فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب صوم شعبان

( بابُُ صَوْمَ شَعْبَانَ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل صَوْم شهر شعْبَان، وَهَذَا الْبابُُ أول شُرُوعه فِي التطوعات من الصّيام، واشتقاق شعْبَان من الشّعب، وَهُوَ الِاجْتِمَاع، سمي بِهِ لِأَنَّهُ يتشعب فِيهِ خير كثير كرمضان، وَقيل: لأَنهم كَانُوا يتشعبون فِيهِ بعد التَّفْرِقَة، وَيجمع على: شعابين، وشعبانات،.

     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد: سمي بذلك لتشعبهم فِيهِ، أَي: لتفرقهم فِي طلب الْمِيَاه.
وَفِي ( الْمُحكم) سمي بذلك لتشعبهم فِي الغارات،.

     وَقَالَ  ثَعْلَب: قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا سمي شعبانا لِأَنَّهُ: شَعَبَ، أَي: ظهر بَين رَمَضَان وَرَجَب، وَعَن ثَعْلَب: كَانَ شعْبَان شهرا تتشعب فِيهِ الْقَبَائِل، أَي تتفرق لقصد الْمُلُوك والتماس الْعَطِيَّة، وَفِي ( التَّلْوِيح) : وَأما الْأَحَادِيث الَّتِي فِي صَلَاة النّصْف مِنْهُ فَذكر أَبُو الْخطاب أَنَّهَا مَوْضُوعَة، وفيهَا عِنْد التِّرْمِذِيّ حَدِيث مَقْطُوع قلت: هُوَ الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي: بابُُ مَا جَاءَ فِي لَيْلَة النّصْف من شعْبَان، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن منيع، حَدثنَا يزِيد بن هَارُون أخبرنَا الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن يحيى بن أبي كثير عَن عُرْوَة: ( عَن عَائِشَة قَالَت: فقدت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَخرجت فَإِذا هُوَ بِالبَقِيعِ، فَقَالَ: أكنتِ تَخَافِينَ أَن يَحِيف الله عَلَيْك وَرَسُوله؟ قلت: يَا رَسُول الله! ظَنَنْت أَنَّك أتيت بعض نِسَائِك، فَقَالَ: إِن الله عز وَجل، ينزل لَيْلَة النّصْف من شعْبَان إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا فَيغْفر لأكْثر من عدد شعر غنم بني كلب) .
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث عَائِشَة لَا نعرفه إلاَّ من هَذَا الْوَجْه من حَدِيث الْحجَّاج، وَسمعت مُحَمَّدًا يضعف هَذَا الحَدِيث،.

     وَقَالَ : يحيى بن أبي كثير لم يسمع من عُرْوَة، وَالْحجاج لم يسمع من يحيى بن أبي كثير.
وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا من طَرِيق يزِيد بن هَارُون، وَقَول أبي الْخطاب: إِنَّه مَقْطُوع هُوَ أَنه مُنْقَطع فِي موضِعين: أَحدهمَا: مَا بَين الْحجَّاج وَيحيى، وَالْآخر: مَا بَين يحيى وَعُرْوَة.
فَإِن قلت: أثبت ابْن معِين ليحيى السماع من عُرْوَة.
قلت: اتّفق البُخَارِيّ وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم على أَنه لم يسمع مِنْهُ، والمثبت مقدم على النَّافِي، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فَهُوَ مَقْطُوع فِي مَوضِع وَاحِد، وَلَا يخرج عَن الِانْقِطَاع.

وروى ابْن مَاجَه من رِوَايَة ابْن أبي سُبْرَة عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن مُعَاوِيَة بن عبد الله بن جَعْفَر عَن أَبِيه عَن عَليّ بن أبي طَالب، كرم الله وَجهه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِذا كَانَت لَيْلَة النّصْف من شعْبَان فَقومُوا لَيْلهَا وصوموا نَهَارهَا، فَإِن الله تَعَالَى ينزل فِيهَا لغروب الشَّمْس إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا فَيَقُول: ألاَ مَن يستغفرني فَأغْفِر لَهُ؟ أَلا من يسترزق فأرزقه؟ ألاَ من مبتلَى فأعافيه؟ ألاَ كَذَا؟ ألاَ كَذَا؟ حَتَّى يطلع الْفجْر) .
وَإِسْنَاده ضَعِيف، وَابْن أبي سُبْرَة هُوَ أَبُو بكر بن عبد الله بن مُحَمَّد بن سُبْرَة مفتي الْمَدِينَة وقاضي بَغْدَاد ضَعِيف، وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد هُوَ ابْن أبي يحيى ضعفه الْجُمْهُور، ولعلي بن أبي طَالب حَدِيث آخر، قَالَ: ( رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة النّصْف من شعْبَان قَامَ فصلى أَربع عشرَة رَكْعَة، ثمَّ جلس، فَقَرَأَ بِأم الْقُرْآن أَربع عشرَة مرّة) الحَدِيث.
وَفِي آخِره: ( من صنع هَكَذَا لَكَانَ لَهُ كعشرين حجَّة مبرورة، وكصيام عشْرين سنة مَقْبُولَة، فَإِن أصبح فِي ذَلِك الْيَوْم صَائِما كَانَ لَهُ كصيام سِتِّينَ سنة مَاضِيَة، وَسِتِّينَ سنة مُسْتَقْبلَة) .
رَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي ( الموضوعات) .

     وَقَالَ : هَذَا مَوْضُوع، وَإِسْنَاده مظلم.
ولعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَدِيث آخر رَوَاهُ أَيْضا فِي ( الموضوعات) فِيهِ: ( من صلى مائَة رَكْعَة فِي لَيْلَة النّصْف من شعْبَان) الحَدِيث،.

     وَقَالَ : لَا شكّ أَنه مَوْضُوع، وَكَانَ بَين الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن الصّلاح وَالشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام فِي هَذِه الصَّلَاة مقاولات، فَابْن الصّلاح يزْعم أَن لَهَا أصلا من السّنة، وَابْن عبد السَّلَام يُنكره.

وَأما الْوقُود فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فَزعم ابْن دحْيَة أَن أول مَا كَانَ ذَلِك زمن يحيى بن خَالِد بن برمك، أَنهم كَانُوا مجوسا فأدخلوا فِي دين الْإِسْلَام مَا يموهون بِهِ على الطَّعَام.
قَالَ: وَلما اجْتمعت بِالْملكِ الْكَامِل وَذكرت لَهُ ذَلِك قطع دابر هَذِه الْبِدْعَة الْمَجُوسِيَّة من سَائِر أَعمال الْبِلَاد المصرية.



[ قــ :1886 ... غــ :1969 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبِي النَّضْرِ عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصُومُ حَتَّى نقُولَ لاَ يُفْطِرُ ويُفْطِرُ حَتَّى نقُولَ لاَ يَصُومُ فَمَا رأيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إلاَّ رَمَضَانَ وَمَا رأيْتُهُ أكْثَرَ صِيَاما مِنْهُ فِي شَعْبَانَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وَمَا رَأَيْته أَكثر صياما مِنْهُ من شعْبَان) وَأَبُو النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: اسْمه سَالم بن أبي أُميَّة، قد مر فِي: بابُُ الْمسْح على الْخُفَّيْنِ.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن يحيى بن يحيى.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل عَن أبي مُصعب الزُّهْرِيّ عَن مَالك.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّوْم عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان عَن ابْن وهب عَن مَالك وَعَمْرو بن الْحَارِث.

قَوْله: ( كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصُوم حَتَّى نقُول لَا يفْطر) ، يَعْنِي: يَنْتَهِي صَوْمه إِلَى غَايَة نقُول: إِنَّه لَا يفْطر، فينتهي إفطاره إِلَى غَايَة حَتَّى نقُول: إِنَّه لَا يَصُوم، وَذَلِكَ لِأَن الْأَعْمَال الَّتِي يتَطَوَّع بهَا لَيست منوطة بأوقات مَعْلُومَة، وَإِنَّمَا هِيَ على قدر الْإِرَادَة لَهَا والنشاط فِيهَا.
قَوْله: ( فَمَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتكْمل صِيَام شهر إلاَّ رَمَضَان) ، وَهَذَا يدل على أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يصم شهرا تَاما غير رَمَضَان.
فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي سَلمَة ( عَن أم سَلمَة: لم يكن يَصُوم فِي السّنة شهرا كَامِلا إلاَّ شعْبَان يصله برمضان) .
وَهَذَا يُعَارض حَدِيث عَائِشَة، وَكَذَلِكَ روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث سَالم بن أبي الْجَعْد عَن أبي سَلمَة ( عَن أم سَلمَة، قَالَت: مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصُوم شَهْرَيْن مُتَتَابعين إلاَّ شعْبَان ورمضان) .
وَهَذَا أَيْضا يُعَارضهُ.
قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: رُوِيَ عَن ابْن الْمُبَارك أَنه قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث، قَالَ: هُوَ جَائِز فِي كَلَام الْعَرَب إِذا صَامَ أَكثر الشَّهْر أَن يُقَال: صَامَ الشَّهْر كُله، وَيُقَال: قَامَ فلَان ليله أجمع، وَلَعَلَّه تعشى واشتغل بِبَعْض أمره، ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: كَانَ ابْن الْمُبَارك قد رأى كلا الْحَدِيثين متفقين، يَقُول: إِنَّمَا معنى هَذَا الحَدِيث أَنه كَانَ يَصُوم أَكثر الشَّهْر.
.

     وَقَالَ  شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى: هَذَا فِيهِ مَا فِيهِ، لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ إلاَّ شعْبَان ورمضان، فعطف رَمَضَان عَلَيْهِ يبعد أَن يكون المُرَاد بشعبان أَكْثَره، إِذْ لَا جَائِز أَن يكون المُرَاد برمضان بعضه، والعطف يَقْتَضِي الْمُشَاركَة فِيمَا عطف عَلَيْهِ، وَإِن مَشى ذَلِك فَإِنَّمَا يمشي على رَأْي من يَقُول: إِن اللَّفْظ الْوَاحِد يحمل على حَقِيقَته ومجازه، وَفِيه خلاف لأهل الْأُصُول.
انْتهى.
قلت: لَا يمشي هُنَا مَا قَالَه على رَأْي الْبَعْض أَيْضا، لِأَن من قَالَ ذَلِك قَالَ فِي اللَّفْظ الْوَاحِد، وَهنا لفظان: شعْبَان ورمضان،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: إِمَّا أَن يكون فِي أَحدهمَا وهم، أَو يكون فعل هَذَا وَهَذَا، أَو أطلق الْكل على الْأَكْثَر مجَازًا.
وَقيل: كَانَ يَصُومهُ كُله فِي سنة وَبَعضه فِي سنة أُخْرَى، وَقيل: كَانَ يَصُوم تَارَة من أَوله وَتارَة من آخِره وَتارَة مِنْهُمَا، لَا يخلي مِنْهُ شَيْئا بِلَا صِيَام.

فَإِن قلت: مَا وَجه تَخْصِيصه شعْبَان بِكَثْرَة الصَّوْم؟ قلت: لكَون أَعمال الْعِبَادَة ترفع فِيهِ.
فَفِي النَّسَائِيّ من حَدِيث أُسَامَة ( قلت: يَا رَسُول الله { أَرَاك لَا تَصُوم من شهر من الشُّهُور مَا تَصُوم من شعْبَان؟ قَالَ: ذَاك شهر ترفع فِيهِ الْأَعْمَال إِلَى رب الْعَالمين فَأحب أَن يرفع عَمَلي وَأَنا صَائِم) .
وَرُوِيَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا ( قَالَت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا لي أَرَاك تكْثر صيامك فِيهِ؟ قَالَ: يَا عَائِشَة} إِنَّه شهر ينْسَخ فِيهِ ملك الْمَوْت من يقبض، وَأَنا أحب أَن لَا ينْسَخ إسمي إلاَّ وَأَنا صَائِم)
.
قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: غَرِيب من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة بِهَذَا اللَّفْظ، رَوَاهُ ابْن أبي الفوارس فِي أصُول أبي الْحسن الحمامي عَن شُيُوخه، وَعَن حَاتِم بن إِسْمَاعِيل عَن نصر بن كثير عَن يحيى بن سعيد عَن عُرْوَة ( عَن عَائِشَة، قَالَت: لما كَانَت لَيْلَة النّصْف من شعْبَان انْسَلَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مِرْطِي) الحَدِيث.
وَفِي آخِره: ( هَل تَدْرِي مَا فِي هَذِه اللَّيْلَة؟ قَالَت: مَا فِيهَا يَا رَسُول الله؟ قَالَ: فِيهَا أَن يكْتب كل مَوْلُود من بني آدم فِي هَذِه السّنة.
وفيهَا أَن يكْتب كل هَالك من بني آدم فِي هَذِه السّنة، وفيهَا ترفع أَعْمَالهم، وفيهَا: تنزل أَرْزَاقهم)
.
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب ( الْأَدْعِيَة) .

     وَقَالَ : فِيهِ بعض من يجهل.
وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث صَدَقَة بن مُوسَى عَن ثَابت عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: ( سُئِلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي الصَّوْم أفضل بعد رَمَضَان؟ قَالَ: شعْبَان، لتعظيم رَمَضَان.
وَسُئِلَ: أَي الصَّدَقَة أفضل؟ قَالَ: صَدَقَة فِي رَمَضَان)
.
ثمَّ قَالَ: حَدِيث غَرِيب، وَصدقَة لَيْسَ عِنْدهم بِذَاكَ الْقوي، وَقد رُوِيَ أَن هَذَا الصّيام كَانَ لِأَنَّهُ كَانَ يلْتَزم صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر، كَمَا قَالَ ابْن عمر، فَرُبمَا يشْتَغل عَن صيامها أشهرا فَيجمع ذَلِك كُله فِي شعْبَان، فيتداركه قبل رَمَضَان، حَكَاهُ ابْن بطال،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: أرى الْإِكْثَار فِيهِ أَنه يَنْقَطِع عَنهُ التَّطَوُّع برمضان، وَقيل: يجوز أَنه كَانَ يَصُوم صَوْم دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام، فَيبقى عَلَيْهِ بَقِيَّة يعملها فِي هَذَا الشَّهْر.

وَجمع الْمُحب الطَّبَرِيّ فِيهِ سِتَّة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه كَانَ يلْتَزم صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر، فَرُبمَا تَركهَا فيتداركها فِيهِ.
ثَانِيهَا: تَعْظِيمًا لرمضان.
ثَالِثهَا: أَنه ترفع فِيهِ الْأَعْمَال.
رَابِعهَا: لِأَنَّهُ يغْفل عَنهُ النَّاس.
خَامِسهَا: لِأَنَّهُ تنسخ فِيهِ الْآجَال.
سادسها: أَن نِسَاءَهُ كن يصمن فِيهِ مَا فاتهن من الْحيض فيتشاغل عَنهُ بِهِ، وَالْحكمَة فِي كَونه لم يستكمل غير رَمَضَان لِئَلَّا يظنّ وُجُوبه.
فَإِن قلت: صَحَّ فِي مُسلم: أفضل الصَّوْم بعد رَمَضَان شهر الله الْمحرم، فَكيف أَكثر مِنْهُ فِي شعْبَان؟ ويعارضه أَيْضا رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: ( أَي الصَّوْم أفضل بعد رَمَضَان؟ قَالَ: شعْبَان) .
قلت: لَعَلَّه كَانَ يعرض لَهُ فِيهِ إعذار من سفر أَو مرض أَو غير ذَلِك، أَو لَعَلَّه لم يعلم بِفضل الْمحرم إلاَّ فِي آخر عمره قبل التَّمَكُّن مِنْهُ، وَلِأَن مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ لَا يُقَاوم مَا رَوَاهُ مُسلم.

قَوْله: ( أَكثر صياما) كَذَا هُوَ بِالنّصب عِنْد أَكثر الروَاة، وَحكى السُّهيْلي أَنه رُوِيَ بالخفض، قيل: هُوَ وهم، وَلَعَلَّ بعض النساخ كتب الصّيام بِغَيْر ألف على رَأْي من يقف على الْمَنْصُوب بِغَيْر ألف فَتوهم مخفوضا، أَو ظن بعض الروَاة أَنه مُضَاف إِلَيْهِ، فَلَا يَصح ذَلِك، وَأما لَفْظَة: أَكثر، فَإِنَّهُ مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول ثَان لقَوْله: ( وَمَا رَأَيْته) .
قَوْله: ( من شعْبَان) ، وَزَاد يحيى بن أبي كثير فِي رِوَايَته: ( فَإِنَّهُ كَانَ يَصُوم شعْبَان كُله) ، وَزَاد ابْن أبي لبيد: ( عَن أبي سَلمَة عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر صياما مِنْهُ فِي شعْبَان، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُوم شعْبَان إلاَّ قَلِيلا) .
وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَن أبي سَلمَة ( عَن عَائِشَة، أَنَّهَا قَالَت: مَا رَأَيْت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي شهر أَكثر صياما فِيهِ فِي شعْبَان، كَانَ يَصُومهُ إلاَّ قَلِيلا، بل كَانَ يَصُومهُ كُله) .
انْتهى.

قَالُوا: معنى: كُله، أَكْثَره، فَيكون مجَازًا.
قلت: فِيهِ نظر من وُجُوه: الأول: أَن هَذَا الْمجَاز قَلِيل الِاسْتِعْمَال جدا.
وَالثَّانِي: أَن لَفْظَة: كل، تَأْكِيد لإِرَادَة الشُّمُول، وَتَفْسِيره بِالْبَعْضِ منَاف لَهُ.
وَالثَّالِث: أَن فِيهِ كلمة الإضراب، وَهِي تنَافِي أَن يكون المُرَاد الْأَكْثَر، إِذْ لَا يبْقى فِيهِ حِينَئِذٍ فَائِدَة، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال فِيهِ: إِنَّه بِاعْتِبَار عَاميْنِ فَأكْثر، فَكَانَ يَصُومهُ كُله فِي بعض السنين، وَكَانَ يَصُوم أَكْثَره فِي بعض السنين، وَذكر بعض الْعلمَاء إِنَّه وَقع مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصل شعْبَان برمضان وفصله مِنْهُ وَذَلِكَ فِي سنتَيْن فَأكْثر،.

     وَقَالَ  الْغَزالِيّ فِي ( الْإِحْيَاء) : فإنَّ وَصلَ شعْبَان برمضان فَجَائِز، فعل ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرّة، وَفصل مرَارًا كَثِيرَة، انْتهى.
قلت: على هَذَا الْوَجْه يبعد وجوده مَنْصُوصا عَلَيْهِ فِي الحَدِيث، نعم، وَقع مِنْهُ الْوَصْل والفصل، أما الْوَصْل فَهُوَ فِي حَدِيث التِّرْمِذِيّ عَن أبي سَلمَة ( عَن أم سَلمَة، قَالَت: مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصُوم شَهْرَيْن مُتَتَابعين إلاَّ شعْبَان ورمضان) .
وَأما الْفَصْل فَفِي حَدِيث أبي دَاوُد من رِوَايَة عبد الله بن أبي قيس ( عَن عَائِشَة، قَالَت: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتحفظ من هِلَال شعْبَان مَا لَا يتحفظ من غَيره، ثمَّ يَصُوم لرمضان، فَإِن غم عَلَيْهِ عد ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثمَّ صَامَ) .
وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ،.

     وَقَالَ : ( هَذَا إِسْنَاد صَحِيح، وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك،.

     وَقَالَ : هَذَا صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَلم يخرجَاهُ، وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أبي أُمَامَة ( أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يصل شعْبَان برمضان) .
وَرِجَال إِسْنَاده ثِقَات، وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث أبي ثَعْلَبَة بِلَفْظ: ( كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصُوم شعْبَان ورمضان يصلهمَا) .
وَفِي إِسْنَاده الْأَحْوَص بن حَكِيم وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ، وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ حَدِيث أبي أُمَامَة وَفِي إِسْنَاده يُوسُف بن عَطِيَّة وَهُوَ ضَعِيف.

فَإِن قلت: كَيفَ التَّوْفِيق بَين هَذِه الْأَحَادِيث وَبَين حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن؟ فَأَبُو دَاوُد من حَدِيث الدَّرَاورْدِي وَالتِّرْمِذِيّ كَذَلِك، وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي العميس، وَابْن مَاجَه من رِوَايَة مُسلم بن خَالِد، كلهم عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِذا بَقِي نصف من شعْبَان فَلَا تَصُومُوا) ، هَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ، وَلَفظ أبي دَاوُد: ( إِذا انتصف شعْبَان فَلَا تَصُومُوا) ، وَلَفظ النَّسَائِيّ: ( فكفوا عَن الصَّوْم) ، وَلَفظ ابْن مَاجَه: ( إِذا كَانَ النّصْف من شعْبَان فَلَا صَوْم) ، وَفِي لفظ ابْن حبَان: ( فأفطروا حَتَّى يَجِيء رضمان) ، وَفِي لفظ ابْن عدي: ( إِذا انتصف شعْبَان فأفطروا) ، وَفِي لفظ الْبَيْهَقِيّ: ( إِذا مضى النّصْف من شعْبَان فأمسكوا عَن الصّيام حَتَّى يدْخل رَمَضَان) قلت: أما أَولا: فقد اخْتلف فِي صِحَة هَذَا الحَدِيث، فصححه التِّرْمِذِيّ وَابْن حبَان وَابْن عَسَاكِر وَابْن حزم، وَضَعفه أَحْمد فِيمَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن أبي دَاوُد، قَالَ: قَالَ أَحْمد: هَذَا حَدِيث مُنكر، قَالَ: وَكَانَ عبد الرَّحْمَن لَا يحدث بِهِ)
وَأما ثَانِيًا: فَقَالَ قوم، مِمَّن لَا يَقُول بِحَدِيث الْعَلَاء: بِأَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يَصُوم فِي النّصْف الثَّانِي من شعْبَان، فَدلَّ على أَن مَا رَوَاهُ مَنْسُوخ، وَقيل: يحمل النَّهْي على من لم يدْخل تِلْكَ الْأَيَّام فِي صِيَام أَو عبَادَة.





[ قــ :1887 ... غــ :1970 ]
- حدَّثنا مُعاذُ بنُ فَضَالَةَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ عنُ يَحْيَى عنْ أبِي سَلَمَةَ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا حدَّثَتْهُ قالَتْ لَمْ يَكُنْ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصُومُ شَهْرا أكْثَرَ مِنْ شَعْبانَ فإنَّهُ كانَ يَصُومُ شَعْبانَ كُلَّهُ وكانَ يَقُولُ خُذُوا مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فإنَّ الله لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَأحَبُّ الصَّلاةِ إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وإنْ قَلَّتْ وكانَ إذَا صَلَّى صَلاَةً دَاوَمَ عَلَيْهَا.
(انْظُر الحَدِيث 9691 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِشَام هُوَ الدستوَائي، وَيحيى هُوَ ابْن أبي كثير، والْحَدِيث أخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ فِي الصَّوْم أَيْضا عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن معَاذ بن هِشَام عَن أَبِيه بِهِ.

قَوْله: (كُله) قَالَ فِي (التَّوْضِيح) : أَي: أَكْثَره، وَقد جَاءَ عَنْهَا مُفَسرًا: (كَانَ يَصُوم شعْبَان أَو عَامَّة شعْبَان) ، وَفِي لفظ: كَانَ يَصُومهُ كُله إلاَّ قَلِيلا) ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريبن.
قَوْله: (خُذُوا من الْعَمَل مَا تطيقون) أَي تطيقون الدَّوَام عَلَيْهِ بِلَا ضَرَر أَو اجْتِنَاب التعمق فِي جَمِيع أَنْوَاع الْعبارَات قَوْله: (فَإِن الله لَا يمل) قَالَ النَّوَوِيّ: الْملَل والسامة بِالْمَعْنَى الْمُتَعَارف فِي حَقنا، وَهُوَ محَال فِي حق الله تَعَالَى، فَيجب تَأْوِيل الحَدِيث، فَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: مَعْنَاهُ: لَا يعاملكم مُعَاملَة الْملَل فَيقطع عَنْكُم ثَوَابه وفضله وَرَحمته حَتَّى تقطعوا أَعمالكُم.
وَقيل: مَعْنَاهُ لَا يمل إِذا مللتم، و: حَتَّى، بِمَعْنى: حِين،.

     وَقَالَ  الْهَرَوِيّ: لَا يمل أبدا مللتم أم لَا تملوا.
وَقيل: سمي مللاً على معنى الأزدواج، كَقَوْلِه تَعَالَى: { فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ} (الْبَقَرَة: 491) .
فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يقطع عَنْكُم فَضله حَتَّى تملوا سُؤَاله.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: إِطْلَاق الْملَل على الله تَعَالَى إِطْلَاق مجازي عَن ترك الْجَزَاء.
قَوْله: (مَا دووم عَلَيْهِ) ، بواوين، وَفِي بعض النّسخ بواو، وَالصَّوَاب الأول لِأَنَّهُ مَجْهُول، ماضٍ من المداومة من: بابُُ المفاعلة، ويروي (مَا ديم عَلَيْهِ) وَهُوَ مَجْهُول دَامَ، وَالْأول مَجْهُول داوم،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: الديمة الْمَطَر الدَّائِم فِي سُكُون، شبه عمله فِي دَوَامه مَعَ الاقتصاد بديمة الْمَطَر، وَأَصله الْوَاو فَانْقَلَبت يَاء لكسرة مَا قبلهَا، وَقد مر هَذَا الْكَلَام فِي هَذِه الْأَلْفَاظ فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بابُُ أحب الدّين إِلَى الله تَعَالَى أَدْوَمه.