فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ما قيل في اللحام والجزار

(بابُُ مَا قِيلَ فِي اللَّحَّامِ والجَزَّارِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَا قيل فِي اللحام وَهُوَ بياع اللَّحْم والجزار الَّذِي يجزر أَي ينْحَر الْإِبِل وَكِلَاهُمَا على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ وَهَذَا الْبابُُ وَقع هَهُنَا عِنْد الْأَكْثَرين وَوَقع عِنْد ابْن السكن بعد خَمْسَة أَبْوَاب.

     وَقَالَ  بَعضهم وَهُوَ أليق لتتوالى تراجم الصناعات قلت: توالى التراجم إِنَّمَا هُوَ أَمر مُهِمّ وَالْبُخَارِيّ لَا يتَوَقَّف غَالِبا فِي رِعَايَة التناسب بَين الْأَبْوَاب.



[ قــ :1997 ... غــ :2081 ]
- حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبِي قَالَ حدَّثنا الأعمَشُ قَالَ حدَّثني شَقِيقٌ عنْ أبِي مَسْعُودٍ قَالَ حاءَ رَجلٌ مِنَ الأنْصَارِ يُكْنَى أبَا شُعَيْبٍ فَقَالَ لِغُلامٍ لَهُ قَصَّابٍ اجْعَلْ لِي طَعَاما يَكْفِي خَمْسَةً فإنِّي أُرِيدُ أنْ أدْعُو النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خامِسَ خَمْسَةٍ فإنِّي قَدْ عَرَفْتُ فِي وجْهِهِ الجوعَ فدَعَاهُمْ فَجاءَ معهُمْ رَجُلٌ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ هذَا قَدْ تَبِعَنا فإنْ شِئْتَ أنْ تأذَنَ لَهُ فاذَنْ لَهُ وإنْ شِئتَ أنْ يَرْجِعَ رَجَعَ فَقال لَا بَلْ قدْ أذِنْتُ لَهُ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لغلام لَهُ قصاب) ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: اللحام هُوَ الجزار، والقصاب على قِيَاس قَوْلهم: عَطاء وتمار للَّذي يَبِيع ذَلِك، فَهَذَا كَمَا رَأَيْت جعل اللحام والجزار والقصاب بِمَعْنى وَاحِد، فعلى هَذَا تحصل الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث، وَلَكِن فِي عرف النَّاس اللحام من يَبِيع اللَّحْم، والجزار من يجزر الْجَزُور أَي: ينحره، والقصاب من يذبح الْغنم، وَأَصله من الْقصب، وَهُوَ الْقطع يُقَال قصب القصاب الشَّاة اي قطعهَا عضوا عضوا (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة ذكرُوا غير مرّة وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان وشقيق هُوَ ابْن سَلمَة ابو وَائِل، وَأَبُو مَسْعُود هُوَ عقبَة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ البدري.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَظَالِم عَن أبي النُّعْمَان، وَفِي الْأَطْعِمَة عَن مُحَمَّد بن يُوسُف وَعَن عبد الله بن أبي الْأسود.
وَأخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن قُتَيْبَة وَعُثْمَان وَعَن أبي بكر وَإِسْحَاق وَعَن نصر بن عَليّ وَأبي سعيد الْأَشَج وَعَن عبد الله بن معَاذ وَعَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن وَعَن سَلمَة بن شبيب.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي النِّكَاح عَن هناد.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود وَعَن أَحْمد بن عبد الله.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قصاب) ، بِالْجَرِّ لِأَنَّهُ صفة لغلام، وَسَيَأْتِي فِي الْمَظَالِم من وَجه آخر عَن الْأَعْمَش بِلَفْظ: (كَانَ لَهُ (غُلَام لحام) .
قَوْله: (خَامِس خَمْسَة) أَي: أحد خَمْسَة.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: جَائِز أَن يَقُول: خَامِس خَمْسَة، وخامس أَرْبَعَة.
وَعَن الْمُهلب: إِنَّمَا صنع طَعَام خَمْسَة لعلمه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سيتبعه من أَصْحَابه غَيره.
قَوْله: (فجَاء مَعَهم رجل) ، أَي: سادسهم.
قَوْله: (إِن هَذَا قد تبعنا) ، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْعين لِأَنَّهُ فعل مَاض، وَالضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى الرجل، و: نَا، مَفْعُوله.
قَوْله: (وَإِن شِئْت أَن يرجع) ، أَي: الرجل الَّذِي تَبِعَهُمْ، رَجَعَ وَلَا يدْخل مَعَهم.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز الِاكْتِسَاب بصنعة الجزارة وَأَنه لَا بَأْس بذلك،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَإِن كَانَ فِي الجزارة شَيْء من الضعة لِأَنَّهُ يمتهن فِيهَا نَفسه، وَأَن ذَلِك لَا ينقصهُ وَلَا يسْقط شَهَادَته إِذا كَانَ عدلا.
وَفِيه: جَوَاز اسْتِعْمَال السَّيِّد غُلَامه فِي الصَّنَائِع الَّتِي يطيقها وَأخذ كَسبه مِنْهَا.
وَفِيه: بَيَان مَا كَانُوا فِيهِ من شظف الْعَيْش وَقلة الشَّيْء.
وَأَنَّهُمْ كَانُوا يؤثرون بِمَا عِنْدهم.
وَفِيه: تَأْكِيد إطْعَام الطَّعَام والضيافة خُصُوصا لمن علم حَاجته لذَلِك.
وَفِيه: أَن من صنع طَعَاما لغيره فَلَا بَأْس أَن يَدعُوهُ إِلَى منزله ليَأْكُل مَعَه عِنْده، وَلَكِن هَل الأولى أَن يَدعُوهُ إِلَى الطَّعَام أَو يُرْسِلهُ إِلَيْهِ؟ اخْتَار مَالك إرْسَاله إِلَيْهِ ليَأْكُل مَعَ أَهله إِن كَانَ لَهُ أهل، فَقَالَ فِي الرجل يَدْعُو الرجل: يلْزمه إِذا أَرَادَ أَن يبْعَث بِمثل ذَلِك إِلَيْهِ ليأكله مَعَ أَهله، فَإِنَّهُ قَبِيح بِالرجلِ أَن يذهب يَأْكُل الطَّيِّبَات وَيتْرك أَهله.
وَفِيه: أَنه يَنْبَغِي لمن دَعَا من لَهُ منزلَة إِلَى طَعَامه أَن يَدْعُو مَعَه أَصْحَابه الَّذين هم أهل مُجَالَسَته، كَمَا فعل أَبُو شُعَيْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَفِيه: أَنه يَنْبَغِي لمن أَرَادَ أَن يَدْعُو جمَاعَة أَن يصنع لَهُم من الطَّعَام كفايتهم وَلَا يضيق عَلَيْهِم، محتجا بِأَن طَعَام الْوَاحِد يَكْفِي الْإِثْنَيْنِ وَطَعَام الْإِثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَة وَطَعَام الْأَرْبَعَة يَكْفِي الثَّمَانِية، لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّقْصِير على الضَّيْف، وَرُبمَا جَاءَ من لم يَدعه كَمَا وَقع فِي قصَّة أبي شُعَيْب.
وَفِيه: إِجَابَة الْمَدْعُو للداعي وَأَنه لم ينص على اسْمه بل ذَلِك تبعا لغيره، كجلساء فلَان وَأَصْحَابه، إِذْ لم ينْقل أَنه سمى مَعَه جلساءه، لَكِن يحْتَمل أَن أَبَا شُعَيْب حِين رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعرف فِي وَجهه الْجُوع، أَنه رأى مَعَه أَرْبَعَة جالسين، فَكَانَ ذَلِك تَخْصِيصًا لَهُم.
وَفِيه: أَنه لَو دَعَا رجلا إِلَى وَلِيمَة أَو طَعَام، سَوَاء قُلْنَا بِالْوُجُوب أَو بالاستحبابُ وَكَانَ مَعَ الْمَدْعُو حَالَة الدعْوَة غَيره لم يدْخل فِي الدعْوَة، وَلَيْسَ كالهدية عِنْد قوم يشركونه فِيهَا، للْحَدِيث الْوَارِد فِي ذَلِك: من أهدي لَهُ هَدِيَّة عِنْد قوم يشركونه فِيهَا، والْحَدِيث غير صَحِيح.
وَفِيه: أَنه لَا بَأْس لمن وجد جمَاعَة يذهبون إِلَى مَكَان أَن يتبعهُم لِأَنَّهُ لَو كَانَ هَذَا مُمْتَنعا لنهاه النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ولرده، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنع دُخُوله مَعَه بِغَيْر إِذن صَاحب الدعْوَة وَرضَاهُ.
وَفِيه: أَنه لَا يَنْبَغِي للمدعو أَن يرد من تبعه إِلَى الدعْوَة، بل يَسْتَأْذِنهُ عَلَيْهِ لجَوَاز أَن يَأْذَن لَهُ.
وَفِيه: أَنه يَنْبَغِي للمدعو أَن يسْتَأْذن صَاحب الْمنزل فِيمَن تبعه إِلَى الدعْوَة، لِئَلَّا ينكسر خاطره مَا لم يكن ثمَّة دَاع لعدم دُخُوله.
وَفِيه: أَنه يَنْبَغِي للمدعو إِذا اسْتَأْذن لمن تبعه أَن يتلطف فِي الاسْتِئْذَان وَلَا يتحكم على صَاحب الْمنزل بقوله: إيذن لهَذَا، وَنَحْو ذَلِك.
وَفِيه: أَنه يَنْبَغِي للمدعو إِذا اسْتَأْذن لمن تبعه أَن يعلم صَاحب الدعْوَة أَن الْأَمر فِي الْإِذْن إِلَيْهِ، وَأَنه لَيْسَ للمدعو أَن يحتكم عَلَيْهِ وَيَدْعُو مَعَه من أَرَادَ لقَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَإِن شِئْت رَجَعَ هَذَا) مَعَ كَونه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهُ أَن يتَصَرَّف فِي مَال كل من الْأمة بِغَيْر حُضُوره وَبِغير رِضَاهُ، وَلكنه لم يفعل ذَلِك إلاَّ بِالْإِذْنِ تطييبا لقُلُوبِهِمْ.
وَفِيه: أَنه يَنْبَغِي للداعي إِذا اسْتَأْذن الْمَدْعُو فِيمَن تبعه أَن يَأْذَن لَهُ، كَمَا فعل أَبُو شُعَيْب.
وَهَذَا من مَكَارِم الْأَخْلَاق.
وَفِيه: فِي قَوْله: (إِن هَذَا قد تبعنا) ، دَلِيل على أَنه لَو كَانَ مَعَهم حَالَة الدعْوَة لدخل فِيهَا وَلم يحْتَج إِلَى الإستئذان.
وَفِيه: قَالَ القَاضِي عِيَاض: فِيهِ: تَحْرِيم طَعَام الطفيليين.
.

     وَقَالَ  أَصْحَاب الشَّافِعِي: لَا يجوز التطفل إلاَّ إِذا كَانَ بَينه وَبَين صَاحب الدَّار انبساط، وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من مَشى إِلَى طَعَام لم يدع إِلَيْهِ مَشى فَاسِقًا وَأكل حَرَامًا وَدخل سَارِقا وَخرج مغيرا) .
وروى الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من دخل على قوم لطعام لم يدع إِلَيْهِ فَأكل دخل فَاسِقًا وَأكل مَا لَا يحل لَهُ) ، وَفِي إِسْنَاده يحيى بن خَالِد وَهُوَ مَجْهُول.