فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب صدقة السر

( بابُ صَدَقَةِ السِّرِّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر صَدَقَة السِّرّ، وَلم يذكر فِي هَذَا الْبَاب إلاَّ الحَدِيث الْمُعَلق وَالْآيَة الْكَرِيمَة.
وقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورَجُلٌ تصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنعَتْ يَمِينُهُ مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن قَوْله: ( فأخفاها) أَي: الصَّدَقَة، وَهِي صَدَقَة السِّرّ، وَهَذَا الْمُعَلق ذكره مَوْصُولا فِي: بَاب من جلس فِي الْمَسْجِد ينْتَظر الصَّلَاة، عَن مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى عَن عبيد الله عَن حبيب بن عبد الرَّحْمَن عَن حَفْص بن عَاصِم عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: سَبْعَة يظلهم الله فِي ظله ... الحَدِيث، وَهَذَا الْمُعَلق قِطْعَة مِنْهُ، وَلَكِن لَفظه هُنَاكَ: ( وَرجل تصدق بِصَدقَة وأخفى حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تنْفق يَمِينه) .
وَذكره أَيْضا بِتَمَامِهِ فِي الْبَاب الثَّالِث بعد هَذَا الْبَاب، وَهُوَ: بَاب الصَّدَقَة بِالْيَمِينِ، على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: ( وَرجل) ، عطف على مَا قبله فِي الحَدِيث الْمَذْكُور.
وقالَ الله تَعَالى: { وَإنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهْوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ( الْبَقَرَة: 172) .
مُطَابقَة هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وأولها: { إِن تبدوا الصَّدقَات فَنعما هِيَ} ( الْبَقَرَة: 172) .
أَي: إِن أظهرتموا الصَّدَقَة فَنعم شَيْء هِيَ.
وَقيل: فنعمت الْخصْلَة هِيَ، نزلت لما سَأَلُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: صَدَقَة السِّرّ أفضل أم الْجَهْل؟ قَالَ الطَّبَرِيّ: وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَن قَوْله تَعَالَى: { إِن تبدوا الصَّدقَات فَنعما هِيَ} ( الْبَقَرَة: 172) .
إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} ( الْبَقَرَة: 472) .
كَانَ هَذَا يعْمل بِهِ قبل أَن تنزل بَرَاءَة، فَلَمَّا نزلت بَرَاءَة بفرائض الصَّدقَات أقربت الصَّدقَات إِلَيْهَا.
وَعَن قَتَادَة: { إِن تبدوا الصَّدقَات فَنعما هِيَ وَإِن تخفوها} ( الْبَقَرَة: 172) .
كل مَقْبُول إِذا كَانَت النِّيَّة صَادِقَة، وَصدقَة السِّرّ أفضل.
وَذكر لنا أَن الصَّدَقَة تطفىء الْخَطِيئَة كَمَا يطفىء المَاء النَّار.
.

     وَقَالَ هُ أَيْضا الرّبيع، وَعَن ابْن عَبَّاس: جعل الله صَدَقَة السِّرّ فِي التَّطَوُّع تفضل علانيتها يُقَال: بسبعين ضعفا، وَجعل صَدَقَة الْفَرِيضَة علانيتها تفضل من سرها يُقَال بِخَمْسَة وَعشْرين ضعفا، وَكَذَلِكَ جَمِيع الْفَرَائِض والنوافل فِي الْأَشْيَاء كلهَا.
.

     وَقَالَ  سُفْيَان: هُوَ سوى الزَّكَاة،.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: إِنَّمَا عَنى الله جلّ ثَنَاؤُهُ بقوله: { إِن تبدوا الصَّدقَات} ( الْبَقَرَة: 172) .
يَعْنِي على أهل الْكِتَابَيْنِ من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَنعما هِيَ، وَإِن تخفوها وتؤتوها فقراءهم فَهُوَ خير لكم.
قَالُوا: فَأَما من أعْطى فُقَرَاء الْمُسلمين من زَكَاة وَصدقَة وتطوع فإخفاؤه أفضل، ذكر ذَلِك يزِيد بن أبي حبيب.
وَنقل الطَّبَرِيّ وَغَيره الْإِجْمَاع على أَن الإعلان فِي صَدَقَة الْفَرْض أفضل من الْإخْفَاء وَصدقَة التَّطَوُّع على الْعَكْس من ذَلِك.
وَنقل أَبُو إِسْحَاق الزّجاج أَن إخفاء الزَّكَاة فِي زمن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ أفضل، فَأَما بعده فَإِن الظَّن يساء بِمن أخفاها، فَلهَذَا كَانَ إِظْهَار الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة أفضل.
.

     وَقَالَ  أَبُو عَطِيَّة: وَيُشبه فِي زَمَاننَا أَن يكون الْإخْفَاء بِصَدقَة الْفَرْض أفضل، فقد كثر الْمَانِع لَهَا وَصَارَ إخْرَاجهَا عرضة للرياء.
قَوْله: { إِن تبدوا} ( الْبَقَرَة: 172) .
قَالَ الزّجاج: يَعْنِي: تظهروا، يُقَال: بدا يَبْدُو إِذا ظهر، وأبديته إبداء إِذا أظهرته، وبدا لي بداء إِذا تغير رَأْيه عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ.
قَوْله: { فَنعما هِيَ} ( الْبَقَرَة: 172) .
فِيهِ قراآت موضعهَا فِي محلهَا.
قَوْله: { وَإِن تخفوها} ( الْبَقَرَة: 172) .
من الْإخْفَاء، يُقَال: أخفيت الشَّيْء إخفاء إِذا سترته، وخفي الشَّيْء خَفَاء إِذا استتر، وخفيته أخفيه خفِيا إِذا أظهرته.
وَأهل الْمَدِينَة يسمون النباش المختفي.
وَفِي تَفْسِير ابْن كثير.
قَوْله: { وَإِن تخفوها وتؤتوها الْفُقَرَاء} ( الْبَقَرَة: 172) .
فِيهِ دَلِيل على أَن إسرار الصَّدَقَة أفضل من إظهارها، لِأَنَّهُ أبعد عَن الرِّيَاء إلاَّ أَن يتربت على الْإِظْهَار مصلحَة راجحة من اقْتِدَاء النَّاس بِهِ، فَيكون أفضل من هَذِه الْحَيْثِيَّة، والإسرار أفضل لهَذِهِ الْآيَة.
وَلما ثَبت فِي ( الصَّحِيح) عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( سَبْعَة يظلهم الله) الحَدِيث،.

     وَقَالَ  الإِمَام أَحْمد: حَدثنَا يزِيد بن هَارُون أخبرنَا الْعَوام بن حَوْشَب عَن سُلَيْمَان بن أبي سُلَيْمَان عَن أنس بن مَالك، عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ( لما خلق الله الأَرْض جعلت تميد، فخلق الْجبَال فألقاها عَلَيْهَا فاستقرت، فتعجب الْمَلَائِكَة من خلق الْجبَال، فَقَالَت: يَا رب، فَهَل من خلقك شَيْء أَشد من الْجبَال؟ فَقَالَ: نعم الْحَدِيد.
قَالَت: يَا رب فَهَل من خلقك شَيْء أَشد من الْحَدِيد؟ قَالَ: نعم النَّار.
قَالَت: يَا رب فَهَل من خلقك شَيْء أَشد من النَّار؟ قَالَ: نعم المَاء.
قَالَت: يَا رب فَهَل من خلقك شَيْء أَشد من المَاء؟ قَالَ: نعم الرّيح.
قَالَت: يَا رب فَهَل من خلقك شَيْء أَشد من الرّيح؟ قَالَ: نعم، ابْن آدم يتَصَدَّق بِيَمِينِهِ فيخفيها من شِمَاله)
.
.

     وَقَالَ  ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي، قَالَ: حَدثنَا الْحُسَيْن بن زِيَاد الْمحَاربي، مُؤذن محَارب، أخبرنَا مُوسَى بن عُمَيْر عَن عَامر الشّعبِيّ.
فِي قَوْله تَعَالَى: { إِن تبدوا الصَّدقَات فَنعما هِيَ وَإِن تخفوها وتؤتوها الْفُقَرَاء فَهُوَ خير لكم} ( الْبَقَرَة: 172) .
قَالَ: أنزلت فِي أبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
أما عمر: فجَاء بِنصْف مَاله حَتَّى دَفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا خلفت وَرَاءَك لأهْلك يَا عمر؟ قَالَ: خلفت لَهُم نصف مَالِي.
وَأما أَبُو بكر، فجَاء بِمَالِه كُله، فكاد أَن يخفيه من نَفسه حَتَّى دَفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا خلفت وَرَاءَك يَا أَبَا بكر؟ فَقَالَ: عدَّة الله وعدة رَسُوله، فَبكى عمر،.

     وَقَالَ : بِأبي أَنْت يَا أَبَا بكر، وَالله مَا أسبقنا إِلَى بَاب خير قطّ ألاَّ كنت سَابِقًا، وَتَمام الْآيَة الْمَذْكُورَة: { ونكفر عَنْكُم من سَيِّئَاتكُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} ( الْبَقَرَة: 172) .
أَي: نكفر عَنْكُم بدل الصَّدقَات من سَيِّئَاتكُمْ أَي من ذنوبكم، قَرَأَ ابْن عَامر وَعَاصِم من رِوَايَة حَفْص: يكفر، بِالْيَاءِ وَضم الرَّاء، وَقَرَأَ حَمْزَة وَنَافِع وَالْكسَائِيّ: ونكفر، بالنُّون وَجزم الرَّاء، وَقَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو وَعَاصِم فِي رِوَايَة أبي بكر: ونكفر، بالنُّون وَضم الرَّاء { وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} ( الْبَقَرَة: 172) .
أَي: لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء من ذَلِك وسيجزيكم عَلَيْهِ، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.