فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب غسل الدم

(بابُُ غَسْلِ الدَّمِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم غسل الدَّم، بِفَتْح الْغَيْن، وَأَرَادَ بِهِ دم الْحيض.

والمناسبة بَين الْبابَُُيْنِ ظَاهِرَة لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا فِي بَيَان إِزَالَة النَّجَاسَة، فَفِي الأول عَن الْبَوْل، وَفِي الثَّانِي عَن الدَّم، وَكِلَاهُمَا فِي النَّجَاسَة سَوَاء.



[ قــ :224 ... غــ :227 ]
- حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ المثَنَّي قَالَ حَدثنَا يَحْيىَ عنْ هِشامٍ قَالَ حدثَتْنِي فاطِمَةُ عنْ أَسْمَاءَ قالَتْ جاءَتِ امْرأَةٌ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقالَتْ أرأَيْتَ إحْدَانَا تَحِيضُ فِي الثَوْبِ كَيْفَ تَصْنَعُ قَالَ تَحتهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بالمَاءِ وتنْضَحُهُ وَتُصَلِّي فِيهِ.

(الحَدِيث 227 طرفه فِي: 307) .

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: مُحَمَّد بن الْمثنى، بِفَتْح النُّون: وَهُوَ الْمَعْرُوف بالزَّمن، وَيحيى هُوَ: ابْن سعيد الْقطَّان، وَهِشَام هُوَ: ابْن عُرْوَة بن الزبير، وَقد تقدمُوا فِي بابُُ: أحب الدّين إِلَى الله أَدْوَمه، وَفَاطِمَة هِيَ: بنت الْمُنْذر بن الزبير زَوْجَة هِشَام الْمَذْكُور، تروي عَن جدَّتهَا أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْمَعْرُوفَة: بِذَات النطاقين، تقدمتا فِي بابُُ: من أجَاب الْفتيا بِإِشَارَة.

بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: رِوَايَة الْأُنْثَى؛ وَرُوَاته مَا بَين شَامي ومصري.

بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هُنَا، وَفِي الْبيُوع أَيْضا عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك، وَفِي الصَّلَاة عَن أبي مُوسَى عَن يحيى.
وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع، وَعَن مُحَمَّد ابْن حَاتِم عَن يحيى، وَعَن أبي كريب عَن عبد الله بن نمير، وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح، وَعَن ابْن وهب عَن يحيى بن عبد الله ابْن سَالم وَمَالك وَعَمْرو بن الْحَارِث.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن القعْنبِي عَن مَالك، وَعَن مُسَدّد عَن حَمَّاد بن زيد وَعِيسَى بن يُونُس، وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن حَمَّاد بن سَلمَة.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن سُفْيَان، عشرتهم عَن هِشَام بن عُرْوَة بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يحيى بن حبيب عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر عَن هِشَام بن عُرْوَة بِهِ.

بَيَان لغته وَإِعْرَابه قَوْله: (تَحْتَهُ) من: حت الشي عَن الثَّوْب وَغَيره يحته حتاً: فركه وقشره فانحت، وتحات.
وَفِي (الْمُنْتَهى) : الحت: حتك الْوَرق من الشّجر، والمني وَالدَّم وَنَحْوهمَا من الثَّوْب وَغَيره، وَهُوَ دون النحت.
وَعند ابْن طريف: حت الشَّيْء: نفضه.
وَقيل: مَعْنَاهُ تحكه، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة.
قَوْله: (تقرصه) قَالَ فِي (الْمغرب) : الحت: القرص بِالْيَدِ، والقرص بأطراف الْأَصَابِع.
وَفِي (الْمُحكم) القرص التخميش والغمز بالأصبع، والمقرص: المقطع الْمَأْخُوذ من شَيْئَيْنِ، وَقد قرضه وقرصه.
وَفِي (الْجَامِع) كل مقطع مقرض.
وَفِي (الصِّحَاح) : أقرصيه بِمَاء أَي: اغسليه بأطراف أصابعك، ويروى: قرضيه، بِالتَّشْدِيدِ.
.

     وَقَالَ  ابو عبيد: أَي: قطعيه.
.

     وَقَالَ  فِي (مجمع الغرائب) : هُوَ أبلغ فِي إذهاب الْأَثر عَن الثَّوْب.
.

     وَقَالَ  عِيَاض: روينَاهُ بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْقَاف وَضم الرَّاء وبضم التَّاء وَفتح الْقَاف وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة.
قَالَ: وَهُوَ الدَّلْك بأطراف الْأَصَابِع مَعَ صب المَاء عَلَيْهِ حَتَّى يذهب أَثَره.
قَوْله: (وتنضحه) أَي: تغسله، قَالَه الْخطابِيّ:.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: المُرَاد بِهِ الرش، وَهُوَ من بابُُ: فتح يفتح، بِفَتْح عين الْفِعْل فيهمَا،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: تنضحه، بِكَسْر الضَّاد: وَكَذَا قَالَ مغلطاي فِي شَرحه، وَهُوَ غلط.
قَوْله: (إحدانا) مُبْتَدأ وَقَوله: (تحيض) خَبره، قَوْله: (كَيفَ تصنع) ؟ يتَعَلَّق بقوله: (أَرَأَيْت) .
بَيَان معانية قَوْله: (جَاءَت امْرَأَة) وَقع رِوَايَة الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى، عَنهُ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن هِشَام فِي هَذَا الحَدِيث: أَن أَسمَاء هِيَ السائلة، وَأنكر النَّوَوِيّ هَذَا، وَضعف هَذِه الرِّوَايَة، وَلَا وَجه لإنكاره، لِأَنَّهُ لَا يبعد أَن يبهم الرَّاوِي اسْم نَفسه، وَقد وَقع مثل هَذَا فِي حَدِيث أبي سعيد، رَضِي الله عَنهُ، فِي قصَّة الرّقية بِفَاتِحَة الْكتاب.
قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي: أَخْبرنِي، قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ، وَفِيه تجوز لإِطْلَاق الرُّؤْيَة، وَإِرَادَة الْإِخْبَار، لِأَن الرُّؤْيَة سَبَب الْإِخْبَار، وَجعل الِاسْتِفْهَام بِمَعْنى الْأَمر بِجَامِع الطّلب.
قَوْله: (تحيض فِي الثَّوْب) أَي: يصل دم الْحيض إِلَى الثَّوْب، هَكَذَا فسره الْكرْمَانِي.
قلت: الْمَعْنى: تحيض حَال كَونهَا فِي الثَّوْب، وَمن ضَرُورَة ذَلِك وُصُول الدَّم إِلَى الثَّوْب.
وللبخاري، من طَرِيق مَالك عَن هِشَام: إِذا أصَاب ثوبها الدَّم من الْحيض، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن أَسمَاء: (سَمِعت امْرَأَة تسْأَل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: كَيفَ تصنع إحدانا بثوبها إِذا رَأَتْ الطُّهْر أتصلى فِيهِ؟ قَالَ: تنظر، فَإِن رَأَتْ فِيهِ دَمًا فلتقرصه بِشَيْء من مَاء، ولتنضح مَا لم تَرَ ولتصل

فِيهِ) .
وَعند مُسلم: (الْمَرْأَة تصيب ثوبها من دم الْحَيْضَة) ، وَعند التِّرْمِذِيّ: (إقرصيه بِمَاء ثمَّ رشيه) .
وَعند ابْن خُزَيْمَة: (كَيفَ تصنع بثيابها الَّتِي كَانَت تلبس؟ فَقَالَ إِن رَأَتْ فِيهَا شَيْئا فلتحكه ثمَّ لتقرصه بِشَيْء من مَاء، وتنضح فِي سَائِر الثَّوْب بِمَاء، ولتصل فِيهِ) .
وَفِي لفظ: (إِن رَأَيْت فِيهِ دَمًا فحكيه) .
وَفِي لفظ: (رشيه وَصلي فِيهِ) .
وَفِي لفظ: (ثمَّ تنضحه وَتصلي فِيهِ) .
وَعند أبي نعيم: (لتحته ثمَّ لتقرصه ثمَّ لتنضحه ثمَّ لتصل فِيهِ) .
وَفِي حَدِيث مُجَاهِد عَن عَائِشَة البُخَارِيّ: (مَا كَانَ لإحدانا إلاَّ ثوب وَاحِد تحيض فِيهِ، فَإِذا أَصَابَهُ شَيْء من دم قَالَت بريقها، فمعنعته بظفرها) .
أَي: عركته.
وَاخْتلف فِي سَماع مُجَاهِد عَن عَائِشَة، فَأنكرهُ ابْن حبَان وَيحيى بن معِين وَيحيى بن سعيد وَشعْبَة وَآخَرُونَ، وأثبته البُخَارِيّ وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَمُسلم وَآخَرُونَ، وَعند البُخَارِيّ من حَدِيث الْقَاسِم عَنْهَا: (ثمَّ تقرص الدَّم من ثوبها عِنْد طهرهَا فتغسله وتنضح على سائره ثمَّ تصلي فِيهِ) .
وَفِي حَدِيث أم قيس بنت مُحصن، عِنْد ابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان: (إغسليه بِالْمَاءِ والسدر وحكيه وَلَو بضلع) ، زَاد ابْن حبَان قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اغسليه بِالْمَاءِ) ، أَمر فرض، وَذكر السدر والحك بالضلع أَمر ندب وإرشاد.
.

     وَقَالَ  ابْن الْقطَّان: هُوَ حَدِيث فِي غَايَة الصِّحَّة، وَعَابَ على أبي أَحْمد قَوْله: الْأَحَادِيث الصِّحَاح لَيْسَ فِيهَا ذكر الضلع والسدر، وَعند أبي أَحْمد العسكري: (حكيه بضلع واتبعيه بِمَاء وَسدر) .
وَعند أَحْمد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (إِن خَوْلَة بنت يسَار قَالَت: يَا رَسُول الله لَيْسَ لي إلاَّ ثوب وَاحِد، وَأَنا أحيض فِيهِ، قَالَ: فَإِذا طهرت فاغسلي مَوضِع حيضك ثمَّ صلي فِيهِ، قَالَت: يَا رَسُول الله أرى لم يخرج اثره، قَالَ: يَكْفِيك المَاء وَلَا يَضرك أَثَره) .
وَلما ذكره ابْن أبي خَيْثَمَة فِي (تَارِيخه الْكَبِير) جعله من مُسْند خَوْلَة، وَكَذَلِكَ الطَّبَرَانِيّ، وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) عَن امْرَأَة من غفار: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما رأى ثِيَابهَا من الدَّم، قَالَ: أصلحي من نَفسك، ثمَّ خذي إِنَاء من مَاء واطرحي فِيهِ ملحاً، ثمَّ اغسلي مَا أصَاب حقيبة الرجل من الدَّم، ثمَّ عودي لمركبك) .
وَعند الدَّارمِيّ، بِسَنَد فِيهِ ضعف عَن أم سَلمَة، رَضِي الله عَنْهَا: (إِن إِحْدَاهُنَّ تسبقها القطرة من الدَّم.
فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا أصَاب إحداكن بذلك فلتقصعه بريقها.
وَعند ابْن خُزَيْمَة: وَقيل لَهَا: كَيفَ كنتن تصنعن بثيابكن إِذا طمثن على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَت: إِن كُنَّا لنطمث فِي ثيابنا أَو فِي دروعنا، فَمَا نغسل مِنْهُ إلاَّ أثر مَا أَصَابَهُ الدَّم.
قَوْله: (تَحْتَهُ) الضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ، وَفِي قَوْله: (ثمَّ تقرصه) يرجع إِلَى الثَّوْب.
وَفِي قَوْله: و (تنضحه) يرجع إِلَى المَاء، وَقد ذكرنَا عَن قريب أَن الخاطبي قَالَ: تنضحه أَي: تغسله.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: المُرَاد بِهِ الرش، لِأَن غسل الدَّم اسْتُفِيدَ من قَوْله: (تقرصه بِالْمَاءِ) ، وَأما النَّضْح فَهُوَ لما شكّ فِيهِ من الثَّوْب.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: فعلى هَذَا الضَّمِير فِي قَوْله: (تنضحه) يعود على الثَّوْب، بِخِلَاف: تَحْتَهُ، فَإِنَّهُ يعود على الدَّم، فَيلْزم مِنْهُ إختلاف الضمائر، وَهُوَ على خلاف الأَصْل.
قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن لفظ: الدَّم، غير مَذْكُور صَرِيحًا، وَالْأَصْل فِي عود الضَّمِير أَن يكون إِلَى شَيْء صَرِيح، وَالْمَذْكُور هُنَا صَرِيحًا: الثَّوْب وَالْمَاء، فالضميران الْأَوَّلَانِ يرجعان إِلَى الثَّوْب لِأَنَّهُ الْمَذْكُور قبلهمَا، وَالضَّمِير الثَّالِث يرجع إِلَى: المَاء، لِأَنَّهُ الْمَذْكُور قبله، وَهَذَا هُوَ الأَصْل.
ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: ثمَّ إِن الرش على الْمَشْكُوك فِيهِ لَا يُفِيد شَيْئا، لِأَنَّهُ إِن كَانَ طَاهِرا فَلَا حَاجَة إِلَيْهِ، وَإِن كَانَ متنجساً لم يتَطَهَّر بذلك، فَالْأَحْسَن مَا قَالَه الخاطبي.
قلت: الَّذِي قَالَه الْقُرْطُبِيّ هُوَ الْأَحْسَن لِأَنَّهُ يلْزم التّكْرَار من قَول الخاطبي بِلَا فَائِدَة، لأَنا ذكرنَا أَن الحت هُوَ الفرك، والقرص هُوَ الدَّلْك بأطراف الاصابع مَعَ صب المَاء عَلَيْهِ حَتَّى يذهب أَثَره، لما نَقَلْنَاهُ عَن القَاضِي عِيَاض، ففهم الْغسْل من لَفْظَة القرص، فَإِذا قُلْنَا: الرش بِمَعْنى الْغسْل يلْزم التّكْرَار، ثمَّ قَوْله: ثمَّ إِن الرش ... إِلَى آخِره، كَلَام من غير رُوِيَ، لِأَن الرش هَهُنَا لإِزَالَة الشَّك المتردد فِي الخاطر، كَمَا جَاءَ فِي رش المتوضىء المَاء على سراويله بعد فَرَاغه من الْوضُوء، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَافْهَم.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: مَا قَالَه الخاطبي: إِن فِيهِ دَلِيلا على أَن النَّجَاسَات إِنَّمَا تَزُول بِالْمَاءِ دون غَيره من الْمَائِعَات، لَان جَمِيع النَّجَاسَات بِمَثَابَة الدَّم، لَا فرق بَينه وَبَينهَا إِجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ اسْتدلَّ بِهِ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) على أَصْحَابنَا فِي وجوب الطَّهَارَة بِالْمَاءِ دون غَيره من الْمَائِعَات الطاهرة.
قلت: هَذَا خرج مخرج الْغَالِب لَا مخرج الشَّرْط، كَقَوْلِه تَعَالَى: { وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم} (النِّسَاء: 23) وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَن المَاء أَكثر وجودا من غَيره، أَو نقُول: تَخْصِيص الشَّيْء بِالذكر لَا يدل على نفي الحكم عَمَّا عداهُ، أَو نقُول: إِنَّه مَفْهُوم لقب، وَلَا يَقُول بِهِ إمامنا.

وَمِنْهَا: أَنه يدل على وجوب غسل النَّجَاسَات من الثِّيَاب،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: حَدِيث أَسمَاء أصل عِنْد الْعلمَاء فِي غسل النَّجَاسَات من الثِّيَاب، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث مَحْمُول عِنْدهم على الدَّم الْكثير، لِأَن الله تَعَالَى شَرط فِي نَجَاسَته أَن يكون مسفوحاً، وَهُوَ كِنَايَة عَن الْكثير الْجَارِي إلاَّ أَن الْفُقَهَاء اخْتلفُوا فِي مِقْدَار مَا يتَجَاوَز عَنهُ من الدَّم، فَاعْتبر الْكُوفِيُّونَ فِيهِ، وَفِي النَّجَاسَات دون الدِّرْهَم فِي الْفرق بَين قَلِيله وَكَثِيره.
.

     وَقَالَ  مَالك: قَلِيل الدَّم مَعْفُو، وَيغسل قَلِيل سَائِر النَّجَاسَات.
وَرُوِيَ عَن ابْن وهب: إِن قَلِيل دم الْحيض ككثيره وكسائر الأنجاس، بِخِلَاف سَائِر الدِّمَاء، وَالْحجّة فِي أَن الْيَسِير من دم الْحيض كالكثير قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأسماء: (حتيه ثمَّ اقرصيه) ، حَيْثُ لم يفرق بَين قَلِيله وَكَثِيره، وَلَا سَأَلَهَا عَن مِقْدَاره وَلم يحد فِيهِ مِقْدَار الدِّرْهَم وَلَا دونه.
قلت: حَدِيث عَائِشَة: (مَا كَانَ لإحدانا إلاَّ ثَوَاب وَاحِد فِيهِ تحيض فَإِن أَصَابَهُ شَيْء من دم بلته بريقها، ثمَّ قصعته بريقها) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا، وَلَفظه: (قَالَت بريقها فمصعته) ، يدل على الْفرق بَين الْقَلِيل وَالْكثير،.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ: هَذَا فِي الدَّم الْيَسِير الَّذِي يكون معفواً عَنهُ، وَأما الْكثير مِنْهُ فصح عَنْهَا.
أَي: عَن عَائِشَة.
أَنَّهَا كَانَت تغسله، فَهَذَا حجَّة عَلَيْهِم فِي عدم الْفرق بَين الْقَلِيل وَالْكثير من النَّجَاسَة، وعَلى الشَّافِعِي أَيْضا فِي قَوْله: (إِن يسير الدَّم يغسل كَسَائِر الأنجاس إلاَّ دم الراغيث، فَإِنَّهُ لَا يُمكن التَّحَرُّز عَنهُ) .
وَقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، أَنه لَا يرى بالقطرة والقطرتين بَأْسا فِي الصَّلَاة، وعصر ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، بثرة فَخرج مِنْهَا دم فمسحه بِيَدِهِ وَصلى، فالشافعية لَيْسُوا بإكثر إحتياطاً من أبي هُرَيْرَة وَابْن عمر، وَلَا أَكثر رِوَايَة عَنْهُمَا حَتَّى خالفوهما، حَيْثُ لم يفرقُوا بَين الْقَلِيل وَالْكثير، على أَن قَلِيل الدَّم مَوضِع ضَرُورَة، لِأَن الْإِنْسَان لَا يَخْلُو فِي غَالب حَاله من بثرة أَو دمل أَو برغوث، فعفى عَنهُ، وَلِهَذَا حرم الله المسفوح مِنْهُ، فَدلَّ أَن غَيره لَيْسَ بِمحرم، وَأما تَقْدِير أَصْحَابنَا الْقَلِيل بِقدر الدِّرْهَم، فَلَمَّا ذكره صَاحب (الاسرار) عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود أَنَّهُمَا قدرا النَّجَاسَة بالدرهم، وكفي بهما حجَّة فِي الِاقْتِدَاء.
وَرُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَيْضا أَنه قدره بظفره، وَفِي (الْمُحِيط) : وَكَانَ ظفره قَرِيبا من كفنا، فَدلَّ على أَن مَا دون الدِّرْهَم لَا يمْنَع.
.

     وَقَالَ  فِي (الْمُحِيط) أَيْضا: الدِّرْهَم الْكَبِير مَا يكون مثل عرض الْكَفّ، وَفِي صَلَاة الأَصْل: الدِّرْهَم الْكَبِير المثقال يَعْنِي: يبلغ مِثْقَالا.
وَعند السَّرخسِيّ: يعْتَبر بدرهم زَمَانه، وَأما الحَدِيث الَّذِي روايه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) عَن روح بن غطيف عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (تُعَاد الصَّلَاة من قدر دِرْهَم من الدَّم) ، وَفِي لفظ: (إِذا كَانَ فِي الثَّوْب قدر الدِّرْهَم من الدَّم غسل الثَّوْب وأعيدت الصَّلَاة) .
وَإِن اصحابنا لم يحتجوا بِهِ، لِأَنَّهُ حَدِيث مُنكر، بل قَالَ البُخَارِيّ: إِنَّه بَاطِل.
فَإِن قلت: النَّص وَهُوَ قَوْله: { وثيابك فطهر} (المدثر: 4) لم يفصل بَين الْقَلِيل وَالْكثير، فَلَا يُعْفَى الْقَلِيل.
قلت: الْقَلِيل غير مُرَاد مِنْهُ بِالْإِجْمَاع بِدَلِيل عَفْو مَوضِع الِاسْتِنْجَاء فَتعين الْكثير، وَقد قدر الْكثير بالآثار.

وَمِنْهَا: أَن فِيهِ الدّلَالَة على أَن الدَّم نجس بِالْإِجْمَاع.

وَمِنْهَا: أَن فِيهِ الدّلَالَة على أَن الْعدَد لَيْسَ بِشَرْط فِي إِزَالَة النَّجَاسَة بل المُرَاد الإنقاء.

وَمِنْهَا: أَنَّهَا إِذا لم تَرَ فِي ثوبها شَيْئا من الدَّم ترش عَلَيْهِ مَاء وَتصلي فِيهِ.





[ قــ :5 ... غــ :8 ]
- حدّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدثنَا أبُو مُعاويَةَ قَالَ حَدثنَا هِشامُ بنُ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ جاءَتْ فاطِمَةُ ابْنةُ أبي حُبَيْشٍ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقالَتْ يَا رسولَ اللَّهِ إنِّي امْرَأةٌ اُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ فَقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا إنَّما ذلِكِ عِرْقٌ ولَيْسَ بِحَيْضٍ فاذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فدَعِي الصَّلاةَ وَإِذا أَدْبَرتْ فاغْسلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي قَالَ.

     وَقَالَ  أبي ثُمَّ تَوَضَّئِي لكُلِّ صَلاةٍ حتَّى يَجىءَ ذلكِ الوَقْتُ..
هَذَا الحَدِيث أَيْضا مُطَابق للتَّرْجَمَة.

بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة.
الأول: مُحَمَّد بن سَلام، بتَخْفِيف: اللَّام، البيكندي، تقدم فِي بابُُ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَنا أعلمكُم بِاللَّه) ، وَقد وَقع فِي أَكثر النّسخ عِنْد الْأَكْثَرين: حَدثنَا مُحَمَّد، غير مَنْسُوب، وللأصيلي: حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلام وَلأبي ذَر: حَدثنَا مُحَمَّد، وَهُوَ ابْن سَلام.

الثَّانِي: أَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير: مُحَمَّد بن خازم، بالمعجمتين، وَقد تقدم عَن قريب.
الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير، وَقد مر أَيْضا غير مرّة.
الرَّابِع: أَبُو عُرْوَة، كَذَلِك.
الْخَامِس: عَائِشَة الصديقة بنت الصّديق.
السَّادِس: فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره شين مُعْجمَة: القرشية الأَسدِية، وَاسم أبي حُبَيْش: قيس بن الْمطلب،.

     وَقَالَ  بَعضهم: قيس بن عبد الْمطلب.
قَالَ بعض الشَّارِحين: وَقع فِي أَكثر نسخ مُسلم: عبد الْمطلب، وَهُوَ غلط.
قلت: هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَكَذَا قَالَ الذَّهَبِيّ فِي (تَجْرِيد الصَّحَابَة) : قيس بن الْمطلب بن أَسد، وَهُوَ الْمطلب بن أَسد، وَهِي غير: فَاطِمَة بنت قيس، الَّتِي طلقت ثَلَاثًا.

بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: ذكر أبي مُعَاوِيَة هُنَا بالكنية، وَفِي بابُُ غسل الْبَوْل بِالِاسْمِ، رِعَايَة للفظ الشُّيُوخ.
وَفِيه: حِكَايَة الصحابية عَن سُؤال الصحابية عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَفِيه: أَن البُخَارِيّ روى هَهُنَا عَن مُحَمَّد غير مَنْسُوب عِنْد الْأَكْثَرين كَمَا ذكرنَا، وَصرح بِهِ فِي النِّكَاح بقوله: حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلام حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة ... وَذكر الكلاباذي أَن البُخَارِيّ روى عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن أبي مُعَاوِيَة، وَعَن مُحَمَّد بن سَلام عَن أبي مُعَاوِيَة، وَرَوَاهُ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ من طَرِيق إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن أبي مُعَاوِيَة، وَذكر أَن البُخَارِيّ رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن أبي مُعَاوِيَة.

بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى، وَالتِّرْمِذِيّ عَن هناد بن السّري، وَالنَّسَائِيّ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، ثَلَاثَتهمْ عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن يُونُس، وَعبد الله بن مُحَمَّد النُّفَيْلِي، قَالَا: حَدثنَا زُهَيْر، قَالَ: حَدثنَا هِشَام بن عُرْوَة عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
وَأخرجه أَيْضا من مُسْند فَاطِمَة الْمَذْكُور.

بَيَان لغته قَوْله: (استحاض) ، بِضَم الْهمزَة وَسُكُون السِّين وَفتح التَّاء.
قَالَ الْجَوْهَرِي: استحيضت الْمَرْأَة أَي: اسْتمرّ بهَا الدَّم بعد أَيَّامهَا، فَهِيَ مُسْتَحَاضَة.
وَفِي الشَّرْع: الْحيض عبارَة عَن الدَّم الْخَارِج من الرَّحِم، وَهُوَ مَوضِع الْجِمَاع والولادة لَا تعقب ولادَة مُقَدرا فِي وَقت مَعْلُوم،.

     وَقَالَ  الْكَرْخِي: الْحيض دم تصير الْمَرْأَة بَالِغَة بابُتداء خُرُوجه، والاستحاضة اسْم لما نقص من أقل الْحيض أَو زَاد على أَكْثَره.
فان قلت: مَا وَجه بِنَاء الْفِعْل للْفَاعِل فِي الْحيض، وللمفعول فِي الِاسْتِحَاضَة؟ فَقيل: استحيضت؟ قلت: لما كَانَ الأول: مُعْتَادا مَعْرُوفا نسب إِلَيْهَا، وَالثَّانِي: لما كَانَ نَادرا غير مَعْرُوف الْوَقْت، وَكَانَ مَنْسُوبا إِلَى الشَّيْطَان، كَمَا ورد أَنَّهَا ركضة من الشَّيْطَان، بني لما لم يسم فَاعله.
فَإِن قلت: يجوز أَن تكون للتحول، كَمَا فِي: استحجر الطين، وَهنا أَيْضا تحول دم الْحيض إِلَى غير دَمه، وَهُوَ دم الأستحاضة.
فَافْهَم.
قَوْله: (عرق) ، بِكَسْر الْعين وَسُكُون الرَّاء: وَهُوَ الْمُسَمّى بالعادل، بِالْعينِ الْمُهْملَة والذال الْمُعْجَمَة، وَحكي إهمالها.
قَوْله: (وَلَيْسَ بحيض) لِأَن الْحيض يخرج من قَعْر الرَّحِم كَمَا ذكرنَا.
قَوْله: (حيضتك) ، بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا، وَهُوَ بِالْفَتْح: الْمرة، وبالكسر: اسْم للدم، والخرقة الَّتِي تستثفر بهَا الْمَرْأَة وَالْحَالة.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: المحدثون يَقُولُونَ بِالْفَتْح، وَهُوَ خطأ، وَالصَّوَاب الْكسر، لِأَن المُرَاد بهَا الْحَالة، ورده القَاضِي وَغَيره، وَقَالُوا: الْأَظْهر الْفَتْح، لِأَن المُرَاد إِذا أقبل الْحيض.
قَوْله: (وَإِذا أَدْبَرت) من: الإدبار وَهُوَ انْقِطَاع الْحيض.

بَيَان إعرابه وَمَعْنَاهُ قَوْله: (إِنِّي امْرَأَة) ، قد علم أَن كلمة: لَا تسْتَعْمل إلاَّ عِنْد إِنْكَار الْمُخَاطب لِلْقَوْلِ أَو التَّرَدُّد فِيهِ، وَمَا كَانَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنْكَار لاستحاضتها وَلَا تردد فِيهَا، فَوجه إستعمالها هَهُنَا يكون لتحقيق نفس الْقَضِيَّة، إِذْ كَانَت بعيدَة الْوُقُوع نادرة الْوُجُود، فَلذَلِك أكدت قَوْلهَا بِكَلِمَة: إِن قَوْله: (أفأدع) أَي: أفأترك.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فان قلت: الْهمزَة تَقْتَضِي عدم المسبوقية بِالْغَيْر، وَالْفَاء تَقْتَضِي المسبوقية بِهِ، فيكف يَجْتَمِعَانِ؟ قلت: هُوَ عطف على مُقَدّر أَي: ايكون لي حكم الْحَائِض فَادع الصَّلَاة، أَو الْهمزَة مقحمة، أَو توسطها جَائِز بَين المعطوفين إِذا كَانَ عطف الْجُمْلَة على الْجُمْلَة لعدم انسحاب ذكر الأول على الثَّانِي، أَو الْهمزَة بَاقِيَة على صرافة الاستفهامية، لِأَنَّهَا للتقرير هُنَا، فَلَا يَقْتَضِي الصدارة.
انْتهى كَلَامه.
قلت: هَذَا سُؤال عَن اسْتِمْرَار حكم الْحَائِض فِي حَالَة دوَام الدَّم وإزالته، وَهُوَ كَلَام من تقرر عِنْده أَن الْحَائِض مَمْنُوعَة من الصَّلَاة.
قَوْله: (لَا أَي: لَا تَدعِي الصَّلَاة.
قَوْله: (ذَلِك) بِكَسْر الْكَاف.
قَوْله: (عرق) أَي: دم عرق، لِأَن الْخَارِج لَيْسَ بعرق.
قَوْله: (فَإِذا أَقبلت) أَي: الْحَيْضَة، (فدعي الصَّلَاة) اي: اتركيها، (وَإِذا أَدْبَرت) أَي: إِذا انْقَطَعت.
فَإِن قلت: مَا عَلامَة إدبار الْحيض وإنقطاعه، والحصول فِي الطُّهْر.
قلت: أما عِنْد أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأَصْحَابه: الزَّمَان وَالْعَادَة هُوَ الفيصل بَينهمَا، فَإِذا أضلت عَادَتهَا تحرت، وَإِن لم يكن لَهَا ظن أخذت بِالْأَقَلِّ، وَأما عِنْد الشَّافِعِي وَأَصْحَابه اخْتِلَاف الألوان هُوَ الفيصل، فالأسود أقوى من الْأَحْمَر، والأحمر أقوى من الْأَشْقَر، والأشقر أقوى من الْأَصْفَر، والأصفر أقوى من الأكدر إِذا جعلا حيضا، فَتكون حَائِضًا فِي أَيَّام القوى، مُسْتَحَاضَة فِي أَيَّام الضعْف، والتمييز عِنْده بِثَلَاثَة شُرُوط: أَحدهَا: أَن لَا يزِيد الْقوي على خَمْسَة عشر يَوْمًا.
وَالثَّانِي: أَن لَا ينقص عَن يَوْم وَلَيْلَة ليمكن جعله حيضا.
وَالثَّالِث: أَن لَا ينقص الضَّعِيف عَن خَمْسَة عشر يَوْمًا، ليمكن جعله طهرا بَين الحيضتين، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد،.

     وَقَالَ  الثَّوْريّ: عَلامَة إنقطاع الْحيض والحصول فِي الطُّهْر أَن يَنْقَطِع خُرُوج الدَّم والصفرة والكدرة، سَوَاء خرجت رُطُوبَة بَيْضَاء أَو لم يخرج شَيْء أصلا.
.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ، وَابْن الصّباغ: الترية رُطُوبَة خَفِيفَة لَا صفرَة فِيهَا وَلَا كدرة، تكون على القطنة أثر لَا لون، وَهَذَا يكون بعد انْقِطَاع الْحيض.
قلت: الترية، بِفَتْح الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، قَالَ ابْن الْأَثِير: الترية، بِالتَّشْدِيدِ: مَا ترَاهُ الْمَرْأَة بعد الْحيض والاغتسال مِنْهُ من كدرة أَو صفرَة.
وَقيل: هُوَ الْبيَاض ترَاهُ عِنْد الطُّهْر.
وَقيل: هِيَ الْخِرْقَة الَّتِي تعرف بهَا الْمَرْأَة حَيْضهَا من طهرهَا.
و: التَّاء، فِيهَا زَائِدَة، لِأَنَّهُ من الرُّؤْيَة، وَالْأَصْل فِيهَا الْهَمْز لكِنهمْ تَرَكُوهُ وشددوا الْيَاء، فَصَارَت اللَّفْظَة كَأَنَّهَا فعلية، وَبَعْضهمْ يشدد الرَّاء.
قَوْله: (فاغسلي عَنْك الدَّم ثمَّ صلي) ظَاهره مُشكل لِأَنَّهُ لم يذكر الْغسْل وَلَا بُد بعد انْقِضَاء الْحيض من الْغسْل، وَأجِيب، عَنهُ: بِأَن الْغسْل، وَإِن لم يذكر فِي هَذِه الرِّوَايَة، فقد ذكر فِي رِوَايَة أُخْرَى صَحِيحَة، قَالَ فِيهَا: فاغتسلي ... ، والْحَدِيث يُفَسر بعضه بَعْضًا، وَجَوَاب آخر هُوَ: بِأَن يحمل الإدبار على انْقِضَاء أَيَّام الْحيض والاغتسال.
وَقَوله: (واغسلي عَنْك الدَّم) مَحْمُول على: دم، يَأْتِي بعد الْغسْل، وَالْأول أوجه وَأَصَح، وَأما قَول بَعضهم: فاغسلي عَنْك الدَّم وَصلي، أَي: فاغتسلي، فَغير موجه أصلا.
قَوْله: (قَالَ:.

     وَقَالَ  أبي) أَي: قَالَ هِشَام بن عُرْوَة: قَالَ أبي، وَهُوَ عُرْوَة ابْن الزبير.
قَوْله: (ثمَّ توضيء لكل صَلَاة) جملَة مقول القَوْل، وَادّعى قوم أَن قَوْله: (ثمَّ توضيء) من كَلَام عُرْوَة مَوْقُوفا عَلَيْهِ.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فان قلت: لفظ: (توضئي) الخ مَرْفُوع إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو هُوَ مَوْقُوف على الصَّحَابِيّ؟ قلت: السِّيَاق يَقْتَضِي الرّفْع،.

     وَقَالَ  بَعضهم: لَو كَانَ هَذَا كَلَام عُرْوَة لقَالَ: ثمَّ تتوضأ، بِصِيغَة الْإِخْبَار، فَلَمَّا أَتَى بِهِ بِصِيغَة الْأَمر شاكل الْأَمر الَّذِي فِي الْمَرْفُوع، وَهُوَ قَوْله: (فاغسلي) .
قلت: كَلَام كل من الْكرْمَانِي وَهَذَا الْقَائِل احْتِمَال، فَلَا يَقع بِهِ الْقطع وَلَا يلْزم من مشاكلة الصيغتين الرّفْع.

بَيَان استنباط الاحكام الأول: فِيهِ جَوَاز استفتاء الْمَرْأَة بِنَفسِهَا ومشافهتها الرِّجَال فِيمَا يتَعَلَّق بِأَمْر من أُمُور الدّين.

الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز اسْتِمَاع صَوت الْمَرْأَة عِنْد الْحَاجة الشَّرْعِيَّة.

الثَّالِث: فِيهِ نهي للمستحاضة عَن الصَّلَاة فِي زمن الْحيض، وَهُوَ نهي تَحْرِيم، وَيَقْتَضِي فَسَاد الصَّلَاة هُنَا بِإِجْمَاع الْمُسلمين، وَيَسْتَوِي فِيهَا الْفَرْض وَالنَّفْل لظَاهِر الحَدِيث، ويتبعها الطّواف وَصَلَاة الْجِنَازَة وَسجْدَة التِّلَاوَة وَسجْدَة الشُّكْر.

الرَّابِع: فِيهِ دَلِيل على نَجَاسَة الدَّم.

الْخَامِس: فِيهِ أَن الصَّلَاة تجب بِمُجَرَّد انْقِطَاع دم الْحيض.
وَأعلم أَنَّهَا إِذا مضى زمن حَيْضهَا وَجب عَلَيْهَا أَن تَغْتَسِل فِي الْحَال لأوّل صَلَاة تدركها، وَلَا يجوز لَهَا بعد ذَلِك أَن تتْرك صَلَاة أَو صوما، وَيكون حكمهَا حكم الطاهرات، فَلَا تستظهر بِشَيْء أصلا، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي.
وَعَن مَالك ثَلَاث رِوَايَات: الأولى: تستظهر ثَلَاثَة أَيَّام وَمَا بعد ذَلِك اسْتِحَاضَة.
وَالثَّانيَِة: تتْرك الصَّلَاة إِلَى انْتِهَاء خَمْسَة عشر يَوْمًا، وَهِي أَكثر مُدَّة الْحيض عِنْده.
وَالثَّالِثَة: كمذهبنا.

السَّادِس: اسْتدلَّ بعض أَصْحَابنَا فِي إِيجَاب الْوضُوء من خُرُوج الدَّم من غير السَّبِيلَيْنِ، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علل نقض الطَّهَارَة بِخُرُوج الدَّم من الْعرق، وكل دم يبرز من الْبدن فَإِنَّمَا يبرز من عرق، لِأَن الْعُرُوق هِيَ مجاري الدَّم من الْجَسَد.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: وَلَيْسَ معنى الحَدِيث مَا ذهب إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ، وَلَا مُرَاد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذَلِك مَا توهموه، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن هَذِه الْعلَّة إِنَّمَا حدثت بهَا من تصدع الْعرق، وتصدع الْعرق عِلّة مَعْرُوفَة عِنْد الْأَطِبَّاء يحدث ذَلِك عِنْد غَلَبَة الدَّم فتتصدع الْعُرُوق إِذا امْتَلَأت تِلْكَ الأوعية.
قلت: لَيْسَ معنى الحَدِيث مَا ذهب إِلَيْهِ الْخطابِيّ، لِأَنَّهُ قيد إِطْلَاق الحَدِيث وخصص عُمُومه من غير مُخَصص، وَهُوَ تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح وَهُوَ بَاطِل.

السَّابِع: قَوْله: (لكل صَلَاة) فِيهِ خلاف بَين الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة، وَهُوَ أَن الْمُسْتَحَاضَة وَمن بمعناها من أَصْحَاب الْأَعْذَار هَل يتوضؤون لكل صَلَاة، أَو لكل وَقت صَلَاة، وَهُوَ مَذْكُور فِي كتب الْفِقْه.