فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها

( بابُُ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أنْ يبْدُو صَلاَحُهَا)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم بيع الثِّمَار، بِكَسْر الثَّاء الْمُثَلَّثَة، حمع ثَمَرَة بِفَتْح الْمِيم: وَهُوَ يتَنَاوَل الرطب وَغَيره.
قَوْله: ( قبل أَن يَبْدُو) ، بِنصب الْوَاو أَي: قبل أَن يظْهر، وَلَا يهمز كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَإِنَّمَا لم يجْزم بِحكم الْمَسْأَلَة بِالنَّفْيِ أَو بالإثبات لقُوَّة الْخلاف فِيهَا بَين الْعلمَاء، فَقَالَ ابْن أبي ليلى وَالثَّوْري: لَا يجوز بيع الثَّمَرَة قبل أَن يَبْدُو صَلَاحهَا مُطلقًا، وَمن نقل فِيهِ الْإِجْمَاع فقدوهم،.

     وَقَالَ  يزِيد بن أبي حبيب: يجوز مُطلقًا، وَلَو شَرط التبقية.
وَمن نقل فِيهِ الْإِجْمَاع أَيْضا فقد وهم.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي وَأحمد وَمَالك فِي رِوَايَة: إِن شَرط الْقطع لم يبطل وإلاَّ بَطل.
.

     وَقَالَ ت الْحَنَفِيَّة: يَصح إِن لم يشْتَرط التبقية، وَالنَّهْي مَحْمُول على بيع الثِّمَار قبل أَن يُوجد أصلا.
وَقيل: هُوَ على ظَاهره، لَكِن النَّهْي فِيهِ للتنزيه، وَقد ذكرنَا مَذْهَب أَصْحَابنَا وَمذهب مخالفيهم فِي: بابُُ بيع الْمُزَابَنَة، بدلائلهم.



[ قــ :2109 ... غــ :2193 ]
- وَقَالَ اللَّيْثُ عنْ أبِي الزِّنادِ كانَ عُرْوَة بنُ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عنْ سَهْلِ بنِ أبِي حَثْمَةَ الأنْصَارِيِّ منْ بَنِي حارِثَةَ أنَّهُ حَدَّثَهُ عنْ زَيْدِ بنِ ثابِتٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ النَّاسُ فِي عَهْد رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَبَايَعُونَ الثِّمارَ فإذَا جَذَّ النَّاس وحَضَرَ تَقاضيهِمْ قَالَ المُبْتَاعُ إنَّهُ أصَابَ الثَّمَرَ الدُّمَّانُ أصَابَهُ مُرَاضٌ أصَابَهُ قُشَامٌ عاهَات يَحْتَجُّونَ بِها فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا كَثُرَتْ عِنْدَهُ الخُصُومَةُ فِي ذالِكَ فإمَّا لاَ فَلاَ تَتَبايَعُوا حَتَّى يَبْدُو صلاَحُ الثَّمَرِ كالمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا لِكَثْرَةِ خُصُومَتِهِمْ قَالَ وأخْبرنِي خارِجَةُ ابنُ زَيْدِ بنِ ثابِتٍ أنَّ زيْدَ بنَ ثَابِتٍ لَمْ يَكُنْ يَبِيعُ ثِمارَ أرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الثرَيَّا فيَتَبَيَّنَ الأصْفَرُ مِنَ الأحْمَرِ.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فَلَا تتبايعوا حَتَّى يَبْدُو صَلَاح الثَّمر) ، وَاللَّيْث هُوَ ابْن سعد، وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: هُوَ عبد الله بن ذكْوَان، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت غير مَوْصُول.

وَأخرجه أَبُو دَاوُد: حَدثنَا أَحْمد بن صَالح، قَالَ: حَدثنَا عَنْبَسَة بن خَالِد، قَالَ: حَدثنِي يُونُس، قَالَ: سَأَلت أَبَا الزِّنَاد عَن بيع الثَّمر قبل أَن يَبْدُو صَلَاحه، وَمَا ذكر فِي ذَلِك، فَقَالَ: كَانَ عُرْوَة بن الزبير يحدث عَن سهل بن أبي حثْمَة عَن زيد بن ثَابت، قَالَ: كَانَ النَّاس يتبايعون الثِّمَار قبل أَن يَبْدُو صَلَاحهَا، فَإِذا جذ النَّاس وَحضر تقاضيهم قَالَ الْمُبْتَاع: قد أصَاب الثَّمر الدمَان وأصابه قشام وأصابه مراض، عاهات يحتجون بهَا، فَلَمَّا كثرت خصومتهم عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كالمشورة يُشِير بهَا: فَأَما لَا، فَلَا تتبايعوا الثَّمر حَتَّى يَبْدُو صَلَاحه، لِكَثْرَة خصومتهم وَاخْتِلَافهمْ.
وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي ( سنَنه) مَوْصُولا.
وَأخرجه الطَّحَاوِيّ فِي معرض الْجَواب عَن الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا النَّهْي عَن بيع الثِّمَار حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا، الَّتِي احتجت بهَا الشَّافِعِيَّة والمالكية والحنابلة، حَيْثُ قَالُوا: لَا يجوز بيع الثِّمَار فِي رُؤُوس النّخل حَتَّى تحمر أَو تصفر.
فَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد قَالَ قوم: إِن النَّهْي الَّذِي كَانَ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الثِّمَار حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا لم يكن مِنْهُ تَحْرِيم ذَلِك، وَلكنه على المشورة مِنْهُ عَلَيْهِم، لِكَثْرَة مَا كَانُوا يختصمون إِلَيْهِ فِيهِ.
وَرووا فِي ذَلِك عَن زيد بن ثَابت حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم، قَالَ: حَدثنَا أَبُو زرْعَة وهب الله عَن يُونُس بن زيد، قَالَ: قَالَ أَبُو الزِّنَاد: كَانَ عُرْوَة بن الزبير يحدث عَن سهل بن أبي حثْمَة الْأنْصَارِيّ أَنه أخبرهُ أَن زيد بن ثَابت كَانَ يَقُول: كَانَ النَّاس فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتبايعون الثِّمَار، فَإِذا جذ النَّاس وَحضر تقاضيهم، قَالَ الْمُبْتَاع: إِنَّه أصَاب الثَّمر العفن والدمان، وأصابه مراق، قَالَ أَبُو جَعْفَر: الصَّوَاب هُوَ مراق، وأصابه قشام، عاهات يحتجون بهَا، والقشام: شَيْء يُصِيبهُ حَتَّى لَا يرطب.
قَالَ: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما كثرت عِنْده الْخُصُومَة فِي ذَلِك: فَلَا تتبايعوا حَتَّى يَبْدُو صَلَاح الثَّمر، كالمشورة يُشِير بهَا لِكَثْرَة خصومتهم، فَدلَّ مَا ذكرنَا أَن أول مَا روينَا فِي أول هَذَا الْبابُُ عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الثِّمَار حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا إِنَّمَا كَانَ على هَذَا الْمَعْنى لَا على مَا سواهُ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( من بني حَارِثَة) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة والثاء الْمُثَلَّثَة، وَفِي هَذَا الْإِسْنَاد رِوَايَة تَابِعِيّ عَن مثله عَن صَحَابِيّ عَن مثله، وَالْأَرْبَعَة مدنيون.
قَوْله: ( فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: فِي زَمَنه وأيامه.
قَوْله: ( فَإِذا جذ النَّاس) ، بِالْجِيم والذال الْمُعْجَمَة الْمُشَدّدَة أَي: فَإِذا قطعُوا ثَمَر النّخل، وَمِنْه الْجذاذ، وَهُوَ الْمُبَالغَة فِي الْأَمر، كَذَا فِي الرِّوَايَة: جذ، على صِيغَة الثلاثي وَفِي رِوَايَة ابْن ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي والسرخسي: أجذ، بِزِيَادَة ألف على صِيغَة الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ.
وَمثله، قَالَ النَّسَفِيّ:.

     وَقَالَ  ابْن التِّين أَكثر الرِّوَايَات: أجذ، قَالَ: وَمَعْنَاهُ دخلُوا فِي زمن الْجذاذ، مثل أظلم دخل فِي الظلام، وَفِي ( الْمُحكم) : جذ النّخل يجذه جذا وجذاذا وجذاذا: صرمه.
قَوْله: ( تقاضيهم) ، بالضاد الْمُعْجَمَة، يُقَال: تقاضيت ديني وبديني واستقضيته: طلبت قَضَاهُ.
قَوْله: ( قَالَ الْمُبْتَاع) ، أَي: المُشْتَرِي، وَهُوَ من الصِّيَغ الَّتِي يشْتَرك فِيهَا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول، وَالْفرق بِالْقَرِينَةِ.
قَوْله: ( الدمَان) ، بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم ضَبطه أَبُو عبيد، وَضبط الْخطابِيّ بِضَم أَوله،.

     وَقَالَ  عِيَاض: هما صَحِيحَانِ، وَالضَّم رِوَايَة الْقَابِسِيّ وَالْفَتْح رِوَايَة السَّرخسِيّ، قَالَ: وَرَوَاهَا بَعضهم بِالْكَسْرِ، وَذكره أَبُو عبيد عَن ابْن أبي الزِّنَاد بِلَفْظ: الإدمان، زَاد فِي أَوله الْألف، وَفتحهَا وَفتح الدَّال، وَفَسرهُ أَبُو عبيد بِأَنَّهُ فَسَاد الطّلع وتعفنه وسواده،.

     وَقَالَ  الْأَصْمَعِي: الدمال، بِاللَّامِ العفن.
.

     وَقَالَ  الْقَزاز: الدمَان فَسَاد النّخل قبل إِدْرَاكه، وَإِنَّمَا يَقع ذَلِك فِي الطّلع يخرج قلب النَّخْلَة أسود معفونا، وَوَقع فِي رِوَايَة يُونُس: الدمار، بالراء بدل النُّون وَهُوَ تَصْحِيف، قَالَه عِيَاض، وَوَجهه غَيره بِأَنَّهُ أَرَادَ الْهَلَاك، كَأَنَّهُ قَرَأَهُ بِفَتْح أَوله.
وَفِي ( التَّلْوِيح) : وَعند أبي دَاوُد فِي رِوَايَة ابْن داسة: الدمار، بالراء كَأَنَّهُ ذهب إِلَى الْفساد المهلك لجميعه الْمَذْهَب لَهُ،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: لَا معنى لَهُ.
.

     وَقَالَ  الْأَصْمَعِي: الدمال، بِاللَّامِ فِي آخِره: التَّمْر المتعفن، وَزعم بَعضهم أَنه فَسَاد التَّمْر وعفنه قبل إِدْرَاكه حَتَّى تسود من الدمن، وَهُوَ السرقين، وَالَّذِي فِي ( غَرِيب) الْخطابِيّ، بِالضَّمِّ، وَكَأَنَّهُ الْأَشْبَه، لِأَن مَا كَانَ من الأدواء والعاهات فَهُوَ بِالضَّمِّ: كالسعال والزكام والصداع.
قَوْله: ( أَصَابَهُ مراض) ، كَذَا هُوَ بِضَم الْمِيم عِنْد الْأَكْثَر، قَالَه الْخطابِيّ، لِأَنَّهُ اسْم لجَمِيع الْأَمْرَاض، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والنسفي: مراض بِكَسْر الْمِيم، ويروى: أَصَابَهُ مرض.
قَوْله: ( قشام) ، بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الشين الْمُعْجَمَة، قَالَ الْأَصْمَعِي: هُوَ أَن ينتفض ثَمَر النّخل قبل أَن يصير بلحا.
وَقيل: هُوَ أكال يَقع فِي الثَّمر،.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ فِي رِوَايَته: والقشام شَيْء يُصِيبهُ حَتَّى لَا يرطب.
قَوْله: ( أَصَابَهُ ثَالِثا) ، بدل من أَصَابَهُ ثَانِيًا.
وَهُوَ بدل من الأول.
قَوْله: ( عاهات) ، مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف: تَقْدِيره، هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة عاهات، أَي: آفَات وأمراض، وَهُوَ جمع عاهة، وَأَصلهَا عوهة قلبت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وَذكره الْجَوْهَرِي فِي الأجوف الواوي،.

     وَقَالَ : العاهة الآفة، يُقَال: عيه الزَّرْع وإيف، وَأَرْض معيوهة، وأعاه الْقَوْم: أَصَابَت ماشيتهم العاهة.
.

     وَقَالَ  الْأمَوِي: أَعوه الْقَوْم، مثله.
قَوْله: ( يحتجون بهَا) ، قَالَ الْكرْمَانِي: جمع لفظ: يحتجون، نظرا إِلَى أَن لفظ الْمُبْتَاع جنس صَالح للقليل وَالْكثير انْتهى.
قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى، وَإِنَّمَا جمعه بِاعْتِبَار الْمُبْتَاع وَمن مَعَه من أهل الْخُصُومَات بِقَرِينَة قَوْله: يتبايعون.
قَوْله: ( فَأَما لَا) ، أَصله: فَإِن لَا تتركوا هَذِه الْمُبَايعَة، فزيدت كلمة: مَا، للتوكيد، وأدغمت النُّون فِي الْمِيم وَحذف الْفِعْل.
.

     وَقَالَ  الجواليقي: الْعَوام يفتحون الْألف وَالصَّوَاب كسرهَا، وَأَصله: أَن لَا يكون كَذَلِك الْأَمر فافعل هَذَا، و: مَا، زَائِدَة وَعَن سِيبَوَيْهٍ: أفعل هَذَا إِن كنت لَا تفعل غَيره، لكِنهمْ حذفوا لِكَثْرَة استعمالهم إِيَّاه.
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَنْبَارِي: دخلت: مَا، صلَة كَقَوْلِه عز وَجل: { فإمَّا تَرين من الْبشر أحدا} ( مَرْيَم: 62) .
فَاكْتفى: بِلَا، من الْفِعْل كَمَا تَقول الْعَرَب: من سلم عَلَيْك فَسلم عَلَيْهِ وَمن لَا، يَعْنِي: وَمن لَا يسلم عَلَيْك فَلَا تسلم عَلَيْهِ، فَاكْتفى، بِلَا، من الْفِعْل وَأَجَازَ: من أكرمني أكرمته، وَمن لَا.
.
مَعْنَاهُ: من لَا يكرمني لم أكْرمه، وَقد أمالت الْعَرَب: لَا، إمالة خَفِيفَة، والعوام يشبعون إمالتها فَتَصِير ألفها يَاء، وَهُوَ خطأ وَمَعْنَاهُ: إِن لم يكن هَذَا فَلْيَكُن هَذَا، قيل: وَإِنَّمَا يجوز إمالتها لتضمنها الْجُمْلَة، وإلاَّ فَالْقِيَاس أَن لَا تمال الْحُرُوف.
.

     وَقَالَ  التَّيْمِيّ: قد تكْتب: لَا، هَذِه بلام وياء وَتَكون: لَا، ممالة، وَمِنْهُم من يَكْتُبهَا بِالْألف وَيجْعَل عَلَيْهَا فَتْحة محرفة عَلامَة للإمالة، فَمن كتب بِالْيَاءِ تبع لفظ الإمالة، وَمن كتب بِالْألف تبع أصل الْكَلِمَة.
قَوْله: ( حَتَّى يَبْدُو صَلَاح الثَّمر) ، صَلَاح الثَّمر هُوَ أَن يصير إِلَى الصّفة الَّتِي يطْلب كَونه على تِلْكَ الصّفة.
وَهُوَ بِظُهُور النضج والحلاوة وَزَوَال العفوصة وبالتموه واللين وبالتلون وبطيب الْأكل، وَقيل: هُوَ بِطُلُوع الثريا، وهما متلازمان.
قَوْله: ( كالمشورة) ، بِفَتْح الْمِيم وَضم الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو على وزن فعولة، وَيُقَال بِسُكُون الشين وَفتح الْوَاو على وزن مفعلة.
.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده: هِيَ مفعلة لَا مفعولة لِأَنَّهَا مصدر، والمصادر لَا تَجِيء على مِثَال مفعولة،.

     وَقَالَ  الْفراء: مشورة قَليلَة، وَزعم صَاحب الثقيف والحريري فِي آخَرين: أَن تسكين الشين فتح الْوَاو مِمَّا لحن فِيهِ الْعَامَّة، وَلَكِن الْفراء نَقله، وَهِي مُشْتَقَّة من شرث الْعَسَل إِذا اجتنيته، فَكَانَ المستشير يجتني الرَّأْي من المشير، وَقيل: أَخذ من قَوْلك: شرت الدَّابَّة، إِذا أجريتها مقبلة ومدبرة لتسبر جريها وتختبر جوهرها، فَكَانَ المستشير يسْتَخْرج الرَّأْي الَّذِي عِنْد المشير، وكلا الإشتقاقين مُتَقَارب مَعْنَاهُ من الآخر، وَالْمرَاد بِهَذِهِ المشورة: أَن لَا يشتروا شَيْئا حَتَّى يتكامل صَلَاح جَمِيع هَذِه الثَّمَرَة لِئَلَّا تجْرِي مُنَازعَة.

قَوْله: ( وَأَخْبرنِي) أَي: قَالَ أَبُو الزِّنَاد: وَأَخْبرنِي خَارِجَة بن زيد بن ثَابت، وَإِنَّمَا قَالَ بِالْوَاو عطفا على كَلَامه السَّابِق، وخارجة بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالْجِيم هُوَ أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة.
قَوْله: ( حَتَّى تطلع الثريا) ، وَهُوَ مصغر الثروي، وَصَارَ علما للنجم الْمَخْصُوص، وَالْمعْنَى: حَتَّى تطلع مَعَ الْفجْر، وَقد روى أَبُو دَاوُد من طَرِيق عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: إِذا طلع النَّجْم صباحا رفعت العاهة عَن كل بلد، وَفِي رِوَايَة أبي حنيفَة عَن عَطاء: رفعت العاهة من الثِّمَار والنجم هُوَ الثريا، وطلوعها صباحا يَقع فِي أول فصل الصَّيف، وَذَلِكَ عِنْد اشتداد الْحر فِي بِلَاد الْحجاز وَابْتِدَاء نضج الثِّمَار، وَالْمُعْتَبر فِي الْحَقِيقَة النضج وطلوع النَّجْم عَلامَة لَهُ، وَقد بَينه فِي الحَدِيث بقوله: ويتبين الْأَصْفَر من الْأَحْمَر.

قَالَ أَبُو عَبْدِ الله رَوَاهُ عَلِيُّ بنُ بَحْرٍ.
قَالَ حَدثنَا حَكَّامٌ قَالَ حدَّثنا عَنْبَسَة عنْ زَكَرِيَّاءَ عنْ أبِي الزِّنادِ عنْ عُرْوَةَ عنْ سَهْلٍ عنْ زَيْدٍ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى.
قَوْله: ( رَوَاهُ) ، أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور عَليّ بن بَحر ضد الْبر الْقطَّان الرَّازِيّ وَهُوَ أحد شُيُوخ البُخَارِيّ، مَاتَ سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وحكام، على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ للْمُبَالَغَة: ابْن سلم، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام، وَهُوَ أَيْضا رازي، توفّي سنة تسعين وَمِائَة، وعنبسة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالسِّين الْمُهْملَة: ابْن سعيد بن ضريس، بالضاد الْمُعْجَمَة مصغر ضرس كُوفِي، ولي قَضَاء الرّيّ فَعرف بالرازي، وَلَيْسَ لعنبسه هَذَا فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع الْمَوْقُوف، كَذَا لشيخه زَكَرِيَّا بن خَالِد الرَّازِيّ، وَلَا يعرف لَهُ راوٍ غير عَنْبَسَة، وَأَبُو الزِّنَاد عبد الله ابْن ذكْوَان، وَعُرْوَة هُوَ ابْن الزبير بن الْعَوام، وَسَهل هُوَ ابْن أبي حثْمَة، وَزيد هُوَ ابْن ثَابت الْأنْصَارِيّ.

وَقد روى أَبُو دَاوُد حَدِيث الْبابُُ من طَرِيق عَنْبَسَة بن خَالِد عَن يُونُس بن يزِيد، قَالَ: سَأَلت أَبَا الزِّنَاد عَن بيع الثَّمر قبل أَن يَبْدُو صَلَاحه وَمَا ذكر فِي ذَلِك؟ فَقَالَ: كَانَ عُرْوَة بن الزبير يحدث عَن سهل بن أبي حثْمَة عَن زيد بن ثَابت، قَالَ: كَانَ النَّاس يتبايعون الثِّمَار قبل أَن يَبْدُو صَلَاحهَا ... الحَدِيث، فَذكره نَحْو حَدِيث الْبابُُ، وعنبسة بن خَالِد هَذَا غير عَنْبَسَة بن سعيد فَافْهَم.



[ قــ :110 ... غــ :194 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسفَ قَالَ أخبرنَا مالِك عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهى عنْ بَيْعِ الثِّمارِ حتَّى يَبْدو صلاَحُها نَهَى الْبَائِعَ والْمُبْتاعَ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد جَمِيعًا بِإِسْنَاد مثل إِسْنَاد البُخَارِيّ.

قَوْله: ( نهى عَن بيع الثِّمَار) ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُؤمن أَن تصيبها آفَة فتتلف فيضيع مَال صَاحبه.
قَوْله: ( نهى البَائِع) ، لِأَنَّهُ يُرِيد أكل المَال بِالْبَاطِلِ، وَنهى الْمُبْتَاع أَي: المُشْتَرِي لِأَنَّهُ يُوَافقهُ على حرَام، وَلِأَنَّهُ بصدد تَضْييع لمَاله.
وَفِيه أَيْضا: قطع النزاع والتخاصم.
وَمُقْتَضى الحَدِيث جَوَاز بيعهَا بعد بَدو الصّلاح مُطلقًا، سَوَاء شَرط الْإِبْقَاء أَو لم يشْتَرط، لِأَن مَا بعد الْغَايَة مُخَالف لما قبلهَا، وَقد جعل النَّهْي ممتدا إِلَى غَايَة بَدو الصّلاح، وَالْمعْنَى فِيهِ: أَن يُؤمن فِيهَا العاهة وتغلب السَّلامَة فيثق المُشْتَرِي بحصولها بِخِلَاف مَا قبل بَدو الصّلاح، فَإِنَّهُ بصدد الْغرَر.

وَاخْتلف السّلف فِي قَوْله: ( حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا) هَل المُرَاد مِنْهُ جنس الثِّمَار؟ حَتَّى لَو بدا الصّلاح فِي بُسْتَان من الْبَلَد مثلا جَازَ بيع ثَمَرَة جَمِيع الْبَسَاتِين، وَإِن لم يبد الصّلاح فِيهَا أَو لَا بُد من بَدو الصّلاح فِي كل بُسْتَان على حِدة؟ أَو لَا بُد من بَدو الصّلاح فِي كل جنس على حِدة؟ أَو فِي كل شَجَرَة على حِدة؟ على أَقْوَال.
وَالْأول: قَول اللَّيْث، وَهُوَ عِنْد الْمَالِكِيَّة بِشَرْط أَن يكون الصّلاح متلاحقا.
وَالثَّانِي: قَول أَحْمد، وَعنهُ فِي رِوَايَة كالرابع، وَالثَّالِث: قَول الشَّافِعِيَّة.
قلت: هَذَا كُله غير مُحْتَاج إِلَيْهِ عِنْد الْحَنَفِيَّة.





[ قــ :111 ... غــ :195 ]
- حدَّثنا ابْن مُقاتِلٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا حُمَيْدٌ الطَّويلُ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهىَ أنْ تُباعَ ثَمَرَةُ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله يَعْنِي حَتَّى تَحْمَرَّ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَابْن مقَاتل هُوَ مُحَمَّد بن مقَاتل، بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: أَبُو الْحسن الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.

قَوْله: ( ثَمَرَة النّخل) ، ذكر النّخل لَيْسَ بِقَيْد، وَإِنَّمَا ذكره لكَونه الْغَالِب عِنْدهم.
قَوْله: ( حَتَّى تزهو) ، قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: زها النّخل يزهو إِذا ظَهرت ثَمَرَته، وأزهي إِذا احمر واصفر.
.

     وَقَالَ  غَيره: يزهو خطأ، وَإِنَّمَا يُقَال: يزهي، وَقد حَكَاهُمَا أَبُو زيد الْأنْصَارِيّ،.

     وَقَالَ  الْخَلِيل: أزهي الثَّمر.
وَفِي ( الْمُحكم) : الزهو والزهو، الْبُسْر إِذا ظَهرت فِيهِ الْحمرَة، وَقيل: إِذا لون، واحدته زهوة، وأزهي النّخل وزهي: تلون بحمرة وصفرة.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: الصَّوَاب فِي الْعَرَبيَّة يزهى،.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: هَل حَدِيث الْبابُُ وَغَيره يدل على التَّحْرِيم أَو الْكَرَاهَة؟ فبالأول قَالَ الْجُمْهُور، وَإِلَى الثَّانِي صَار أَبُو حنيفَة.

قَوْله: ( قَالَ أَبُو عبد الله) ، هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، فسر لفظ: تزهو، بقوله: تحمر.
قيل: رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ تشعر بِأَن قَائِل ذَلِك هُوَ عبد الله بن الْمُبَارك، فَإِذا صَحَّ هَذَا يكون لفظ: أَبُو، زَائِدا ليبقى: قَالَ عبد الله، وَيكون المُرَاد بِهِ: عبد الله بن الْمُبَارك أحد رُوَاة الحَدِيث الْمَذْكُور.





[ قــ :11 ... غــ :196 ]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عنْ سَليمِ بنِ حَيَّانَ قَالَ حدَّثنا سَعِيدُ بنُ مِيناءَ قَالَ سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ نِهىَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ تُباعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تُشَقِّحَ فَقِيلَ وَمَا تُشَقِّحُ قَالَ تحمارُّ وتصْفَارُّ ويُؤْكَلُ مِنْها.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَيحيى بن سعيد الْقطَّان، وسليم، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر اللَّام: ابْن حَيَّان من الْحَيَاة وَسَعِيد بن ميناء بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون ممدودا ومقصورا، تقدم فِي: بابُُ التَّكْبِير على الْجِنَازَة.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن عبد الله بن هِشَام.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن خَلاد الْبَاهِلِيّ عَن يحيى.

قَوْله: ( حَتَّى تشقح) ، بِضَم أَوله وَسُكُون ثَانِيه، قَالَ بَعضهم: من أشقح يشقح إشقاحا إِذا احمر أَو اصفر، والإسم الشقحة، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْقَاف بعْدهَا حاء مُهْملَة.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: التشقح تغير اللَّوْن إِلَى الصُّفْرَة أَو الْحمرَة، والشقحة لون خلص فِي الْحمرَة.
انْتهى.
قلت: هَذَا كَمَا ترى جعله بَعضهم من بابُُ الْأَفْعَال، وَجعله الْكرْمَانِي من بابُُ التفعيل.
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: نهى عَن بيع الثَّمر حَتَّى تشقح، هُوَ أَن يحمر أَو يصفر، يُقَال: أشقحت البسرة وشقحت إشقاحا وتشقيحا، وَالِاسْم الشقحة.
قَوْله: ( قيل: مَا تشقح؟ .
.
)
إِلَى آخِره هَذَا التَّفْسِير من قَول سعيد بن ميناء رَاوِي الحَدِيث، بيَّن ذَلِك أَحْمد فِي رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث عَن بهز بن أَسد عَن سليم بن حَيَّان أَنه هُوَ الَّذِي سَأَلَ سعيد بن ميناء عَن ذَلِك فَأَجَابَهُ بذلك، وَكَذَلِكَ أخرجه مُسلم من طَرِيق بهز، قَالَ: حَدثنَا سليم بن حَيَّان حَدثنَا سعيد بن ميناء عَن جَابر بن عبد الله، قَالَ: نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الْمُزَابَنَة والمحاقلة وَالْمُخَابَرَة وَعَن بيع الثَّمَرَة حَتَّى تشقح.
قَالَ: قلت لسَعِيد: مَا تشقح؟ قَالَ: تحمار وتصفار ويؤكل مِنْهَا.
وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن سليم بن حَيَّان، فَقَالَ فِي رِوَايَته: قلت لجَابِر: مَا تشقح ... ؟ الحَدِيث.
قلت: هَذَا يدل على أَن السَّائِل عَن ذَلِك هُوَ سعيد بن ميناء وَالَّذِي فسره هُوَ جَابر.
قَوْله: ( تحمار وتصفار) ، كِلَاهُمَا من بابُُ الافعيلال من الثلاثي الَّذِي زيدت فِيهِ الْألف والتضعيف لِأَن أَصلهمَا: حمر وصفر.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: أَرَادَ بالإحمرار والإصفرار ظُهُور أَوَائِل الْحمرَة والصفرة قبل أَن يشْبع، وَإِنَّمَا يُقَال: تفعال من اللَّوْن الْغَيْر المتمكن.
قلت: فِيهِ نظر، لأَنهم إِذا أَرَادوا فِي لفظ حمر مُبَالغَة يَقُولُونَ: احمرَّ فيزيدون على أصل الْكَلِمَة الْألف والتضعيف، ثمَّ إِذا أَرَادوا الْمُبَالغَة فِيهِ يَقُولُونَ: إحمارَّ، فيزيدون فِيهِ أَلفَيْنِ والتضعيف، واللون الْغَيْر المتمكن هُوَ الثلاثي الْمُجَرّد، أَعنِي: حمر، فَإِذا تمكن يُقَال: احمر، وَإِذا ازْدَادَ فِي التَّمَكُّن يُقَال: احمار، لِأَن الزِّيَادَة تدل على التكثير وَالْمُبَالغَة.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَإِنَّمَا يُقَال: يفعال، فِي اللَّوْن الْغَيْر المتمكن إِذا كَانَ يَتلون، وَأنكر هَذَا بعض أهل اللُّغَة،.

     وَقَالَ : لَا فرق بَين يحمر ويحمار.
انْتهى.
قلت: قَائِل هَذَا مَا مس شَيْئا من علم الصّرْف، وَالتَّحْقِيق فِيهِ مَا ذَكرْنَاهُ.