فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب بيع الملامسة

( بابُُ بَيْعِ المُلامَسَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم بيع الْمُلَامسَة، وَهِي مفاعلة من اللَّمْس، وَقد علم أَن بابُُ المفاعلة لمشاركة اثْنَيْنِ فِي أصل الْفِعْل.
وَفِي ( الْمغرب) : الْمُلَامسَة واللماس أَن يَقُول لصَاحبه: إِذا لمست ثَوْبك ولمست ثوبي فقد وَجب البيع.
وَعَن أبي حنيفَة: هِيَ أَن يَقُول: أبيعك هَذَا الْمَتَاع بِكَذَا، فَإِذا لمستك وَجب البيع، أَو يَقُول المُشْتَرِي كَذَلِك، وَيُقَال: الْمُلَامسَة أَن يلمس ثوبا مطويا ثمَّ يَشْتَرِيهِ على أَن لَا خِيَار لَهُ إِذا رَآهُ، أَو يَقُول: إِذا لمسته فقد بعتكه أَو يَبِيعهُ شَيْئا على أَنه مَتى لمسه فقد لزم البيع، وَعَن الزُّهْرِيّ: الْمُلَامسَة لمس الرجل ثوب الآخر بِيَدِهِ بِاللَّيْلِ، أَو النَّهَار، وَلَا يقلبه إلاَّ بذلك، وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: الْمُلَامسَة أَن يَقُول الرجل للرجل: أبيعك ثوبي بثوبك، وَلَا ينظر وَاحِد مِنْهُمَا ثوب الآخر، وَلَكِن بلمسه لمسا.
وَيُقَال: اخْتلف الْعلمَاء فِي تَفْسِير الْمُلَامسَة على ثَلَاث صور هِيَ أوجه للشَّافِعِيَّة.
أَصَحهَا: أَن يَأْتِي بِثَوْب مطوي أَو فِي ظلمَة فيلمسه المستام، فَيَقُول لَهُ صَاحب الثَّوْب، بعتكه بِكَذَا بِشَرْط أَن يقوم لمسك مقَام نظرك، وَلَا خِيَار لَك إِذا رَأَيْته.
الثَّانِي: أَن يجعلا نفس اللَّمْس بيعا بِغَيْر صِيغَة زَائِدَة.
الثَّالِث: أَن يجعلا للمس شرطا فِي قطع خِيَار الْمجْلس، وَغَيره وَالْبيع على التأويلات كلهَا بَاطِل.

وَقَالَ أنسٌ نَهَى عنهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: نهى عَن بيع الْمُلَامسَة، وَبِهَذَا اتَّضَح حكم التَّرْجَمَة لِأَنَّهَا على إِطْلَاقهَا تحْتَمل الْمَنْع، وتحتمل الْجَوَاز، وَهُوَ تَعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي: بابُُ بيع المخاصرة، عَن أنس: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن المحاقلة والمخاصرة وَالْمُلَامَسَة والمنابذة والمزابنة.
والمخاصرة: بيع الثِّمَار خصرا لم يبد صَلَاحهَا.

[ قــ :2060 ... غــ :2144 ]
- حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عفَيْرٍ قَالَ حدَّثني اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني عُقَيْلٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أخبرنِي عامِرُ بنُ سعْدٍ أنَّ أبَا سَعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أخْبَرَهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنِ المُنَابَذَةِ وهِيَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بالْبَيْعِ إِلَى الرَّجُلِ قَبْلَ أنْ يُقَلِّبَهُ أوْ يَنْظُرَ إلَيْهِ ونَهَى عَنِ المُلاَمَسَةِ والمُلاَمَسَةُ لَمْسُ الثَّوْبِ لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وَنهى عَن الْمُلَامسَة) ، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَسَعِيد بن عفير: هُوَ سعيد بن كثير بن عفير: بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء: الْمصْرِيّ، وَعقيل: بِضَم الْعين ابْن خَالِد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وعامر بن سعد بن أبي وَقاص، مر فِي الْإِيمَان، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ اسْمه سعد بن مَالك.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث، وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن أبي الطَّاهِر وحرملة بن يحيى وَعَن عَمْرو النَّاقِد.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن صَالح.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى والْحَارث بن مِسْكين، وَعَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي وَعَن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( الْمُنَابذَة) ، مفاعلة من النبذ، وَقد ذكرنَا أَن المفاعلة تستدعي الْفِعْل من الْجَانِبَيْنِ، وَلَا يُوجد هَذَا إلاَّ فِيمَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق عَطاء بن ميناء عَن أبي هُرَيْرَة.
أما الْمُلَامسَة فَأن يلمس كل وَاحِد مِنْهُمَا ثوب صَاحبه بِغَيْر تَأمل.
والمنابذة: أَن ينْبذ كل وَاحِد مِنْهُمَا ثَوْبه إِلَى الآخر لم ينظر وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى ثوب صَاحبه، وَقيل: أَن يَجْعَل النبذ نفس البيع، وَهُوَ تَأْوِيل الشَّافِعِي.
وَقيل: يَقُول: بِعْتُك، فَإِذا انبذته إِلَيْك فقد انْقَطع الْخِيَار، وَلُزُوم البيع.
وَقيل: المُرَاد نبذ الْحَصَى، ونبذ الْحَصَاة أَن يَقُول: بِعْتُك من هَذِه الأثواب مَا وَقعت عَلَيْهِ الْحَصَاة الَّتِي أرميها، أَو: بِعْتُك من هَذِه الأَرْض من هُنَا إِلَى مَا انْتَهَت إِلَيْهِ الْحَصَاة، أَو يَقُول: بِعْتُك ولي الْخِيَار إِلَى أَن أرمي هَذِه الْحَصَاة، أَو يجعلا نفس الرَّمْي بالحصاة بيعا، مَعْنَاهُ: أَن يَقُول: إِذا رميت هَذَا الثَّوْب بالحصاة فَهُوَ بيع مِنْك بِكَذَا.
وَهَذَانِ البيعان أَعنِي: الْمُلَامسَة والمنابذة عِنْد جمَاعَة الْعلمَاء من بيع الْغرَر والقمار لِأَنَّهُ إِذا لم يتَأَمَّل مَا اشْتَرَاهُ وَلَا علم صفته يكون مغرورا، وَمن هَذَا بيع الشَّيْء الْغَائِب على الصّفة فَإِن وجد كَمَا وصف لزم المُشْتَرِي وَلَا خِيَار لَهُ إِذا رَآهُ، وَإِن كَانَ على غير الصّفة فَلهُ الْخِيَار، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن سِيرِين وَأَيوب والْحَارث العكلي وَالْحكم وَحَمَّاد.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: يجوز بيع الْغَائِب على الصّفة وَغير الصّفة، وَللْمُشْتَرِي خِيَار الرُّؤْيَة، وَرُوِيَ ذَلِك أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمَكْحُول وَالْأَوْزَاعِيّ وسُفْيَان،.

     وَقَالَ  صَاحب ( التَّلْوِيح) : كَأَنَّهُمْ استندوا إِلَى مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن أبي هُرَيْرَة يرفعهُ: ( من اشْترى شَيْئا لم يره فَلهُ الْخِيَار) .
قلت: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي ( سنَنه) عَن داهر بن نوح: حَدثنَا عمر بن إِبْرَاهِيم بن خَالِد الْكرْدِي حَدثنَا وهيب الْيَشْكُرِي عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من اشْترى شَيْئا لم يره فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذا رَآهُ) ،.

     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ: عمر بن إِبْرَاهِيم هَذَا يُقَال لَهُ الْكرْدِي، يضع الْأَحَادِيث، وَهَذَا بَاطِل لَا يَصح لم يروه غَيره، وَإِنَّمَا يرْوى عَن ابْن سِيرِين من قَوْله: ( قلت) روى الطَّحَاوِيّ عَن عَلْقَمَة بن أبي وَقاص أَن طَلْحَة اشْترى من عُثْمَان بن عَفَّان مَالا، فَقيل لعُثْمَان: إِنَّك قد غبنت! فَقَالَ عُثْمَان: لي الْخِيَار، لِأَنِّي بِعْت مَا لم أره.
.

     وَقَالَ  طَلْحَة: لِأَنِّي اشْتريت مَا لم أره، فحكَّما بَينهمَا جُبَير بن مطعم، فَقضى أَن الْخِيَار لطلْحَة وَلَا خِيَار لعُثْمَان.





[ قــ :061 ... غــ :145 ]
- حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا عَبدُ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ محَمَّدٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ نُهِيَ عنْ لِبْسَتَيْنِ أنْ يَحْتَبيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ ثُمَّ يَرْفَعُهُ عَلى مَنْكِبِهِ وعنْ بَيْعَتَيْنِ اللِّمَاسِ والنِّبَاذِ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( والنباذ) ، وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بابُُ مَا يستر من الْعَوْرَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن قبيصَة عَن عقبَة عَن سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة.
قَالَ: ( نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيعَتَيْنِ، عَن اللماس والنباذ، وَأَن يشْتَمل الصماء، وَأَن يحتبي الرجل فِي ثوب وَاحِد) .
وَأخرجه هُنَا: عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة.
وَقد أخرج البُخَارِيّ حَدِيث أبي هُرَيْرَة من طرق، وَلم يذكر فِي شَيْء مِنْهَا تَفْسِير الْمُنَابذَة وَالْمُلَامَسَة.
وَوَقع فِي تفسيرهما فِي ( صَحِيح مُسلم) وَالنَّسَائِيّ، وَظَاهر الطّرق كلهَا أَن التَّفْسِير من الحَدِيث الْمَرْفُوع، لَكِن وَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ مَا يشْعر بِأَنَّهُ من كَلَام من دون النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَفظه: وَزعم أَن الْمُلَامسَة أَن يَقُول ... إِلَى آخِره فَالْأَقْرَب أَن يكون ذَلِك من الصَّحَابِيّ لبعد أَن يعبر الصَّحَابِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَفْظ وَزعم، ولوقوع التَّفْسِير فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ من قَوْله أَيْضا: ( نهى عَن لبستين) اقْتصر على لبسة وَاحِدَة، قَالَ الْكرْمَانِي: اختصر الحَدِيث.
وَالنَّوْع الثَّانِي هُوَ اشْتِمَال الصماء، وَقد تَركه لشهرته.
قلت: مَا يُعجبنِي هَذَا الْجَواب، وَلَيْسَ الْموضع مِمَّا يقبل الِاخْتِصَار، لِأَن الْمَذْكُور فِيهِ شَيْئَانِ، فَكيف يتْرك أَحدهمَا اختصارا لشهرته؟ فلقائل أَن يَقُول: لِمَ ترك النَّوْع الأول وَهُوَ أشهر من النَّوْع الثَّانِي؟ وَأَيْضًا مَا غَرَضه من هَذَا الِاخْتِصَار هُنَا؟ نعم، يُوجد الِاخْتِصَار لغَرَض صَحِيح فِيمَا يكون غير مخل، وَالَّذِي يظْهر لي أَنه من أحد الروَاة، وأعجب من هَذَا قَول بَعضهم، وَقد وَقع بَيَان الثَّانِيَة عِنْد أَحْمد فِي طَرِيق هِشَام عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، وَلَفظه: ( أَن يحتبي الرجل فِي ثوب وَاحِد لَيْسَ على فرجه مِنْهُ شَيْء، وَأَن يرتدي فِي ثوب يرفع طَرفَيْهِ على عَاتِقه) .
وَقد مضى تَفْسِير هَذِه الْأَلْفَاظ فِي كتاب الصَّلَاة، والاحتباء أَن يجمع بَين ظَهره وساقيه بعمامته.