فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الإحصار في الحج

( بابُُ الإحْصَارِ فِي الحَجِّ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الْإِحْصَار فِي الْحَج.
قيل: أَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى أَن الْإِحْصَار فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا وَقع فِي الْعمرَة، فقاس الْعلمَاء الْحَج على ذَلِك، وَهُوَ من الْإِلْحَاق بِنَفْي الْفَارِق، وَهُوَ من أقوى الأقيسة.
قلت: لما بَين فِي الْبابُُ السَّابِق الْإِحْصَار فِي الْعمرَة، بَين عَقِيبه الْإِحْصَار فِي الْحَج، وَذكر فِي كل مِنْهُمَا حَدِيثا، فَلَا حَاجَة إِلَى إِثْبَات حكم الْإِحْصَار فِي الْحَج بِالْقِيَاسِ.



[ قــ :1729 ... غــ :1810 ]
- حدَّثنا أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيَّ قَالَ أخبرَنِي سَالِمٌ قَالَ كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ ألَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنْ حُبِسَ أحَدُكُمْ عنِ الحَجِّ طافَ بِالْبَيْتِ وبِالصَّفَا والمَرْوَةِ ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَاما قابِلاً فَيُهْدِي أوْ يَصُومَ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( إِن حبس أحدكُم عَن الْحَج) ، وَالْحَبْس عَن الْحَج هُوَ الْإِحْصَار فِيهِ، وَأحمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى أَبُو الْعَبَّاس، يُقَال لَهُ: مرْدَوَيْه السمسار الْمروزِي، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم، وَسَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب.

والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ عَن أَحْمد عَن عَمْرو ابْن السَّرْح والْحَارث بن مِسْكين كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب قَوْله: ( أَلَيْسَ حسبكم سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟) أَي: أَلَيْسَ يكفيكم سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ لِأَن معنى الْحسب الْكِفَايَة، وَمِنْه: حَسبنَا الله أَي: كافينا، وحسبكم مَرْفُوع لِأَنَّهُ إسم: لَيْسَ، وسنَّة رَسُول الله كَلَام إضافي مَنْصُوب على أَنه خبر: لَيْسَ،.

     وَقَالَ  عِيَاض: ضَبطنَا سنة بِالنّصب على الإختصاص أَو على إِضْمَار فعل، أَي: تمسكوا، وَشبهه.
.

     وَقَالَ  السُّهيْلي: من نصب سنة فَهُوَ بإضمار الْأَمر كَأَنَّهُ قَالَ: إلزموا سنة نَبِيكُم.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: خبر: حسبكم، فِي قَوْله: ( طَاف بِالْبَيْتِ) .
قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل خبر لَيْسَ على وَجه نصب سنة على قَول عِيَاض والسهيلي.
قَوْله: ( طَاف بِالْبَيْتِ) وَهُوَ أَيْضا سد مسد جَوَاب الشَّرْط.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: إِذا كَانَ محصرا فَكيف يطوف بِالْبَيْتِ؟ قلت: المُرَاد من قَوْله: ( ان حبس) الْحَبْس عَن الْوُقُوف بِعَرَفَة قلت: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّقْدِير، لِأَن معنى: ( طَاف بِالْبَيْتِ) أَي: إِذا أمكنه ذَلِك، وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق: ( إِن حبس أحدا مِنْكُم حَابِس عَن الْبَيْت فَإِذا وصل إِلَيْهِ طَاف بِهِ) .
قَوْله: ( وبالصفا والمروة) ، أَي: طَاف بهما، أَي: سعى بَين الصَّفَا والمروة.
قَوْله: ( فيهدي) أَي: يذبح شَاة، إِذْ التَّحَلُّل لَا يحصل إلاَّ بنية التَّحَلُّل وَالذّبْح وَالْحلق، وَإِن لم يجد الْهَدْي يَصُوم بدله بِعَدَد أَمْدَاد الطَّعَام الَّذِي يحصل من قِيمَته.
قلت: هَكَذَا ذكره الْكرْمَانِي، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَمن تَابعه، فَإِن عِنْده حكم الْمَكِّيّ والغريب سَوَاء فِي الْإِحْصَار، فيطوف وَيسْعَى وَيحل وَلَا عمْرَة عَلَيْهِ على ظَاهر حَدِيث ابْن عمر، وأوجبها مَالك على الْمحصر الْمَكِّيّ وعَلى من أنشأ من مَكَّة، وَعند أبي حنيفَة: لَا يكون محصرا من بلغ مَكَّة، لِأَن الْمحصر عِنْده من منع الْوُصُول إِلَى مَكَّة وحيل بَينه وَبَين الطّواف وَالسَّعْي، فيفعل مَا فعل الشَّارِع من الْإِحْلَال من مَوْضِعه، وَأما من بلغَهَا فَحكمه عِنْده كمن فَاتَهُ الْحَج: يحل بِعُمْرَة وَعَلِيهِ الْحَج من قَابل، وَلَا هدي عَلَيْهِ لِأَن الْهَدْي لجبر مَا أدخلهُ على نَفسه، وَمن حبس عَن الْحَج فَلم يدْخل على نَفسه نقصا.
.

     وَقَالَ  الزُّهْرِيّ: إِذا أحْصر الْمَكِّيّ فَلَا بُد لَهُ من الْوُقُوف بِعَرَفَة، وَإِن تعسر بعشي.
وَفِي حَدِيث ابْن عمر رد عَلَيْهِ لِأَن الْمحصر لَو وقف بِعَرَفَة لم يكن محصرا، ألاَ يرى قَول ابْن عمر: طَاف بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة، وَلم يذكر الْوُقُوف بِعَرَفَة.

وَعَن عَبْدِ الله قَالَ أخبرَنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني سالِمٌ عنِ ابنِ عُمَرَ نَحْوَهُ
عبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن عبد الله بن الْمُبَارك حدث بِهِ تَارَة عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ، وَتارَة عَن معمر عَنهُ.
فَإِن قلت: قَوْله: وَعَن عبد الله، مَعْطُوف على: مَاذَا؟ قلت: قيل: إِنَّه مَعْطُوف على الْإِسْنَاد الأول، وَلَيْسَ هُوَ بمعلق كَمَا ادَّعَاهُ بَعضهم.
قلت: كَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَعْضِ الْمُحب الطَّبَرِيّ، وَقد أخرج التِّرْمِذِيّ، فَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن منيع حَدثنَا عبد الله بن الْمُبَارك أَخْبرنِي معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه أَنه كَانَ يُنكر الِاشْتِرَاط فِي الْحَج، وَيَقُول: أَلَيْسَ حسبكم سنة نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: يُرِيد بِهِ عدم الِاشْتِرَاط كَمَا هُوَ مُبين عِنْد النَّسَائِيّ من رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه أَنه كَانَ يُنكر الِاشْتِرَاط فِي الْحَج، وَيَقُول: أما حسبكم سنة نَبِيكُم أَنه لم يشْتَرط؟ وَهَكَذَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: ( أما حسبكم سنة نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لم يشْتَرط؟) فَإِن قلت: روى مُسلم من رِوَايَة رَبَاح بن أبي مَعْرُوف عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن ابْن عَبَّاس ( أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لضباعة: حجي واشترطي أَن محلي حَيْثُ حبستني) .
وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَة أَيْضا، فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن عباد بن الْعَوام، وَأخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة ثَبت بن يزِيد الْأَحول عَن هِلَال بن خبابُ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن زِيَاد بن أَيُّوب الْبَغْدَادِيّ: حَدثنَا عباد بن الْعَوام عَن هِلَال بن خبابُ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: ( أَن ضباعة بنت الزبير أَتَت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت: يَا رَسُول الله! إِنِّي أُرِيد الْحَج أفأشترط؟ قَالَ: نعم.
قَالَت: كَيفَ أَقُول؟ قَالَ: قولي لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك محلي من الأَرْض حَيْثُ تحبسني)
.
وَأخرجه أَيْضا مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة ابْن جريج عَن أبي الزبير عَن طَاوُوس وَعِكْرِمَة كِلَاهُمَا ( عَن ابْن عَبَّاس: أَن ضباعة بنت الزبير بن عبد الْمطلب أَتَت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت إِنِّي امْرَأَة ثَقيلَة، فَإِنِّي أُرِيد الْحَج فَمَا تَأْمُرنِي؟ قَالَ: أَهلِي واشترطي أَن محلي حَيْثُ حبستني) ، وَلما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ قَالَ: وَفِي الْبابُُ عَن جَابر وَأَسْمَاء بنت أبي بكر وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
قلت: أما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة هِشَام الدستوَائي عَن جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لضباعة بنت الزبير: ( حجي واشترطي أَن محلي حَيْثُ حبستني) .
وَأما حَدِيث أَسمَاء فَرَوَاهُ ابْن مَاجَه على الشَّك من رِوَايَة عُثْمَان بن حَكِيم عَن أبي بكر بن عبد الله بن الزبير عَن جدته، قَالَ: لَا أَدْرِي أَسمَاء بنت أبي بكر أَو سعدى بنت عَوْف، ( أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل على ضباعة بنت عبد الْمطلب فَقَالَ: مَا يمنعك يَا عمتاه من الْحَج؟ فَقَالَت: أَنا امْرَأَة سقيمة، وَأَنا أَخَاف الْحَبْس { قَالَ: فأحرمي واشترطي أَن محلك حَيْثُ حبست) .
وَهَكَذَا أخرجه أَحْمد فِي ( مُسْنده) وَالطَّبَرَانِيّ عَن جدته لم يسمهَا.
وَأما حَدِيث عَائِشَة فمتفق عَلَيْهِ على مَا يَجِيء إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

وَحَدِيث ضباعة لَهُ طرق: مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة يحيى بن سعيد عَن سعيد بن الْمسيب ( عَن ضباعة بنت الزبير، قَالَت: قلت: يَا رَسُول الله} إِنِّي أُرِيد الْحَج فَكيف أهل بِالْحَجِّ؟ قَالَ: قولي: أللهم إِنِّي أهل بِالْحَجِّ إِن أَذِنت لي بِهِ، وأعنتني عَلَيْهِ، ويسرته لي، وَإِن حبستني فعمرة، وَإِن حبستني عَنْهُمَا فمحلي حَيْثُ حبستني)
، وضباعة بنت الزبير بن عبد الْمطلب، وَهِي ابْنة عَم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَوَقع عِنْد ابْن مَاجَه: ضباعة بنت عبد الْمطلب، وَذَلِكَ نِسْبَة إِلَى جدها، وَوَقع فِي ( الْوَسِيط) للغزالي عِنْد ذكر هَذَا الحَدِيث: أَنَّهَا ضباعة الأسْلَمِيَّة، وَهُوَ غلط، وَإِنَّمَا هِيَ هاشمية.

وَقد ضعف بعض لمالكية أَحَادِيث الِاشْتِرَاط فِي الْحَج، فَحكى القَاضِي عِيَاض عَن الْأصيلِيّ قَالَ: لَا يثبت عِنْدِي فِي الِاشْتِرَاط إِسْنَاد صَحِيح، قَالَ: قَالَ النَّسَائِيّ: لَا أعلم سَنَده عَن الزُّهْرِيّ غير معمر،.

     وَقَالَ  شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: وَمَا قَالَه الْأصيلِيّ غلط فَاحش، فقد ثَبت وَصَحَّ من حَدِيث عَائِشَة وَابْن عَبَّاس وَغَيرهمَا على مَا مر.

وَاخْتلفُوا فِي مَشْرُوعِيَّة الِاشْتِرَاط، فَقيل: وَاجِب لظَاهِر الْأَمر، وَهُوَ قَول الظَّاهِرِيَّة.
وَقيل: مُسْتَحبّ وَهُوَ قَول أَحْمد، وَغلط من حكى الْإِنْكَار عَنهُ.
وَقيل: جَائِز، وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَقطع بِهِ الشَّيْخ أَبُو حَامِد.
وَلما روى التِّرْمِذِيّ حَدِيث ضباعة بنت الزبير، قَالَ: وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد بعض أهل الْعلم، يرَوْنَ الِاشْتِرَاط فِي الْحَج، وَيَقُولُونَ: إِن اشْترط لغَرَض لَهُ كَمَرَض أَو عذر فَلهُ أَن يحل وَيخرج من إِحْرَامه، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق.
وَقيل: هُوَ قَول جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ قَالَ بِهِ عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب وَعبد الله بن مَسْعُود وعمار بن يَاسر وَعَائِشَة وَأم سَلمَة وَجَمَاعَة من التَّابِعين، وَذهب بعض التَّابِعين وَمَالك وَأَبُو حنيفَة إِلَى أَنه: لَا يَصح الِاشْتِرَاط، وحملوا الحَدِيث على أَنه قَضِيَّة عين، وَأَن ذَلِك مَخْصُوص بضباعة.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: وَلم يَرَ بعض أهل الْعلم الِاشْتِرَاط فِي الْحَج.
وَقَالُوا: إِن اشْترط فَلَيْسَ لَهُ أَن يخرج من إِحْرَامه فيرونه كمن لم يشْتَرط.
قلت: حكى الْخطابِيّ ثمَّ الرَّوْيَانِيّ من الشَّافِعِيَّة الْخُصُوص بضباعة، وَحكى إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَن مَعْنَاهُ: محلي حَيْثُ حَبَسَنِي الْمَوْت، أَي: إِذا أدركتني الْوَفَاة انْقَطع إحرامي.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: إِنَّه ظَاهر الْفساد وَلم يبين وَجهه.
وَالله أعلم.