فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فضل من قام رمضان

( كِتَابُ التَّرَاوِيحِ) أَي: هَذَا كتاب فِي باين صَلَاة التَّرَاوِيح، كَذَا وَقع هَذَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده، وَفِي رِوَايَة غَيره لم يُوجد هَذَا، والتراويح جمع ترويحة، وَيجمع أَيْضا على ترويحات، والترويحة فِي الأَصْل اسْم للجلسة، وَسميت بالترويحة لاستراحة النَّاس بعد أَربع رَكْعَات بالجلسة، ثمَّ سميت كل أَربع رَكْعَات ترويحة مجَازًا لما فِي آخرهَا من الترويحة، وَيُقَال: الترويحة اسْم لكل أَربع رَكْعَات، وَأَنَّهَا فِي الأَصْل إِيصَال الرَّاحَة، وَهِي الجلسة.
وَفِي ( الْمغرب) : روحت بِالنَّاسِ، أَي: صليت بهم التَّرَاوِيح.
( بابُُ فَضْلِ مَنْ قامَ رَمَضَانَ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل من قَامَ رَمَضَان.
قَالَ الْكرْمَانِي: اتَّفقُوا على أَن المُرَاد بقيامه صَلَاة التَّرَاوِيح.
قلت: قَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بِقِيَام رَمَضَان صَلَاة التَّرَاوِيح، وَلَكِن الِاتِّفَاق من أَيْن أَخذه؟ بل المُرَاد من قيام اللَّيْل مَا يحصل بِهِ مُطلق الْقيام، سَوَاء كَانَ قَلِيلا أَو كثيرا.



[ قــ :1925 ... غــ :2008 ]
- حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أخبرنِي أبُو سَلَمَةَ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ لِرَمَضَانَ مَنْ قامَهُ إيمَانا واحْتِسَابا غُفِرَ لَهُ مَا تقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعقيل: بِضَم الْعين: ابْن خَالِد، وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم، وَأَبُو سَلمَة ابْن عبد الرَّحْمَن.
والْحَدِيث مر فِي: بابُُ تطوع قيام رَمَضَان من الْإِيمَان، فِي أَوَائِل كتاب الْإِيمَان، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( من قَامَ رَمَضَان إِيمَانًا) الحَدِيث.

قَوْله: ( عَن ابْن شهَاب) ، وَفِي رِوَايَة ابْن الْقَاسِم عِنْد النَّسَائِيّ عَن مَالك: ( حَدثنِي ابْن شهَاب) .
قَوْله: ( أَخْبرنِي أَبُو سَلمَة) ، كَذَا رَوَاهُ عقيل، وَتَابعه يُونُس وَشُعَيْب وَابْن أبي ذِئْب وَمعمر وَغَيرهم، وَخَالفهُ مَالك، فَقَالَ: عَن ابْن شهَاب عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن، بدل أبي سَلمَة.
وَقد صَحَّ الطريقان عِنْد البُخَارِيّ، فأخرجهما على الْوَلَاء.
وَقد أخرجه النَّسَائِيّ من طَرِيق جوَيْرِية بن أَسمَاء عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ الِاخْتِلَاف فِيهِ، وَصحح الطَّرِيقَيْنِ، وَحكى أَن أَبَا همام رَوَاهُ عَن ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ، فَخَالف الْجَمَاعَة، فَقَالَ: عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة.
قَوْله: ( يَقُول لرمضان) أَي: لفضل رَمَضَان أَو لأجل رَمَضَان.
قَالَ بَعضهم يحْتَمل أَن تكون: اللَّام، بِمَعْنى: عَن، أَي: يَقُول عَن رَمَضَان.
قلت: هَذَا يبعد، وَإِن كَانَت: اللَّام، تَأتي بِمَعْنى: عَن.
نَحْو: { وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا} ( مَرْيَم: 37، العنكبوت: 21، يس: 74،) .
وَجه الْبعد أَن لفظا من مَادَّة القَوْل إِذا اسْتعْمل بِكَلِمَة: عَن، يكون بِمَعْنى النَّقْل، وَهَذَا بعيد جدا، بل غير موجه، وَيجوز أَن تكون اللَّام، هُنَا بِمَعْنى: فِي، أَي: يَقُول فِي رَمَضَان، أَي: فِي فَضله وَنَحْو ذَلِك، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة} ( الْأَنْبِيَاء: 74) .
أَي: فِي يَوْم الْقِيَامَة، وَيجوز أَن يكون أَيْضا بِمَعْنى: عِنْد، أَي: تَصْدِيقًا بِأَنَّهُ حق، أَي: مُعْتَقدًا فضيلته، قَالَه النَّوَوِيّ.
قَوْله: ( واحتسابا) أَي: طلبا للآخرة.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: أَي نِيَّة وعزيمة وانتصابهما على الْحَال، أَي: مُؤمنا ومحتسبا.
قَوْله: ( غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) ، ظَاهره يتَنَاوَل كل ذَنْب من الْكَبَائِر والصغائر، وَبِه قطع ابْن الْمُنْذر،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: الْمَعْرُوف أَنه يخْتَص بالصغائر، وَبِه قطع إِمَام الْحَرَمَيْنِ.
.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض: هُوَ مَذْهَب أهل السّنة، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ، من رِوَايَة قُتَيْبَة عَن سُفْيَان: ( وَمَا تَأَخّر) ، وَكَذَا زَادهَا حَامِد بن يحيى عِنْد قَاسم بن أصبغ، وَالْحُسَيْن بن الْحسن الْمروزِي فِي كتاب الصّيام لَهُ، وَهِشَام ابْن عمار فِي الْجُزْء الثَّانِي عشر من ( فَوَائده) ويوسف بن يَعْقُوب النجاحي فِي ( فَوَائده) : كلهم عَن ابْن عُيَيْنَة، ووردت هَذِه الزِّيَادَة أَيْضا من طَرِيق أبي سَلمَة من وَجه آخر أخرجه أَحْمد من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد وَردت هَذِه الزِّيَادَة أَعني لفظ:: ( وَمَا تَأَخّر) فِي عدَّة أَحَادِيث فَإِن قلت: الْمَغْفِرَة تستدعي سبق شَيْء من ذَنْب، والمتأخر من الذُّنُوب لم يَأْتِ فَكيف يغْفر؟ قلت: هَذَا كِنَايَة عَن حفظ الله إيَّاهُم من الْكَبَائِر، فَلَا يَقع مِنْهُم كَبِيرَة بعد ذَلِك، وَقيل: مَعْنَاهُ أَن ذنوبهم تقع مغفورة.





[ قــ :196 ... غــ :009 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرَنا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ حُمَيْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ قامَ رَمَضانِ إِيمَانًا واحْتِسابا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ قَالَ ابنُ شِهابٍ فتُوُفِّيَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والأمْرُ عَلَى ذلِكَ ثُمَّ كانَ الأمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلافَةِ أبِي بَكْرٍ وصَدْرا مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما.
.


هَذَا مضى فِي كتاب الْإِيمَان، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.

قَوْله: ( قَالَ ابْن شهَاب) ، أَي: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
قَوْله: ( وَالْأَمر على ذَلِك) ، جملَة حَالية وَالْمعْنَى: اسْتمرّ الْأَمر فِي هَذِه الْمدَّة الْمَذْكُورَة على أَن كل أحد يقوم رَمَضَان فِي أَي وَجه كَانَ جمعهم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: ( وَالْأَمر على ذَلِك) رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: ( وَالنَّاس على ذَلِك) ، يَعْنِي: على ترك الْجَمَاعَة فِي التَّرَاوِيح.
فَإِن قلت: روى ابْن وهب عَن أبي هُرَيْرَة: ( خرج رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِذا النَّاس فِي رَمَضَان يصلونَ فِي نَاحيَة الْمَسْجِد، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقيل: نَاس يُصَلِّي بهم أبي بن كَعْب.
فَقَالَ: أَصَابُوا، ونِعْمَ مَا صَنَعُوا)
ذكره ابْن عبد الْبر.
قلت: فِيهِ مُسلم بن خَالِد، وَهُوَ ضَعِيف، وَالْمَحْفُوظ أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هُوَ الَّذِي جمع النَّاس على أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

وعنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَبْدِ القَارِيِّ أنَّهُ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ لَيْلَةً فِي رمَضَانَ إلَى المَسْجِدِ فإذَا النَّاسُ أوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ ويُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاتِهِ الرَّهْطُ فَقَالَ عُمَرُ إنِّي أرَى لَوْ جَمَعْتُ هؤلاَءِ عَلَى قاريءٍ واحِدٍ لكَانَ أمْثَلَ ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلى أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى والنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ قَارِئِهِمْ قَالَ عُمَرُ نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ والَّتِي يَنامُونَ أفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ وكانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أوَّلَهُ.
قَوْله: ( عَن ابْن شهَاب) عطف على قَوْله: ( قَالَ ابْن شهَاب) ، وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور.
قَوْله: ( عَن عبد الرَّحْمَن ابْن عبد الْقَارِي) بتَشْديد الْيَاء: نِسْبَة إِلَى القارة بن ديش محلم بن غَالب الْمدنِي، وَكَانَ عَامل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على بَيت الْمُسلمين، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة ثَمَانِينَ وَله ثَمَان وَسَبْعُونَ سنة.
قَالَ ابْن معِين: هُوَ ثِقَة، وَقيل: إِن لَهُ صُحْبَة.
قَوْله: ( فَإِذا النَّاس) كلمة: إِذا، للمفاجأة، قَوْله: ( أوزاع) ، بِسُكُون الْوَاو بعْدهَا زَاي.
قَالَ ابْن الْأَثِير: أَي متفرقون، أَرَادَ أَنهم كَانُوا يتنفلون فِي الْمَسْجِد بعد صَلَاة الْعشَاء مُتَفَرّقين.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: أوزاع من النَّاس، أَي: جماعات.
قَالَ الْخطابِيّ: لَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا قلت: فعلى قَوْله: متفرقون، فِي الحَدِيث يكون صفة: لأوزاع، أَي: جماعات متفرقون، وعَلى قَول ابْن الْأَثِير يكون: متفرقون، تَأْكِيدًا لفظيا.
قَوْله: ( يُصَلِّي الرجل) ، يجوز أَن يكون الْألف وَاللَّام فِيهِ للْجِنْس أَو للْعهد.
قَوْله: ( الرَّهْط) مَا بَين الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة، وَيُقَال إِلَى الْأَرْبَعين.
قَوْله: ( إِنِّي أرى) ، هَذَا من اجْتِهَاد عمر، واستنباطه من إِقْرَار الشَّارِع النَّاس يصلونَ خَلفه لَيْلَتَيْنِ، وقاس ذَلِك على جمع النَّاس على وَاحِد فِي الْفَرْض، وَلما فِي اخْتِلَاف الْأَئِمَّة من افْتِرَاق الْكَلِمَة، وَلِأَنَّهُ أنشط لكثير من النَّاس على الصَّلَاة.
قَوْله: ( لَكَانَ أمثل) ، أَي: أفضل.
وَقيل: أسَدُّ.
قَوْله: ( فَجَمعهُمْ على أبي بن كَعْب) ، أَي: جعله لَهُم إِمَامًا يُصَلِّي بهم التَّرَاوِيح، وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، اخْتَارَهُ عملا بقوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله) .
وروى سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق عُرْوَة: ( أَن عمر جمع النَّاس على أبي بن كَعْب، فَكَانَ يُصَلِّي بِالرِّجَالِ، وَكَانَ تَمِيم الدَّارِيّ يُصَلِّي بِالنسَاء) .
وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن نصر فِي كتاب: قيام اللَّيْل لَهُ من هَذَا الْوَجْه، فَقَالَ: سُلَيْمَان بن أبي حثْمَة بدل: تَمِيم الدَّارِيّ، وَلَعَلَّ ذَلِك كَانَ فِي وَقْتَيْنِ.
قَوْله: ( ثمَّ خرجت مَعَه) أَي: مَعَ عمر لَيْلَة أُخْرَى، وَفِيه إِشْعَار بِأَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ لَا يواظب الصَّلَاة مَعَهم، وَكَأَنَّهُ يرى أَن الصَّلَاة فِي بَيته أفضل، وَلَا سِيمَا فِي آخر اللَّيْل، وَعَن هَذَا قَالَ الطَّحَاوِيّ: التَّرَاوِيح فِي الْبَيْت أفضل.
قَوْله: ( نعم الْبِدْعَة) ، ويروى: ( نعمت الْبِدْعَة) ، بِزِيَادَة التَّاء، وَيُقَال: نعم، كلمة تجمع المحاسن كلهَا، وَبئسَ، كلمة تجمع المساوىء كلهَا، وَإِنَّمَا دَعَاهَا بِدعَة لِأَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يسنها لَهُم، وَلَا كَانَت فِي زمن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَرغب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيهَا بقوله: نعم، ليدل على فَضلهَا، وَلِئَلَّا يمْنَع هَذَا اللقب من فعلهَا.
والبدعة فِي الأَصْل أَحْدَاث أَمر لم يكن فِي زمن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ الْبِدْعَة على نَوْعَيْنِ: إِن كَانَت مِمَّا ينْدَرج تَحت مستحسن فِي الشَّرْع فَهِيَ بِدعَة حَسَنَة، وَإِن كَانَت مِمَّا ينْدَرج تَحت مستقبح فِي الشَّرْع فَهِيَ بِدعَة مستقبحة.
قَوْله: ( وَالَّتِي ينامون عَنْهَا) أَي: الْفرْقَة الَّتِي ينامون عَن صَلَاة التَّرَاوِيح أفضل من الْفرْقَة الَّتِي يقومُونَ.
يُرِيد آخر اللَّيْل.
وَفِيه تَصْرِيح أَن الصَّلَاة فِي آخر اللَّيْل أفضل من أَوله، وَلم يَقع فِي هَذِه الرِّوَايَة عدد الرَّكْعَات الَّتِي كَانَ يُصَلِّي بهَا أبي بن كَعْب.

وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الْعدَد الْمُسْتَحبّ فِي قيام رَمَضَان على أَقْوَال كَثِيرَة، فَقيل: إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: رأى بَعضهم أَن يُصَلِّي إِحْدَى وَأَرْبَعين رَكْعَة مَعَ الْوتر، وَهُوَ قَول أهل الْمَدِينَة، وَالْعَمَل على هَذَا عِنْدهم بِالْمَدِينَةِ.
قَالَ شَيخنَا، رَحمَه الله: وَهُوَ أَكثر مَا قيل فِيهِ.
قلت: ذكر ابْن عبد الْبر فِي ( الاستذكار) : عَن الْأسود بن يزِيد كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعِينَ رَكْعَة، ويوتر بِسبع، هَكَذَا ذكره، وَلم يقل: إِن الْوتر من الْأَرْبَعين.
وَقيل: ثَمَان وَثَلَاثُونَ، رَوَاهُ مُحَمَّد بن نصر من طَرِيق ابْن أَيمن عَن مَالك.
قَالَ: يسْتَحبّ أَن يقوم النَّاس فِي رَمَضَان بثمان وَثَلَاثِينَ رَكْعَة، ثمَّ يسلم الإِمَام وَالنَّاس، ثمَّ يُوتر بهم بِوَاحِدَة.
قَالَ: وَهَذَا الْعَمَل بِالْمَدِينَةِ قبل الْحرَّة مُنْذُ بضع وَمِائَة سنة إِلَى الْيَوْم، هَذَا روى ابْن أَيمن عَن مَالك، وَكَأَنَّهُ جمع رَكْعَتَيْنِ من الْوتر مَعَ قيام رَمَضَان وسماها من قيام رَمَضَان، وإلاَّ فَالْمَشْهُور عَن مَالك سِتّ وَثَلَاثُونَ وَالْوتر بِثَلَاث، وَالْعدَد وَاحِد.
وَقيل: سِتّ وَثَلَاثُونَ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عمل أهل الْمَدِينَة، وروى ابْن وهب، قَالَ: سَمِعت عبد الله بن عمر يحدث عَن نَافِع، قَالَ: لم أدْرك النَّاس إلاَّ وهم يصلونَ تسعا وَثَلَاثِينَ رَكْعَة ويوترون مِنْهَا بِثَلَاث وَقيل: أَربع وَثَلَاثُونَ على مَا حُكيَ عَن زُرَارَة بن أوفى أَنه كَذَلِك كَانَ يُصَلِّي بهم فِي الْعشْر الْأَخير، وَقيل: ثَمَان وَعِشْرُونَ، وَهُوَ الْمَرْوِيّ عَن زُرَارَة بن أوفى فِي الْعشْرين الْأَوَّلين من الشَّهْر، وَكَانَ سعيد بن جُبَير يَفْعَله فِي الْعشْر الْأَخير.
وَقيل: أَربع وَعِشْرُونَ، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن سعيد بن جُبَير.
وَقيل: عشرُون، وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن أَكثر أهل الْعلم، فَإِنَّهُ روى عَن عمر وَعلي وَغَيرهمَا من الصَّحَابَة، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة.

أما أثر عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَرَوَاهُ مَالك فِي ( الْمُوَطَّأ) بِإِسْنَاد مُنْقَطع فَإِن قلت: روى عبد الرَّزَّاق فِي ( المُصَنّف) عَن دَاوُد بن قيس وَغَيره عَن مُحَمَّد بن يُوسُف ( عَن السَّائِب بن يزِيد: أَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، جمع النَّاس فِي رَمَضَان على أبي بن كَعْب، وعَلى تَمِيم الدَّارِيّ على إِحْدَى وَعشْرين رَكْعَة يقومُونَ بالمئين وينصرفون فِي بزوغ الْفجْر، قلت: قَالَ ابْن عبد الْبر: هُوَ مَحْمُول على أَن الْوَاحِدَة للوتر.
.

     وَقَالَ  ابْن عبد الْبر: وروى الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذُبابُُ عَن السَّائِب بن يزِيد، قَالَ: كَانَ الْقيام على عهد عمر بِثَلَاث وَعشْرين رَكْعَة.
قَالَ ابْن عبد الْبر: هَذَا مَحْمُول على أَن الثَّلَاث للوتر.
.

     وَقَالَ  شَيخنَا: وَمَا حمله عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثين صَحِيح، بِدَلِيل مَا روى مُحَمَّد بن نصر من رِوَايَة يزِيد بن خصيفَة عَن السَّائِب بن يزِيد أَنهم كَانُوا يقومُونَ فِي رَمَضَان بِعشْرين رَكْعَة فِي زمَان عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

وَأما أثر عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَذكره وَكِيع عَن حسن بن صَالح عَن عَمْرو بن قيس عَن أبي الْحَسْنَاء عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه أَمر رجلا يُصَلِّي بهم رَمَضَان عشْرين رَكْعَة.

وَأما غَيرهمَا من الصَّحَابَة فَروِيَ ذَلِك عَن عبد الله بن مَسْعُود، رَوَاهُ مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي قَالَ: أخبرنَا يحيى بن يحيى أخبرنَا حَفْص بن غياث عَن الْأَعْمَش عَن زيد بن وهب، قَالَ: ( كَانَ عبد الله بن مَسْعُود يُصَلِّي لنا فِي شهر رَمَضَان) فَيَنْصَرِف وَعَلِيهِ ليل، قَالَ الْأَعْمَش: كَانَ يُصَلِّي عشْرين رَكْعَة ويوتر بِثَلَاث)
.

وَأما الْقَائِلُونَ بِهِ من التَّابِعين: فشتير بن شكل، وَابْن أبي مليكَة والْحَارث الْهَمدَانِي وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، وَأَبُو البحتري وَسَعِيد بن أبي الْحسن الْبَصْرِيّ أَخُو الْحسن وَعبد الرَّحْمَن ابْن أبي بكر وَعمْرَان الْعَبْدي.
.

     وَقَالَ  ابْن عبد الْبر: وَهُوَ قَول جُمْهُور الْعلمَاء، وَبِه قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ وَأكْثر الْفُقَهَاء، وَهُوَ الصَّحِيح عَن أبي بن كَعْب من غير خلاف من الصَّحَابَة.
وَقيل: سِتّ عشرَة، فَهُوَ مَرْوِيّ عَن أَب مجلز أَنه كَانَ يُصَلِّي بهم أَربع ترويحات، وَيقْرَأ لَهُم سبع الْقُرْآن فِي كل لَيْلَة، رَوَاهُ مُحَمَّد بن نصر من رِوَايَة عمرَان بن حدير عَن أبي مجلز.

وَقيل ثَلَاث عشرَة، وَاخْتَارَهُ مُحَمَّد بن إِسْحَاق، روى مُحَمَّد بن نصر من طَرِيق بن إِسْحَاق، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن يُوسُف بن عبد الله بن يزِيد ابْن أُخْت نمر عَن جده السَّائِب بن يزِيد، قَالَ: ( كُنَّا نصلي فِي زمَان عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي رَمَضَان ثَلَاث عشرَة رَكْعَة، وَلَكِن وَالله مَا كُنَّا نخرج إلاَّ فِي وجاه الصُّبْح، كَانَ القارىء يقْرَأ فِي كل رَكْعَة بِخَمْسِينَ آيَة وَسِتِّينَ آيَة) .
قَالَ ابْن إِسْحَاق: مَا سَمِعت فِي ذَلِك حَدِيثا هُوَ أثبت عِنْدِي وَلَا أَحْرَى بِأَن يكون من حَدِيث السَّائِب، وَذَلِكَ أَن صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت من اللَّيْل ثَلَاث عشرَة رَكْعَة.
.

     وَقَالَ  شَيخنَا: لَعَلَّ هَذَا كَانَ من فعل عمر أَولا، ثمَّ نقلهم إِلَى ثَلَاث وَعشْرين.

وَقيل: إِحْدَى عشرَة رَكْعَة، وَهُوَ اخْتِيَار مَالك لنَفسِهِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بكر الْعَرَبِيّ.

/



[ قــ :198 ... غــ :011 ]
- حدَّثنا إسْماعِيلُ قَالَ حدَّثني مالكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلَّى وذَلِكَ فِي رمَضانَ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ فِي التَّرَاوِيح، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَقد ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث تَاما فِي أَبْوَاب التَّهَجُّد فِي: بابُُ تحريض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قيام اللَّيْل، فَقَالَ: حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف، قَالَ: أخبرنَا مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة ابْن الزبير ( عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صلى ذَات لَيْلَة فِي الْمَسْجِد، فصلى بِصَلَاتِهِ نَاس، ثمَّ صلى من الْقَابِلَة فَكثر النَّاس، ثمَّ اجْتَمعُوا من اللَّيْلَة الثَّالِثَة وَالرَّابِعَة، فَلم يخرج إِلَيْهِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا أصبح قَالَ: قد رَأَيْت الَّذِي صَنَعْتُم فَلم يَمْنعنِي من الْخُرُوج إِلَيْكُم إلاَّ أَنِّي خشيت أَن يفْرض عَلَيْكُم، وَذَلِكَ فِي رَمَضَان) .
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى، وَهنا أورد هَذَا الحَدِيث مُخْتَصرا جدا، فَذكر من أَوله: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى، ثمَّ اختصر إِلَى قَوْله فِي آخر الحَدِيث: وَذَلِكَ فِي رَمَضَان.
قَوْله: ( ذَلِك) إِشَارَة إِلَى مَا فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صلَاته فِي الليلتين.





[ قــ :199 ... غــ :01 ]
- حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أخبرَتْهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرَجَ لَيْلَةً مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فصَلَّى فِي المَسْجِدِ وصلَّى رِجالٌ بِصلاَتِهِ فأصبَحَ النَّاسُ فتَحَدَّثُوا فاجْتَمَعَ أكثرُ مِنْهُمْ فصَلُّوا معَهُ فأصْبَحَ النَّاسُ فتَحَدَّثُوا فكَثُرَ أهْلُ المَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَخَرَجَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصَلَّى فصلَّوْا بِصَلاتِهِ فلَمَ كانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عجَزَ المَسْجِدُ عنْ أهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلاَةِ الصُّبْحِ فلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فتَشَهدَ ثُمَّ قالَ أمَّا بعْدُ فَإنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكانُكُمْ ولَكِنِّي خَشِيتُ أنُ تُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فتَعْجِزُوا عَنْها، فتُوُفِّيَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والأمرُ علَى ذالِكَ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق، وَهَذَا الحَدِيث بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن مضى فِي كتاب الْجُمُعَة فِي: بابُُ من قَالَ فِي الْخطْبَة بعد الثَّنَاء: أما بعد، قَوْله: ( فَتوفي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْأَمر على ذَلِك) من كَلَام ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ.
فَافْهَم.