فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الوضوء من النوم، ومن لم ير من النعسة والنعستين، أو الخفقة وضوءا

( بابُُ الوُضُوءِ مِنَ النوْمِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان الْوضُوء من النّوم.
هَل يجب أَو يسْتَحبّ؟
والمناسبة بَين هَذَا الْبابُُ وَبَين الْبابُُ الَّذِي قبله من حَيْثُ إِن كلا مِنْهُمَا مُشْتَمل على حكم من أَحْكَام الْوضُوء.

وَمَنْ لمْ يَرَ مِنَ النَّعْسِةِ والنَّعْسَتَيْنِ أوِ الخَفْقَةِ وُضُوءًا هَذَا عطف على مَا قبله، وَالتَّقْدِير: وَبابُُ من لم ير من النعسة ... إِلَى آخِره، والنعسة: على وزن فعلة: مرّة من النعس، من بابُُ: نعس، بِفَتْح الْعين، يَنْعس: بضَمهَا من بابُُ: نصر ينصر؛ وَمن قَالَ: نعس، بِضَم الْعين فقد أَخطَأ.
وَفِي ( الموعب) : وَبَعض بني عَامر يَقُول: يَنْعس، بِفَتْح الْعين.
يُقَال: نعس يَنْعس نعساً ونعاساً فَهُوَ ناعس ونعسان.
وَامْرَأَة نعسى.
.

     وَقَالَ  ابْن السّكيت وثعلب: لَا يُقَال: نعسان، وَحكى الزّجاج عَن الْفراء أَنه قَالَ: قد سَمِعت: نعسان، من أَعْرَابِي من عنزة، قَالَ: وَلَكِن لَا أشتهيه.
وَعَن صَاحب ( الْعين) أَنه قَالَ: وسمعناهم يَقُولُونَ: نعسان ونعسى، حملوه على: وَسنَان ووسنى.
وَفِي ( الْمُحكم) : النعاس النّوم.
وَقيل: ثقلته، وَامْرَأَة نعسانة وناعسة ونعوس، وَفِي ( الصِّحَاح) و ( الْمُجْمل) : النعاس: الوسن.
.

     وَقَالَ  كرَاع: وَسنَان أَي: ناعس، وَالسّنة، بِكَسْر السِّين، أَصْلهَا: وَسنة، مثل: عدَّة أَصْلهَا وعدة، حذفت الْوَاو تبعا لحذفها فِي مضارعه، ونقلت فتحتها إِلَى عين الْفِعْل: وَزنهَا عِلّة.
قَوْله: ( والنعستين) تَثْنِيَة نعسة.
قَوْله: ( اَوْ الخفقة) عطف على قَوْله: ( النعسة) وَهُوَ أَيْضا على وزن فعلة: مرّة، من الخفق، يُقَال: خَفق الرجل، بِفَتْح الْفَاء، يخْفق خفقاً إِذا حرك رَأسه وَهُوَ ناعس؛ وَفِي ( الغريبين) : معنى تخفق رؤوسهم: تسْقط أذقانهم على صُدُورهمْ.
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: خَفق إِذا نعس، والخفوق الِاضْطِرَاب، وخفق اللَّيْل إِذا ذهب.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: الخفقة النعسة، وَإِنَّمَا كرر لاخْتِلَاف اللَّفْظ،.

     وَقَالَ  بَعضهم: الظَّاهِر أَنه من ذكر الْخَاص بعد الْعَام قلت: على قَول ابْن التِّين بَين النعس والخفقة مُسَاوَاة، وعَلى قَول بَعضهم: عُمُوم وخصوص بِمَعْنى أَن كل خفقة نعسة، وَلَيْسَ كل نعسة خفقة، وَيدل عَلَيْهِ مَا قَالَ أهل اللُّغَة: خَفق رَأسه إِذا حركها وَهُوَ ناعس.
.

     وَقَالَ  ابو زيد: خَفق بِرَأْسِهِ من النعاس: أماله، وَمِنْه قَول الْهَرَوِيّ فِي ( الغريبين) : تخفق رؤوسهم، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَفِيه: الخفق مَعَ النعاس.
وَقَوله: هَذَا من حَدِيث أخرجه مُحَمَّد بن نصر فِي قيام اللَّيْل بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: ( كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينتظرون الصَّلَاة فينغسون حَتَّى تخفق رؤوسهم، ثمَّ يقومُونَ الى الصَّلَاة) .
.

     وَقَالَ  بَعضهم: ظَاهر كَلَام البُخَارِيّ: النعاس يُسمى نوماً، وَالْمَشْهُور التَّفْرِقَة بَينهمَا، أَن من فترت حواسه بِحَيْثُ يسمع كَلَام جليسه وَلَا يفهم مَعْنَاهُ فَهُوَ ناعس، وَإِن زَاد على ذَلِك فَهُوَ نَائِم، وَمن عَلَامَات النّوم الرُّؤْيَا، طَالَتْ أَو قصرت.
قلت: لَا نسلم أَن ظَاهر كَلَام البُخَارِيّ يدل على عدم التَّفْرِقَة، فَإِنَّهُ عطف قَوْله: ( وَمن لم ير من النعسة) إِلَى آخِره على قَوْله: ( النّوم والنعس) فِي قَوْله: ( بابُُ النّوم) .

وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام أَن مَعنا ثَلَاثَة أَشْيَاء: النّوم والنعسة والخفقة.
أما النّوم: فَمن قَالَ: إِن نفس النّوم حدث يَقُول بِوُجُوب الْوضُوء من النعاس، وَمن قَالَ: إِن نفس النّوم لَيْسَ بِحَدَث لَا يَقُول بِوُجُوب الْوضُوء على الناعس؛ وَأما الخفقة: فقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: وَجب الْوضُوء على كل نَائِم إلاَّ من خَفق خفقة.
فَالْبُخَارِي أَشَارَ إِلَى هَذِه الثَّلَاثَة، فَأَشَارَ إِلَى النّوم بقوله: ( بابُُ النّوم) .
وَالنَّوْم فِيهِ تَفْصِيل كَمَا نذكرهُ عَن قريب، وَأَشَارَ بقوله: ( النعسة والنعستين) إِلَى القَوْل بِعَدَمِ وجوب الْوضُوء فِي النعسة والنعستين، وَيفهم من هَذَا أَن النعسة إِذا زَادَت على النعستين وَجب الْوضُوء، لِأَنَّهُ يكون حِينَئِذٍ نَائِما مُسْتَغْرقا، وَأَشَارَ إِلَى من يَقُول بِعَدَمِ وجوب الْوضُوء على من يخْفق خفقة وَاحِدَة، كَمَا روى عَن ابْن عَبَّاس بقوله: ( اَوْ الخفقة) ، وَيفهم من هَذَا أَن الخفقة إِذا زَادَت على الْوَاحِدَة يجب الْوضُوء، وَلِهَذَا قيد ابْن عَبَّاس الخفقة بالواحدة.

واما النّوم فَفِيهِ أَقْوَال.
الأول: إِن النّوم لَا ينْقض الْوضُوء بِحَال، وَهُوَ محكي عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب، وَأبي مجلز وَحميد بن عبد الرَّحْمَن والأعرج،.

     وَقَالَ  ابْن حزم: وَإِلَيْهِ ذهب الْأَوْزَاعِيّ، وَهُوَ قَول صَحِيح عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَغَيرهم، مِنْهُم: ابْن عمر وَمَكْحُول وَعبيدَة السَّلمَانِي.
الثَّانِي: النّوم ينْقض الْوضُوء على كل حَال وَهُوَ مَذْهَب الْحسن والمزني وابي عبد الله الْقَاسِم بن سَلام وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَهُوَ قَول غَرِيب عَن الشَّافِعِي، قَالَ: وَبِه أَقُول.
قَالَ: وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس وَأنس وَأبي هُرَيْرَة،.

     وَقَالَ  ابْن حزم: النّوم فِي ذَاته حدث ينْقض الْوضُوء، سَوَاء قل أَو كثر، قَاعِدا أَو قَائِما فِي صَلَاة أَو غَيرهَا أَو رَاكِعا أَو سَاجِدا أَو مُتكئا أَو مُضْطَجعا، أَيقَن من حواليه أَنه لم يحدث أَو لم يوقنوا.
الثَّالِث: كثير النّوم ينْقض وقليله لَا ينْقض بِكُل حَال، قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَهُوَ قَول الزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَأحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَعند التِّرْمِذِيّ:.

     وَقَالَ  بَعضهم: إِذا نَام حَتَّى غلب على عقله وَجب عَلَيْهِ الْوضُوء، وَبِه يَقُول إِسْحَاق.
الرَّابِع: إِذا نَام على هَيْئَة من هيئات الْمُصَلِّي: كالراكع والساجد والقائم والقاعد، لَا ينْقض وضوءه، سَوَاء كَانَ فِي الصَّلَاة أَو لم يكن، فَإِن نَام مُضْطَجعا أَو مُسْتَلْقِيا على قَفاهُ انْتقض، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَدَاوُد، وَقَول غَرِيب للشَّافِعِيّ،.

     وَقَالَ هُ أَيْضا حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وسُفْيَان.
الْخَامِس: لَا يقنقص إلاَّ نوم الرَّاكِع، وَهُوَ قَول عَن أَحْمد ذكره ابْن التِّين.
السَّادِس: لَا ينْقض إلاَّ نوم الساجد، رُوِيَ أَيْضا عَن أَحْمد.
السَّابِع: من نَام سَاجِدا فِي مُصَلَّاهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ وضوء.
وَإِن نَام سَاجِدا فِي غير صَلَاة تَوَضَّأ، وَإِن تعمد النّوم فِي الصَّلَاة فَعَلَيهِ الْوضُوء، وَهُوَ قَول ابْن الْمُبَارك.
الثَّامِن: لَا ينْقض النّوم الْوضُوء فِي الصَّلَاة، وينقض خَارج الصَّلَاة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي.
التَّاسِع: إِذا نَام جَالِسا مُمكنا مقعدته من الأَرْض لم ينْقض، سَوَاء قل أَو كثر، وَسَوَاء كَانَ فِي الصَّلَاة أَو خَارِجهَا، وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى؛.

     وَقَالَ  أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: تتبع عُلَمَاؤُنَا مسَائِل النّوم الْمُتَعَلّقَة بالأحاديث الجامعة لتعارضها، فوجدوها أحد عشر حَالا: مَاشِيا، وَقَائِمًا، ومستنداً، وراكعاً، وَقَاعِدا متربعاً، ومحتبياً، ومتكئاً، وراكباً، وساجداً، ومضطجعاً، ومستقراً.
وَهَذَا فِي حَقنا، فَأَما سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن خَصَائِصه أَنه لَا ينْتَقض وضوؤه بِالنَّوْمِ، مُضْطَجعا وَلَا غير مُضْطَجع.



[ قــ :208 ... غــ :212 ]
- حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عَنْ هِشامٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ أَن رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ إذَا نَعَسَ أحَدُكُمْ وَهْوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عنهُ النَّوْمُ فانَّ أحَدَكُمْ إذَ صَلَّى وَهْوَ ناعِسٌ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ.

مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث وَالَّذِي بعده للتَّرْجَمَة تفهم من معنى الحَدِيث، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أوجب قطع الصَّلَاة، وَأمر بالرقاد دلّ ذَلِك على أَنه كَانَ مُسْتَغْرقا فِي النّوم، فَإِنَّهُ علل ذَلِك بقوله: ( فان أحدكُم) الخ، وَفهم من ذَلِك أَنه إِذا كَانَ النعاس أقل من ذَلِك، وَلم يغلب عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَعْفُو عَنهُ، وَلَا وضوء فِيهِ: وَأَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى ذَلِك بقوله: ( وَمن لم من النعسة) الخ، وَلَا غَلَبَة فِي النعسة والنعستين، فَإِذا زَادَت يغلب عَلَيْهِ النّوم فينتقض وضوؤه، كَمَا ذكرنَا، وَكَذَلِكَ لَا غَلَبَة فِي الخفقة الْوَاحِدَة كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ عَن قريب،.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنِير: فان قلت: كَيفَ مخرج التَّرْجَمَة من الحَدِيث ومضمونها أَن لَا يتَوَضَّأ من النعاس الْخَفِيف، ومضمون الحَدِيث النَّهْي عَن الصَّلَاة مَعَ النعاس؟ قلت: إِمَّا أَن يكون البُخَارِيّ تلقاها من مَفْهُوم تَعْلِيل النَّهْي عَن الصَّلَاة حِينَئِذٍ بذهاب الْعقل الْمُؤَدِّي إِلَى أَن ينعكس الْأَمر: ( يُرِيد أَن يَدْعُو فيسب نَفسه) ، فَإِنَّهُ دلّ أَنه إِن لم يبلغ هَذَا الْمبلغ صلى بِهِ، وَإِمَّا أَن يكون تلقاها من كَونه إِذا بَدَأَ بِهِ النعاس، وَهُوَ فِي النَّافِلَة اقْتصر على إتْمَام مَا هُوَ فِيهِ وَلم يسْتَأْنف أُخْرَى، فتماديه على مَا كَانَ فِيهِ يدل على أَن النعاس الْيَسِير لَا يُنَافِي الطَّهَارَة، وَلَيْسَ بِصَرِيح فِي الحَدِيث، بل يحْتَمل قطع الصَّلَاة الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَيحْتَمل النَّهْي عَن اسْتِئْنَاف شَيْء آخر، وَالْأول أظهر.

بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة ذكرُوا كلهم غير مرّة، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا.
وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ صرح بِذكر عُرْوَة، والرواة كلهم مدنيون غير شيخ البُخَارِيّ.

بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك.

بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: ( وَهُوَ يُصَلِّي) جملَة إسمية وَقعت حَالا.
قَوْله: ( فليرقد) أَي: فلينم، وللنسائي من طَرِيق أَيُّوب عَن هِشَام: ( فلينصرف) ، وَالْمرَاد بِهِ الْخُرُوج من الصَّلَاة بِالتَّسْلِيمِ، فان قلت: فقد جَاءَ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، فِي نَومه فِي بَيت مَيْمُونَة رَضِي الله عَنْهَا: ( فَجعلت إِذا غفيت يَأْخُذ بشحمتي أُذُنِي) ، وَلم يَأْمُرهُ بِالنَّوْمِ.
قلت: لِأَنَّهُ جَاءَ تِلْكَ اللَّيْلَة ليتعلم مِنْهُ فَفعل ذَلِك ليَكُون أثبت لَهُ.
فان قلت: الشَّرْط هُوَ سَبَب للجزاء، فههنا النعاس سَبَب للنوم أَو لِلْأَمْرِ بِالنَّوْمِ؟ قلت: مثله مُحْتَمل للأمرين، كَمَا يُقَال فِي نَحْو: اضربه تاديباً، لِأَن التَّأْدِيب مفعول لَهُ، إِمَّا لِلْأَمْرِ بِالضَّرْبِ وَإِمَّا للْمَأْمُور بِهِ، وَالظَّاهِر الأول.
قَوْله: ( وَهُوَ ناعس) جملَة اسمية وَقعت حَالا.
فَإِن قلت: مَا الْفَائِدَة فِي تَغْيِير الأسلوب حَيْثُ قَالَ: ثمَّة وَهُوَ يُصَلِّي، بِلَفْظ الْفِعْل، وَهَهُنَا: وَهُوَ ناعس، بِلَفْظ إسم الْفَاعِل؟ قلت: ليدل على أَنه لَا يَكْفِي تجدّد أدنى نُعَاس وتقضيه فِي الْحَال، بل لَا بُد من ثُبُوته بِحَيْثُ يُفْضِي إِلَى عدم درايته بِمَا يَقُول.
وَعدم علمه بِمَا يقْرَأ.
فَإِن قلت: هَل فرق بَين نعس وَهُوَ يُصَلِّي، وَصلى وَهُوَ ناعس؟ قلت: الْفرق الَّذِي بَين ضرب قَائِما، وَقَامَ ضَارِبًا، وَهُوَ احْتِمَال الْقيام بِدُونِ الضَّرْب فِي الأول، وَاحْتِمَال الضَّرْب بِدُونِ الْقيام فِي الثَّانِي.
وَإِنَّمَا اخْتَار ذَلِك ثمَّة وَهَذَا هُنَا لِأَن الْحَال قيد وفضلة، وَالْأَصْل فِي الْكَلَام هُوَ مَاله الْقَيْد، فَفِي الأول: لَا شكّ أَن النعاس هُوَ عِلّة الْأَمر بالرقاد لَا الصَّلَاة فَهُوَ الْمَقْصُود الْأَصْلِيّ فِي التَّرْكِيب، وَفِي الثَّانِي: الصَّلَاة عِلّة للاستغفار، إِذْ تَقْدِير الْكَلَام: فَإِن أحدكُم إِذا صلى وَهُوَ ناعس يسْتَغْفر.
وَقَوله: ( لَا يدْرِي) وَقع موقع الْجَزَاء إِذا كَانَت كلمة: إِذا، شَرْطِيَّة.
وَإِن لم تكن شَرْطِيَّة يكون خَبرا: لَان، فَافْهَم.
قَوْله: ( لَعَلَّه يسْتَغْفر) أَي: يُرِيد الاسْتِغْفَار، ( فيسب) يَعْنِي: يَدْعُو على نَفسه، وَصرح بِهِ النَّسَائِيّ فِي رِوَايَة من طَرِيق أَيُّوب عَن هِشَام؛ وَفِي بعض النّسخ: ( يسب) ، بِدُونِ الْفَاء.
فَإِن قلت: مَا الْفرق بَينهمَا؟ قلت: بِدُونِ الْفَاء تكون الْجُمْلَة حَالا، وبالفاء عطفا على: ( يسْتَغْفر) ؛ وَيجوز فِي: ( يسب) الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فباعتبار عطف الْفِعْل على الْفِعْل، وَأما النصب فباعتبار أَنه جَوَاب لكلمة: لَعَلَّ، الَّتِي للترجي، فَإِنَّهَا مثل: لَيْت.
فَإِن قلت: كَيفَ يَصح هَهُنَا معنى الترجي؟ قلت: الترجي فِيهِ عَائِد إِلَى الْمُصَلِّي لَا إِلَى الْمُتَكَلّم بِهِ، أَي: لَا يدْرِي أمستغفر أم سَاب مترجياً للاسغفار، فَهُوَ فِي الْوَاقِع بضد ذَلِك.
أَو اسْتعْمل بِمَعْنى التَّمَكُّن بَين الاسْتِغْفَار والسب، لِأَن الترجى بَين حُصُول المرجو وَعَدَمه، فَمَعْنَاه: لَا يدْرِي أيستغفر أم يسب؟ وَهُوَ مُتَمَكن مِنْهُمَا على السوية.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: أَن فِيهِ الْأَمر بِقطع الصَّلَاة عِنْد غَلَبَة النّوم عَلَيْهِ، وَأَن وضوءه ينْتَقض حِينَئِذٍ.
الثَّانِي: أَن النعاس إِذا كَانَ أقل من ذَلِك يُعْفَى عَنهُ، فَلَا ينْتَقض وضوؤه، وَقد أَجمعُوا على أَن النّوم الْقَلِيل لَا ينْقض الْوضُوء، وَخَالف فِيهِ الْمُزنِيّ فَقَالَ: ينْقض قَلِيله وَكَثِيره، لما ذكرنَا.
.

     وَقَالَ  الْمُهلب وَابْن بطال وَابْن التِّين وَغَيرهم: إِن الْمُزنِيّ خرق الْإِجْمَاع.
قلت: هَذَا تحامل مِنْهُم عَلَيْهِ، لِأَن الَّذِي قَالَه نقل عَن بعض الصَّحَابَة التَّابِعين، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الثَّالِث: فِيهِ الْأَخْذ بِالِاحْتِيَاطِ لِأَنَّهُ علل بِأَمْر مُحْتَمل.
الرَّابِع: فِيهِ الدُّعَاء فِي الصَّلَاة من غير تعْيين بِشَيْء من الْأَدْعِيَة.
الْخَامِس: فِيهِ الْحَث على الْخُشُوع وَحُضُور الْقلب فِي الْعِبَادَة، وَذَلِكَ لِأَن الناعس لَا يحضر قلبه، والخشوع إِنَّمَا يكون بِحُضُور الْقلب.





[ قــ :09 ... غــ :13 ]
- حدّثنا أبْو مَعْمَرٍ قَالَ حدّثنا عَبْدُ الوَارِث قَالَ حدّثنا أيُّوبُ عَنْ أبي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ إذَا نَعَسَ أحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَنَمْ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقرَأُ.

وَجه الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة قد ذَكرْنَاهُ
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: هُوَ عبد الله بن عَمْرو الْمَشْهُور بالمقعد، تقدم ذكره فِي بابُُ قَول النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: ( اللَّهُمَّ علمه الْكتاب) .
الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد بن ذكْوَان التنوري، تقدم فِي الْبابُُ الْمَذْكُور.
الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، سبق ذكره فِي بابُُ حلاوة الْإِيمَان.
الرَّابِع: أَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف وَتَخْفِيف اللَّام: واسْمه عبد الله بن زيد الحرمي، سبق ذكره فِي الْبابُُ الْمَذْكُور.
الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، وهما: أَيُّوب وَأَبُو قلَابَة، رحمهمَا الله تَعَالَى.

بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الطفَاوِي عَن أَيُّوب.

بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: ( إِذا نعس أحدكُم) لَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: احدكم، بل الْمَوْجُود: إِذا نعس، فَقَط اي: إِذا نعس الْمُصَلِّي، وَحذف فَاعله للْعلم بِهِ بِقَرِينَة ذكر الصَّلَاة، وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: ( إِذا نعس احدكم) ، وَفِي ( مُسْند) مُحَمَّد بن نصر من طَرِيق وهيب عَن أَيُّوب: ( فلينصرف) .
قَوْله: ( فلينم) قَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا هَذَا فِي صَلَاة اللَّيْل، لِأَن الْفَرِيضَة لَيست فِي أَوْقَات النّوم، وَلَا فِيهَا من التَّطْوِيل مَا يُوجب ذَلِك.
قُلْنَا: الْعبْرَة لعُمُوم اللَّفْظ لَا لخُصُوص السَّبَب.
قَوْله: ( فِي الصَّلَاة) وَفِي بعض النّسخ لَيْسَ فِيهِ ذكر الصَّلَاة.
قَوْله: ( حَتَّى يعلم) بِالنّصب لَا غير،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: قيل معنى: ( فلينم) ؛ فليتجوز فِي الصَّلَاة ويتمها وينام.
قَوْله: ( مَا يقْرَأ) كلمة: مَا، مَوْصُولَة، والعائد الْمَفْعُول مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: مَا يَقْرَؤُهُ، وَيحْتَمل أَن تكون استفهامية.
.

     وَقَالَ  الْإِسْمَاعِيلِيّ: فِي هَذَا الحَدِيث اضْطِرَاب، لِأَن حَمَّاد بن زيد رَوَاهُ فَوَقفهُ،.

     وَقَالَ  فِيهِ: قرىء عَليّ كتاب عَن أبي قلَابَة، فعرفته.
وَرَوَاهُ عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب فَلم يذكر أنسا.
وَأجِيب: بِأَن هَذَا لَا يُوجب الِاضْطِرَاب، لِأَن رِوَايَة عبد الْوَارِث أرجح بموافقة وهيب والطفاوي لَهُ عَن أَيُّوب.
قَوْله: ( قرىء على) لَا يدل على أَنه لم يسمعهُ من أبي قلَابَة، بل يحمل على أَنه عرف أَنه فِيمَا سَمعه من أبي قلَابَة.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: أَن فِيهِ الْأَمر بِقطع الصَّلَاة عِنْد غَلَبَة النّوم.
الثَّانِي: أَن قَلِيل النّوم مَعْفُو كَمَا ذكرنَا فِي الحَدِيث السَّابِق، لِأَن ذَلِك يُوضح معنى هَذَا.
الثَّالِث: فِيهِ الْحَث على الخضوع والخشوع، وَذَلِكَ بطرِيق الِالْتِزَام.