فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره

( بابٌُ لَا يَمْنَعُ جارٌ جارَهُ أنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ: لَا يمْنَع جَار ... إِلَى آخِره.
قَوْله: ( خَشَبَة) ، بِالْإِفْرَادِ والتنوين فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره خشباً بِصِيغَة الْجمع، وَرَأَيْت صَاحب ( التَّلْوِيح) قد ضبط بِيَدِهِ: خشباً، بِضَم الْخَاء وَسُكُون الشين.
قلت: تجمع الْخَشَبَة على خشب بِفتْحَتَيْنِ وخشب بِضَم الْخَاء وَسُكُون الشين وخشب بِضَمَّتَيْنِ وخشبان، وروى الطَّحَاوِيّ عَن جمَاعَة من الْمَشَايِخ أَنهم رَوَوْهُ فِي الحَدِيث بِالْإِفْرَادِ، وَأنكر ذَلِك عبد الْغَنِيّ بن سعيد، فَقَالَ: النَّاس كلهم يَقُولُونَ بِالْجمعِ إلاَّ الطَّحَاوِيّ.
قلت: إِنْكَار عبد الْغَنِيّ لَيْسَ بموجه، لِأَن الطَّحَاوِيّ مَا انْفَرد بِهِ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ عَن الْمَشَايِخ فَكيف يَقُول: النَّاس كلهم؟.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: قد رُوِيَ اللفظان يَعْنِي: الْإِفْرَاد وَالْجمع.
فِي ( الْمُوَطَّأ) ، والإفراد أحسن لِأَن أمره أخف فِي مُسَامَحَة الْجَار، بِخِلَاف الْجمع، لِأَنَّهُ أشق عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَاحِد.



[ قــ :2358 ... غــ :2463 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ يمْنَعُ جارٌ جارَهُ أنْ يَغرِزَ خشَبةً فِي جِدَارِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ مالِي أراكُمْ مُعْرِضِينَ وَالله لأرْمِيَنَّ بِها بَيْنَ أكْتَافِكُمْ.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إنَّهُمَا سَوَاء، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن يحيى بن يحيى وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن أبي الطَّاهِر وحرملة بن يحيى وَعَن عبد بن حميد.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْقَضَاء عَن مُسَدّد وَمُحَمّد بن أَحْمد بن أبي خلف.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَحْكَام عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن.
وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن هِشَام بن عمار وَمُحَمّد بن الصَّباح.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( عَن مَالك عَن ابْن شهَاب) كَذَا فِي ( الْمُوَطَّأ) .

     وَقَالَ  خَالِد بن مخلد: عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد، بدل: ابْن شهَاب.
.

     وَقَالَ  بشر بن عمر: عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة، بدل: الْأَعْرَج، وَوَافَقَهُ هِشَام بن يُوسُف عَن مَالك وَمعمر عَن الزُّهْرِيّ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي ( الغرائب) ،.

     وَقَالَ : الْمَحْفُوظ عَن مَالك الأول،.

     وَقَالَ  فِي ( الْعِلَل) : رَوَاهُ هِشَام الدستوَائي: عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد ب الْمسيب، بدل: الْأَعْرَج، وَكَذَا قَالَ عقيل: عَن الزُّهْرِيّ،.

     وَقَالَ  ابْن أبي حَفْصَة: عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن، بدل: الْأَعْرَج.
وَالْمَحْفُوظ: عَن الزُّهْرِيّ عَن الْأَعْرَج، وَبِذَلِك جزم ابْن عبد الْبر أَيْضا، ثمَّ أَشَارَ إِلَى أَنه يحْتَمل أَن يكون عِنْد الزُّهْرِيّ عَن الْجَمِيع.
قَوْله: ( لَا يمْنَع) بِالْجَزْمِ على أَن كلمة: لَا، ناهية، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر بِالرَّفْع، على أَن: لَا، نَافِيَة خبر بِمَعْنى النَّهْي، وَفِي رِوَايَة أَحْمد: لَا يمنعن، بِزِيَادَة نون التَّأْكِيد، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: ( لَا ضَرَر وَلَا ضرار، وللرجل أَن يضع خَشَبَة فِي حَائِط جَاره) .
قَوْله: ( أَن يغرز) ، أَي: بِأَن يغرز، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: بغرز خَشَبَة فِي جِدَار جَاره.
قَوْله: ( ثمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: عَن ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا اسْتَأْذن أحدكُم أَخَاهُ أَن يغرز خَشَبَة فِي جِدَاره فَلَا يمنعهُ، فنكسوا، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: مَا لي أَرَاكُم قد أعرضتم، لألقينَّها بَين أكتافكم.
وَفِي رِوَايَة أَحْمد: فَلَمَّا حَدثهمْ أَبُو هُرَيْرَة بذلك طأطأوا رؤوسهم.
قَوْله: ( عَنْهَا) ، أَي: عَن هَذِه الْمقَالة، أَو عَن هَذِه السنَّة.
قَوْله: ( لأرمينَّ بهَا) ، وَفِي رِوَايَة: لأرمينها.
وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: لألقينها، كَمَا مرت الْآن.
قَوْله: ( بَين أكتافكم) ، قَالَ ابْن عبد الْبر: روينَاهُ فِي ( الْمُوَطَّأ) بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة وبالنون، يَعْنِي: بِالْوَجْهَيْنِ: بأكتافكم، جمع كتف بِالتَّاءِ، وبأكنافكم، بالنُّون: جمع كنف، وَهُوَ الْجَانِب، قَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ إِن لم تقبلُوا هَذَا الحكم وتعملوا بِهِ راضين لأجعلنَّها أَي: الْخَشَبَة على رِقَابكُمْ كارهين، وَأَرَادَ بذلك الْمُبَالغَة، وَوَقع ذَلِك من أبي هُرَيْرَة حِين كَانَ يَلِي إمرة الْمَدِينَة لمروان، وَوَقع فِي رِوَايَة عِنْد ابْن عبد الْبر من وَجه آخر: لأرمين بهَا بَين أعينكُم وَإِن كرهتم.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اخْتلف الْعلمَاء فِي معنى هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ قوم: مَعْنَاهُ النّدب إِلَى بر الْجَار وَلَيْسَ على الْوُجُوب، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك، وروى ابْن عبد الحكم عَن مَالك، قَالَ: لَيْسَ يقْضِي على رجل أَن يغرز خَشَبَة فِي جِدَار جَاره، وَإِنَّمَا نرى أَن ذَلِك كَانَ من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على الوصاءة بالجار.
قَالَ: وَأكْثر عُلَمَاء السّلف أَن ذَلِك على النّدب، وَحَمَلُوهُ على معنى قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِذا اسْتَأْذَنت أحدَكم امرأتُه إِلَى الْمَسْجِد فَلَا يمْنَعهَا) ، وَقد مر فِي حَدِيث أبي دَاوُد: إِذا اسْتَأْذن أحدكُم أَخَاهُ، وَقيد بَعضهم الْوُجُوب بالاستئذان،.

     وَقَالَ  قوم: هُوَ وَاجِب إِذا لم يكن فِي ذَلِك مضرَّة على صَاحب الْجِدَار، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَدَاوُد وَأَبُو ثَوْر وَجَمَاعَة من أَصْحَاب الحَدِيث، وَهُوَ مَذْهَب عمر بن الْخطاب، وروى الشَّافِعِي عَن مَالك بِسَنَد صَحِيح: أَن الضَّحَّاك بن خَليفَة سَأَلَ مُحَمَّد بن مسلمة أَن يَسُوق خليجاً لَهُ فيمر بِهِ فِي أَرض مُحَمَّد بن مسلمة، فَامْتنعَ، فَكَلمهُ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي ذَلِك فَأبى، فَقَالَ: وَالله ليمرن بِهِ وَلَو على بَطْنك، فَحمل عمر الْأَمر على ظَاهره وعداه إِلَى كل مَا يحْتَاج الْجَار إِلَى الِانْتِفَاع بِهِ من دَار جَاره وأرضه.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَقد قوى الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم القَوْل بِالْوُجُوب بِأَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قضى بِهِ وَلم يُخَالِفهُ أحد من أهل عصره، وَكَانَ اتِّفَاقًا مِنْهُم على ذَلِك.
انْتهى.
قلت: هَذَا مُجَرّد دَعْوَى يحْتَاج إِلَى إِقَامَة دَلِيل، وَعَن الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد قَولَانِ: أشهرهما: اشْتِرَاط إِذن الْمَالِك، فَإِن امْتنع لم يجْبر، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا، وحملوا الْأَمر فِيمَا جَاءَ من الحَدِيث على النّدب وَالنَّهْي على التَّنْزِيه جمعا بَينه وَبَين الْأَحَادِيث الدَّالَّة على تَحْرِيم مَال الْمُسلم إلاَّ بِرِضَاهُ، وَهُوَ كَقَوْلِه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا زَالَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يوصيني بالجار حَتَّى ظَنَنْت أَنه سيورثه، وَكَقَوْلِه: مَا آمن من بَات شبعان وجاره طاو، وَقيل: إِن الْهَاء فِي: جِدَاره، يرجع إِلَى الغارز، لِأَن الْجِدَار إِذا كَانَ بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ لأَحَدهمَا فَأَرَادَ صَاحبه أَن يضع عَلَيْهِ الْجُذُوع وَيَبْنِي، رُبمَا مَنعه جَاره لِئَلَّا يشرف عَلَيْهِ، فَأخْبر الشَّارِع أَنه لَا يمنعهُ ذَلِك،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: عورض هَذَا بِأَنَّهُ إِحْدَاث قَول ثَالِث فِي معنى الْخَبَر، وَذَلِكَ مَمْنُوع عِنْد أَكثر الْأُصُولِيِّينَ، وَلَا يسلم لَهُ، وَالله أعلم.