فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: هل يقرع في القسمة والاستهام فيه

( بابٌُ هَلْ يُقْرَعُ فِي الْقِسْمَةِ والاسْتِهامِ فِيه)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ: هَل يقرع من الْقرعَة بِضَم الْقَاف، وَهِي مَعْرُوفَة.
قَوْله: ( والاستهام) أَي: أَخذ السهْم، أَي: النَّصِيب، وَلَيْسَ المُرَاد من الاستهام هُنَا الإقراع، وَإِن كَانَ مَعْنَاهُمَا فِي الأَصْل وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لَا معنى أَن يُقَال: هَل يقرع فِي الإقراع؟ قَوْله: ( فِيهِ) قَالَ الْكرْمَانِي: الضَّمِير عَائِد إِلَى الْقسم أَو المَال الَّذِي يدل عَلَيْهَا الْقِسْمَة،.

     وَقَالَ  بَعضهم: الضَّمِير يعود إِلَى الْقسم بِدلَالَة الْقِسْمَة.
قلت: كِلَاهُمَا بمعزل عَن نهج الصَّوَاب، وَلم يذكر هُنَا قسم وَلَا مَال حَتَّى يعود الضَّمِير إِلَيْهِ، بل الضَّمِير يعود إِلَى الْقِسْمَة والتذكير بِاعْتِبَار أَن الْقِسْمَة هُنَا بِمَعْنى الْقسم، وَفِي ( الْمغرب) : الْقِسْمَة اسْم من الاقتسام، وَجَوَاب: هَل، مَحْذُوف تَقْدِيره: نعم يقرع، قَالَ ابْن بطال: الْقرعَة سنة لكل من أَرَادَ الْعدْل فِي الْقِسْمَة بَين الشُّرَكَاء، وَالْفُقَهَاء متفقون على القَوْل بهَا، وَخَالفهُم بعض الْكُوفِيّين، وَقَالُوا: لَا معنى لَهَا لِأَنَّهَا تشبه الأزلام الَّتِي نهى الله عَنْهَا، وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن أبي حنيفَة أَنه جوزها.
.

     وَقَالَ : هِيَ فِي الْقيَاس لَا تسقيم، وَلَكنَّا نَتْرُك الْقيَاس فِي ذَلِك للآثار وَالسّنة، وَفِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي الْإِفْك: كَانَ إِذا خرج أَقرع بَين نِسَائِهِ، وَفِي حَدِيث أم الْعَلَاء: أَن عُثْمَان بن مَظْعُون طاولهم سَهْمه فِي السُّكْنَى، حِين أقرعت الْأَنْصَار سُكْنى الْمُهَاجِرين، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ( لَو يعلم النَّاس مَا فِي النداء والصف الأول لاستهموا عَلَيْهِ) .
.

     وَقَالَ  تَعَالَى: { فساهم فَكَانَ من المدحضين} ( الصافات: 141) .
.

     وَقَالَ  إِسْمَاعِيل القَاضِي: لَيْسَ فِي الْقرعَة إبِْطَال شَيْء من الْحق، وَإِذا وَجَبت الْقِسْمَة بَين الشُّرَكَاء فِي أَرض أَو دَار فَعَلَيْهِم أَن يعدلُوا ذَلِك بِالْقيمَةِ ويستهموا، وَيصير لكل وَاحِد مِنْهُم مَا وَقع لَهُ بِالْقُرْعَةِ مجتمعاً مِمَّا كَانَ لَهُ فِي الْملك مشَاعا، فَيصير فِي مَوضِع بِعَيْنِه، وَيكون ذَلِك بِالْعِوَضِ الَّذِي صَار لشَرِيكه.
وَإِنَّمَا منعت الْقرعَة أَن يخْتَار كل وَاحِد مِنْهُم موضعا بِعَيْنِه.



[ قــ :2388 ... غــ :2493 ]
- حدَّثنا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثني زَكَرِيَّاءُ قَالَ سَمِعْتُ عامِراً يقُولُ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بنَ بَشِيرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَثَلُ القائِمِ عَلَى حُدُودِ الله والْوَاقِعِ فِيها كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا علَى سَفينَةٍ فأصابَ بَعْضُهُمْ أعْلاهَا وبَعْضُهُمْ أسْفَلَها فكانَ الَّذِينَ فِي أسْفَلِها إذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا علَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقاً ولَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنا فإنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أرَادُوا هلَكُوا جَميعاً وإنْ أخَذُوا علَى أيْدِيهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعاً.

( الحَدِيث 3942 طرفه فِي: 6862) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( استهموا على سفينة) .
وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن الْأَحول الْكُوفِي، وزكرياء هُوَ ابْن زَائِدَة الْهَمدَانِي الْكُوفِي الْأَعْمَى، وعامر هُوَ الشّعبِيّ، والنعمان بن بشير، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: الْأنْصَارِيّ، مر فِي كتاب الْإِيمَان.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشَّهَادَات عَن عمر بن حَفْص بن غياث عَن أَبِيه عَن الْأَعْمَش عَن الشّعبِيّ بِهِ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْفِتَن عَن أَحْمد بن منيع عَن أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش بِهِ،.

     وَقَالَ : حسن صَحِيح.

قَوْله: ( مثل الْقَائِم على حُدُود الله تَعَالَى) أَي: الْمُسْتَقيم على مَا منع الله تَعَالَى من مجاوزتها، وَيُقَال: الْقَائِم بِأَمْر الله مَعْنَاهُ: الْآمِر بِالْمَعْرُوفِ والناهي عَن الْمُنكر.
.

     وَقَالَ  الزّجاج: أصل الْحَد فِي اللُّغَة الْمَنْع، وَمِنْه حد الدَّار، وَهُوَ مَا يمْنَع غَيرهَا من الدُّخُول فِيهَا، والحداد الْحَاجِب والبواب، وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: مثل الْقَائِم على حُدُود الله تَعَالَى والمدهن فِيهَا أَي: الغاش فِيهَا، ذكره ابْن فَارس، وَقيل: هُوَ كالمصانعة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: { ودوا لَو تدهن فيدهنون} ( الْقَلَم: 9) .
وَقيل: المدهن المتلين لمن لَا يَنْبَغِي التلين لَهُ.
قَوْله: ( وَالْوَاقِع فِيهَا) أَي: فِي الْحُدُود، أَي: التارك للمعروف المرتكب للْمُنكر.
قَوْله: ( استهموا) أَي: اتخذ كل وَاحِد مِنْهُم سَهْما، أَي: نَصِيبا من السَّفِينَة بِالْقُرْعَةِ.
قَوْله: ( على من فَوْقهم) ، أَي: على الَّذين فَوْقهم.
قَوْله: ( وَلم نؤذ) ، من الْأَذَى، وَهُوَ الضَّرَر.
قَوْله: ( من فَوْقنَا) أَي: الَّذين سكنوا فَوْقنَا.
قَوْله: ( فَإِن يتركوهم وَمَا أَرَادوا) .
أَي: فَإِن يتْرك الَّذين سكنوا فَوْقهم إِرَادَة الَّذين سكنوا تَحْتهم من الْخرق، وَالْوَاو، بِمَعْنى: مَعَ، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة.
قَوْله: ( هَلَكُوا) ، جَوَاب الشَّرْط وَهُوَ قَوْله: فَإِن ... قَوْله: ( هَلَكُوا جَمِيعًا) أَي: كلهم الَّذين سكنوا فَوق وَالَّذين سكنوا أَسْفَل، لِأَن بخرق السَّفِينَة تغرق السَّفِينَة وَيهْلك أَهلهَا.
قَوْله: ( وَإِن أخذُوا على أَيْديهم) أَي: وَإِن منعوهم من الْخرق نَجوا أَي: الآخذون ( ونجوا جَمِيعًا) يَعْنِي: جَمِيع من فِي السَّفِينَة، وَلَو لم يذكر قَوْله: ( ونجوا جَمِيعًا) ، لكَانَتْ النجَاة اخْتصّت بالآخذين فَقَط، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل كلهم نَجوا لعدم الْخرق، وَهَكَذَا إِذا أُقِيمَت الْحُدُود وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وَنهي عَن الْمُنكر تحصل النجَاة للْكُلّ وإلاَّ هلك العَاصِي بالمعصية وَغَيرهم بترك الْإِقَامَة.

وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَحْكَام فِيهِ: جَوَاز الضَّرْب بِالْمثلِ وَجَوَاز الْقرعَة، فَإِنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ضرب الْمثل هُنَا بالقوم الَّذين ركبُوا السَّفِينَة، وَلم يذم المستهمين فِي السفية وَلَا أبطل فعلهم، بل وضيه وَضرب بِهِ مثلا لمن نجى من الهلكة فِي دينه.
وَفِيه: تَعْذِيب الْعَامَّة بذنوب الْخَاصَّة وَاسْتِحْقَاق الْعقُوبَة بترك النَّهْي عَن الْمُنكر مَعَ الْقُدْرَة.
وَفِيه: أَنه يجب على الْجَار أَن يصبر على شَيْء من أَذَى جَاره خوف مَا هُوَ أَشد.
وَفِيه: إِثْبَات الْقرعَة فِي سُكْنى السفية إِذا تشاحوا، وَذَلِكَ فِيمَا إِذا نزلُوا مَعًا.
فَأَما من سبق مِنْهُم فَهُوَ أَحَق.
وَذكر ابْن بطال هُنَا مَسْأَلَة الدَّار الَّتِي لَهَا علوا وسفل لمناسبة بَينهَا وَبَين أهل السَّفِينَة، فَقَالَ: وَأما حكم الْعُلُوّ والسفل يكون بَين رجلَيْنِ، فيعتل السّفل وَيُرِيد صَاحبه هَدمه فَلَيْسَ لَهُ هَدمه إلاَّ من ضَرُورَة، وَلَيْسَ لرب الْعُلُوّ أَن يَبْنِي على سفله شَيْئا لم يكن قبل إلاَّ الشَّيْء الْخَفِيف الَّذِي لَا يضر صَاحب السّفل، فَلَو انْكَسَرت خَشَبَة من سفل الْعُلُوّ فَلَا يدْخل مَكَانهَا أَسْفَل مِنْهَا، قَالَ أَشهب: وَبابُُ الدَّار على صَاحب السّفل، فَلَو انْهَدم السّفل أجبر صَاحبه على بنائِهِ وَلَيْسَ على صَاحب الْعُلُوّ أَن يَبْنِي السّفل، فَإِن أَبى صَاحب السّفل أَن يَبْنِي قيل لَهُ: بِعْ مِمَّن يَبْنِي.
انْتهى.
قلت: الَّذِي ذكره أَصْحَابنَا أَنه لَيْسَ لصَاحب الْعُلُوّ إِذا انْهَدم السّفل أَن يَأْخُذ صَاحب السّفل بِالْبِنَاءِ، لَكِن يُقَال لصَاحب الْعُلُوّ: ابْن السّفل إِن شِئْت حَتَّى يبلغ مَوْضِعه علوك ثمَّ ابْن علوك، وَلَيْسَ لصَاحب السّفل أَن يسكن حَتَّى يُعْطي قيمَة بِنَاء السّفل، وَذُو الْعُلُوّ يسكن علوه، والسفل كَالرَّهْنِ فِي يَده وسقف السّفل بِكُل آلاته لصَاحب السّفل وَلِصَاحِب الْعُلُوّ سكناهُ، وَصَاحب الْعُلُوّ إِذا بنى السّفل فَلهُ أَن يرجع بِمَا أنْفق على صَاحب السّفل، وَإِن كَانَ صَاحب السّفل يَقُول: لَا حَاجَة لي إِلَى السّفل.