فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول الله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} [البقرة: 197]

(بابُُ قَوْلِ الله تَعَالَى: { وتَزَوَّدُوا فإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (الْبَقَرَة: 791) .
)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان التزود الْمَأْمُور بِهِ فِي قَول الله تَعَالَى: { وتزودوا} (الْبَقَرَة: 791) .
وَإِنَّمَا أَمر بالتزود ليكف الَّذِي يحجّ وَجهه عَن النَّاس.
قَالَ الْعَوْفِيّ: عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (كَانَ أنَاس يخرجُون من أَهْليهمْ لَيْسَ مَعَهم زَاد، يَقُولُونَ: نحجّ بَيت الله وَلَا يطعمنا؟ فَقَالَ الله: تزودوا مَا يكف وُجُوهكُم عَن النَّاس) وروى ابْن جرير وَابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث عَمْرو بن عبد الْغفار عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: (كَانُوا إِذا أَحْرمُوا وَمَعَهُمْ أَزْوَادهم رموا بهَا واستأنفوا زادا آخر، فَأنْزل الله تَعَالَى: { وتزودوا فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى} (الْبَقَرَة: 791) .
فنهوا عَن ذَلِك وَأمرُوا أَن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق، ثمَّ لما أَمرهم بالزاد للسَّفر فِي الدُّنْيَا أرشدهم إِلَى زَاد الْآخِرَة، وَهُوَ اسْتِصْحَاب التَّقْوَى إِلَيْهَا، وَذكر أَنه خير من هَذَا وأنفع.
قَالَ عَطاء الْخُرَاسَانِي: فِي قَوْله: { فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى} (الْبَقَرَة: 791) .
يَعْنِي: زَاد الْآخِرَة، وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث قيس عَن جرير بن عبد الله عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من تزَود فِي الدُّنْيَا يَنْفَعهُ فِي الْآخِرَة) .
ثمَّ قَالَ: { واتقونِ يَا أولي الْأَلْبابُُ} (الْبَقَرَة: 791) .
يَقُول: اتَّقوا عقابي ونكالي وعذابي لمن خالفني، وَلم يأتمر بأَمْري يَا ذَوي الْعُقُول والأفهام.



[ قــ :1463 ... غــ :1523 ]
- حدَّثنا يَحْيَى بنُ بِشْرٍ قَالَ حدَّثنا شَبابَُةَ عنْ وَرْقَاءَ عَن عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عَن عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
قَالَ كانَ أهْلُ اليَمَنِ يَحُجُّونَ وَلاَ يَتَزَوَّدُونَ ويَقُولُونَ نَحْنُ المُتَوَكِّلُونَ فَإِذا قَدِمُوا المَدينةَ سًّلُوا النَّاسَ فأنْزلَ الله تَعَالَى وتَزَوَّدُوا فإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يبين سَبَب نزُول الْآيَة الَّتِي ترْجم بهَا الْبابُُ.

ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: يحيى بن بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: أَبُو زَكَرِيَّا أحد عباد الله الصَّالِحين، مَاتَ سنة ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: شَبابَُة، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف بَاء أُخْرَى: ابْن سوار الْفَزارِيّ، مر فِي: بابُُ الصَّلَاة على النُّفَسَاء، فِي كتاب الْحيض.
الثَّالِث: وَرْقَاء مؤنث الأورق، ابْن عَمْرو بن كُلَيْب أَبُو بشر الْيَشْكُرِي، مر فِي: بابُُ وضع المَاء فِي الْخَلَاء، الرَّابِع: عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن دِينَار، مر فِي: بابُُ كتاب الْعلم.
الْخَامِس: عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس.
السَّادِس: عبد الله ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: إِن شَيْخه من أَفْرَاده وَإنَّهُ بلخي وَأَن شَبابَُة مدائني وَأَن أصل وَرْقَاء من خوارزم، وَقيل؛ من الْكُوفَة، سكن الْمَدَائِن، وَأَن عَمْرو بن دِينَار مكي وَأَن عِكْرِمَة مدنِي وَأَصله من البربر.

ذكر من أخرجه غَيره أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن أبي مَسْعُود أَحْمد بن الْفُرَات وَمُحَمّد بن عبد الله المخرمي، كِلَاهُمَا عَن شَبابَُة.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير وَفِي التَّفْسِير عَن سعيد ابْن عبد الرَّحْمَن.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَإِذا قدمُوا الْمَدِينَة) ، هَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَإِذا قدمُوا مَكَّة) وَهُوَ الأصوب، كَذَا أخرجه أَبُو نعيم من طَرِيق مُحَمَّد بن عبد الله المخرمي عَن شَبابَُة، وَهُوَ الْأَصَح.
قَوْله: (التَّقْوَى) أَي: الخشية من الله تَعَالَى.

وَفِيه: من الْفِقْه: ترك سُؤال النَّاس من التَّقْوَى، أَلا يرى أَن الله تَعَالَى مدح قوما، فَقَالَ: { لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافا} (الْبَقَرَة: 372) .
وَكَذَلِكَ معنى آيَة الْبابُُ، أَي: تزودوا فَلَا تُؤْذُوا النَّاس بسؤالكم إيَّاهُم، وَاتَّقوا الْإِثْم فِي أذاهم بذلك.
وَفِيه: أَن التَّوَكُّل، لَا يكون مَعَ السُّؤَال، وَإِنَّمَا التَّوَكُّل على الله بِدُونِ استعانة بِأحد فِي شَيْء، وَيبين ذَلِك قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يدْخل الْجنَّة سَبْعُونَ ألفا بِغَيْر حِسَاب، وهم الَّذِي لَا يسْتَرقونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ) ، فَهَذِهِ أَسبابُُ التَّوَكُّل وَصِفَاته،.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: لما كَانَ التزود ترك الْمَسْأَلَة الْمنْهِي عَنْهَا فِي غير الْحَج، وَكَانَت حَرَامًا على الْأَغْنِيَاء قبل الْحَج، كَانَت فِي الْحَج أوكد حُرْمَة.
وَفِيه: زجر عَن التكفف وترغيب فِي التعفف والقناعة بالإقلال، وَلَيْسَ فِيهِ مذمة للتوكل، نعم المذلة على سُؤَالهمْ إِذْ مَا كَانَ ذَلِك توكلاً بل تأكلاً، وَمَا كَانُوا متوكلين بل متأكلين، إِذْ التَّوَكُّل هُوَ قطع النّظر عَن الْأَسْبابُُ مَعَ تهيئة الْأَسْبابُُ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (قيدها وتوكل) .

رَواهُ ابنُ عُيَيْنَةَ عنْ عَمْرٍ وعنْ عِكْرِمَةَ مُرْسلاً.


أَي: روى هَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عِكْرِمَة مُرْسلا، يَعْنِي: لم يذكر ابْن عَبَّاس، وَهَكَذَا أخرجه سعيد بن مَنْصُور عَن ابْن عُيَيْنَة، وَكَذَا أخرجه الطَّبَرِيّ عَن عَمْرو بن عَليّ وَابْن أبي حَاتِم عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد الْمقري، كِلَاهُمَا عَن ابْن عُيَيْنَة مُرْسلا.
قَالَ ابْن أبي حَاتِم: وَهُوَ أصح من رِوَايَة وَرْقَاء، وَاخْتلف فِيهِ على ابْن عُيَيْنَة، فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي عَنهُ مَوْصُولا بِذكر ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَأخرجه الطَّبَرِيّ وَابْن أبي حَاتِم كَمَا ذَكرْنَاهُ مُرْسلا.