهِي أَن قَوْله: ( مَا من نفس) يحْتَمل أَن يكون بَدَلا من قَوْله: ( مَا مِنْكُم) وَأَن يكون إلاَّ ثَانِيًا بَدَلا من إلاَّ أَولا.
وَيحْتَمل أَن يكون من بابُُ اللف والنشر، وَأَن يكون تعميما بعد تَخْصِيص، إِذْ الثَّانِي فِي كل مِنْهَا أَعم من الأول.
قَوْله: ( شقية) قَالَ الْكرْمَانِي: بِالرَّفْع أَي: هِيَ شقية.
قلت: وَجه ذَلِك هُوَ أَن الضَّمِير فِي قَوْله: ( إلاَّ قد كتب) ، يرجع إِلَى قَوْله: ( مَكَانهَا) ، لِأَنَّهُ بدل مِنْهُ فَلَا يَصح أَن يكون ارْتِفَاع: شقية، إلاَّ بِتَقْدِير شَيْء مَحْذُوف حِينَئِذٍ وَهُوَ لفظ: هِيَ، على أَنه مُبْتَدأ وشقية خَبره.
قَوْله: ( فَقَالَ رجل) قيل: إِنَّه عمر، وَقيل: إِنَّه غَيره.
قَوْله: ( أَفلا نَتَّكِل على كتَابنَا؟) أَي: الَّذِي قدر الله علينا ونتكل؟ أَي: نعتمد؟ وَأَصله: نوتكل، فأبدلت التَّاء من الْوَاو وأدغمت فِي الْأُخْرَى لِأَن أَصله من وكل يكل.
قَوْله: ( وَنَدع الْعَمَل) أَي: نتركه.
قَوْله: ( فسيصير) أَي: فسيجريه الْقَضَاء إِلَيْهِ قهرا، وَيكون مآل حَاله ذَلِك بِدُونِ اخْتِيَاره.
قَوْله: ( فييسرون) ، ذكره بِلَفْظ الْجمع بِاعْتِبَار معنى الْأَهْل، وَوجه مُطَابقَة جَوَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لسؤالهم هُوَ أَنهم لما قَالُوا: إِنَّا نَتْرُك الْمَشَقَّة الَّتِي فِي الْعَمَل الَّذِي لأَجلهَا سمي بالتكليف، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لَا مشقة ثمَّة إِذْ كل ميسر لما خلق لَهُ) ، ( وَهُوَ يسيرٌ على من يسره الله عَلَيْهِ) .
فَإِن قيل: إِذا كَانَ الْقَضَاء الأزلي يَقْتَضِي ذَلِك، فَلم الْمَدْح والذم وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب؟ أُجِيب: بِأَن الْمَدْح والذم بِاعْتِبَار الْمَحَلِّيَّة لَا بِاعْتِبَار الفاعلية، وَهَذَا هُوَ المُرَاد باكسب الْمَشْهُور عَن الأشاعرة، وَذَلِكَ كَمَا يمدح الشَّيْء ويذم بحسنه وقبحه وسلامته وعاهته.
وَأما الثَّوَاب وَالْعِقَاب فكسائر العاديات، فَكَمَا لَا يَصح عندنَا أَن يُقَال: لم خلق الله تَعَالَى الإحتراق عقيب مماسة النَّار وَلم يحصل ابْتِدَاء؟ فَكَذَا هَهُنَا،.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: الْجَواب من الإسلوب الْحَكِيم مَنعهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الاتكال وَترك الْعَمَل، وَأمرهمْ بِالْتِزَام مَا يجب على العَبْد من الْعُبُودِيَّة، وَإِيَّاكُم وَالتَّصَرُّف فِي الْأُمُور الإلهية فَلَا تجْعَلُوا الْعِبَادَة وَتركهَا سَببا مُسْتقِلّا لدُخُول الْجنَّة وَالنَّار، بل إِنَّهَا عَلَامَات فَقَط،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: لما أخبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن سبق الْكتاب بالسعادة رام الْقَوْم أَن يتخذوه حجَّة فِي ترك الْعَمَل، فأعلمهم أَن هُنَا أَمريْن لَا يبطل أَحدهمَا الآخر: بَاطِن هُوَ الْعلَّة الْمُوجبَة فِي حكم الربوبية، وَظَاهر هُوَ التَّتِمَّة اللَّازِمَة فِي حق الْعُبُودِيَّة، وَإِنَّمَا هُوَ أَمارَة مخيلة فِي مطالقة علم العواقب غير مفيدة حَقِيقَة، وبيَّن لَهُم أَن كلا ميسر لما خلق لَهُ، وَأَن عمله فِي العاجل دَلِيل مصيره فِي الآجل، وَلذَلِك مثل بقوله تَعَالَى: { فَأَما من أعْطى وَاتَّقَى} ( الَّيْلِ: 5) .
الْآيَة، وَنَظِيره الرزق الْمَقْسُوم مَعَ الْأَمر بِالْكَسْبِ، وَالْأَجَل الْمَضْرُوب مَعَ التعالج بالطب، فَإنَّك تَجِد الْبَاطِن مِنْهُمَا على مُوجبه، وَالظَّاهِر سَببا مخيلاً، وَقد اصْطَلحُوا على أَن الظَّاهِر مِنْهُمَا لَا يتْرك للباطن.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ ابْن بطال: هَذَا الحَدِيث أصل لأهل السّنة فِي أَن السَّعَادَة والشقاوة بِخلق الله تَعَالَى، بِخِلَاف قَول الْقَدَرِيَّة الَّذين يَقُولُونَ: إِن الشَّرّ لَيْسَ بِخلق الله.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: فِيهِ إِثْبَات للقدر، وَإِن جمع الْوَاقِعَات بِقَضَاء الله تَعَالَى وَقدره، لَا يُسأل عَمَّا يفعل، وَقيل: إِن سر الْقدر ينْكَشف لِلْخَلَائِقِ إِذا دخلُوا الْجنَّة، وَلَا ينْكَشف لَهُم قبل دُخُولهَا، وَفِيه رد على أهل الْجَبْر، لِأَن الْمُجبر لَا يَأْتِي الشَّيْء إلاَّ وَهُوَ يكرههُ، والتيسير ضد الْجَبْر، أَلا ترى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( إِن الله تجَاوز عَن أمتِي مَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ) .
قَالَ: والتيسير هُوَ أَن يَأْتِي الْإِنْسَان الشَّيْء وَهُوَ يُحِبهُ.

وَاخْتلف أهل يعلم فِي الدُّنْيَا الشقي من السعيد؟ فَقَالَ قوم: نعم، محتجين بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة، والْحَدِيث لِأَن كل عمل أَمارَة على جَزَائِهِ.
.

     وَقَالَ  قوم: لَا، وَالْحق فِي ذَلِك أَنه يدْرك ظنا لَا جزما.
.

     وَقَالَ  الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية: من اشْتهر لَهُ لِسَان صدق فِي النَّاس من صالحي هَذِه الْأمة هَل يقطع لَهُ بِالْجنَّةِ؟ فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء رَحِمهم الله.

وَفِيه: جَوَاز الْقعُود عِنْد الْقُبُور والتحدث عِنْدهَا بِالْعلمِ والمواعظ.
وَفِيه: نكته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمِخْصَرَةِ فِي الأَرْض.
أصل تَحْرِيك الإصبع فِي التَّشَهُّد.
قَالَه الْمُهلب.
فَإِن قلت: مَا معنى النكت بِالْمِخْصَرَةِ؟ قلت: هُوَ إِشَارَة إِلَى إِحْضَار الْقلب للمعاني.
وَفِيه: نكس الرَّأْس عِنْد الْخُشُوع والتفكر فِي أَمر الْآخِرَة.
وَفِيه: إِظْهَار الخضوع والخشوع عِنْد الْجِنَازَة، وَكَانُوا إِذا حَضَرُوا جَنَازَة يلقى أحدهم حَبِيبه وَلَا يقبل عَلَيْهِ إلاَّ بِالسَّلَامِ حَتَّى يرى أَنه وَاجِد عَلَيْهِ، وَكَانُوا لَا يَضْحَكُونَ هُنَاكَ، وَرَأى بَعضهم رجلا يضْحك فآلى أَن لَا يكلمهُ أبدا، وَكَانَ يبْقى أثر ذَلِك عِنْدهم ثَلَاثَة أَيَّام لشدَّة مَا يحصل فِي قُلُوبهم من الْخَوْف والفزع.
وَفِيه: أَن النَّفس المخلوقة إِمَّا سعيدة وَإِمَّا شقية، وَلَا يُقَال: إِذا وَجَبت الشقاوة والسعادة بِالْقضَاءِ الأزلي وَالْقدر الإلهي فَلَا فَائِدَة فِي التَّكْلِيف، فَإِن هَذَا أعظم شبه النافين للقدر، وَقد أجابهم الشَّارِع بِمَا لَا يبْقى مَعَه إِشْكَال، وَوجه الِانْفِصَال أَن الرب تَعَالَى أمرنَا بِالْعَمَلِ، فَلَا بُد من امتثاله، وغيب عَنَّا الْمَقَادِير لقِيَام حجَّته وزجره، وَنصب الْأَعْمَال عَلامَة على مَا سبق فِي مَشِيئَته، فسبيله التَّوَقُّف، فَمن عدل عَنهُ ضل لِأَن الْقدر سر من أسراره لَا يطلع عَلَيْهِ إلاَّ هُوَ فَإِذا دخلُوا الْجنَّة كشف لَهُم.