فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: الرهن مركوب ومحلوب

(بابٌُ الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ ومَحْلُوبٌ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ الرَّهْن مركوب، يَعْنِي: إِذا كَانَ ظهرا يركب، وَإِذا كَانَ من ذَوَات الدّرّ يحلب، وَهَذِه التَّرْجَمَة لفظ حَدِيث أخرجه الْحَاكِم من طَرِيق الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: الرَّهْن مركوب ومحلوب،.

     وَقَالَ : إِسْنَاده على شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وَأخرجه ابْن عدي فِي (الْكَامِل) وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنَيْهِمَا) من رِوَايَة أبراهيم بن محشر، قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الرَّهْن محلوب ومركوب) ، قَالَ ابْن عدي: لَا أعلم رَفعه عَن أبي مُعَاوِيَة غير إِبْرَاهِيم بن محشر هَذَا، وَله مُنكرَات من جِهَة الْإِسْنَاد غير مَحْفُوظَة.

وَقَالَ مُغِيرَةُ عنْ إبْرَاهِيمَ: تُرْكَبُ الضَّالَّةُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا وتُحْلَبُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا والرَّهْنُ مِثْلُهُ مُغيرَة بِضَم الْمِيم وَكسرهَا بلام التَّعْرِيف وبدونها: هُوَ ابْن مقسم، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْقَاف، مر فِي الصَّوْم، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، والضالة مَا ضل من الْبَهِيمَة ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى.
قَوْله: (بِقدر عَلفهَا) ، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني: بِقدر عَملهَا، وَالْأول أوجه، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور عَن هشيم عَن مُغيرَة بِهِ.
قَوْله: (وَالرَّهْن) ، أَي: الْمَرْهُون مثله فِي الحكم الْمَذْكُور، يَعْنِي: يركب ويحلب بِقدر الْعلف، وَهَذَا أَيْضا وَصله سعيد بن مَنْصُور بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَلَفظه: الدَّابَّة إِذا كَانَت مَرْهُونَة تركب بِقدر عَلفهَا، وَإِذا كَانَ لَهَا لبن يشرب مِنْهُ بِقدر عَلفهَا.



[ قــ :2403 ... غــ :2511 ]
- حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا زَكَرِيَّاءُ عنْ عامِرٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ كانَ يَقُولُ الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ ويُشْرَبُ لَبَنُ الدَّرِّ إذَا كانَ مَرْهُوناً.

(الحَدِيث 1152 طرفه فِي: 2152) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وزكرياء هُوَ ابْن أبي زَائِدَة، وعامر هُوَ الشّعبِيّ وَلَيْسَ لِلشَّعْبِيِّ عَن أبي هُرَيْرَة فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَآخر فِي تَفْسِير الزمر، وعلق لَهُ ثَالِثا فِي النِّكَاح.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن مقَاتل فِي الرَّهْن.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن هناد.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أبي كريب ويوسف ابْن عِيسَى.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.

ذكر طرق هَذَا الحَدِيث: وَلما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ قَالَ: وَقد روى غير وَاحِد هَذَا الحَدِيث عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة مَوْقُوفا، وَرَوَاهُ كَذَلِك: سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَشعْبَة ووكيع.
فَأَما حَدِيث ابْن عُيَيْنَة فَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَنهُ، وَمن طَرِيق الْبَيْهَقِيّ.
وَأما حَدِيث شُعْبَة فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَنهُ.
وَأما حَدِيث وَكِيع فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن عبد الله الْعَبْسِي عَنهُ، وَورد مَرْفُوعا من طرق أُخْرَى.
مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) ، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة يحيى بن حَمَّاد وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة شَيبَان بن فروخ، كِلَاهُمَا عَن أبي عوَانَة عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَرِجَاله كلهم ثِقَات.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة يزِيد بن عَطاء عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا وَيزِيد ضَعِيف.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن عدي أَيْضا من رِوَايَة الْحسن بن عُثْمَان بن زِيَاد التسترِي عَن خَليفَة بن خياط وَحَفْص بن عمر الرَّازِيّ عَن عبد الرَّحْمَن ابْن مهْدي عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا،.

     وَقَالَ : هَذَا عَن الثَّوْريّ عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة مُسْندًا مُنكر جدا.
وَالْبَلَاء من الْحسن بن عُثْمَان فَإِنَّهُ كَذَّاب.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن عدي أَيْضا من رِوَايَة أبي الْحَارِث الْوراق عَن شُعْبَة عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا،.

     وَقَالَ : أَبُو الْحَارِث هَذَا بَصرِي،.

     وَقَالَ  ابْن طَاهِر: روى عَن أبي عوَانَة وَعِيسَى بن يُونُس وَأبي مُعَاوِيَة وَشعْبَة وَالثَّوْري مَرْفُوعا وموقوفاً، وَالأَصَح الْمَوْقُوف.
.

     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ: رَفعه أَبُو الْحَارِث نصر بن حَمَّاد الْوراق عَن شُعْبَة عَن الْأَعْمَش، وروى عَن وهب بن جرير أَيْضا مَرْفُوعا، وَغَيرهمَا يرويهِ عَن شُعْبَة مَوْقُوفا، وَهُوَ الصَّوَاب.
قَالَ: وَرَفعه أَيْضا لوين عَن عِيسَى بن يُونُس عَن الْأَعْمَش، وَالْمَحْفُوظ عَن الْأَعْمَش وَقفه على أبي هُرَيْرَة، وَهُوَ أصح، وَرَوَاهُ خَلاد الصفار عَن مَنْصُور عَن أبي صَالح مَرْفُوعا، وَغَيره يقفه، وَهُوَ أصح، وَعند ابْن حزم من حَدِيث زَكَرِيَّاء عَن الشّعبِيّ عَنهُ مَرْفُوعا: إِذا كَانَت الدَّابَّة مَرْهُونَة فعلى الْمُرْتَهن عَلفهَا وَلبن الدّرّ يشرب، وعَلى الَّذِي يشرب نَفَقَته ويركب.
.

     وَقَالَ : هَذِه الزِّيَادَة إِنَّمَا هِيَ من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن الصَّائِغ مولى بني هَاشم عَن هشيم، فالتخليط من قبله لَا من قبل هشيم، قلت: إِسْمَاعِيل هَذَا احْتج بِهِ مُسلم، وَتَابعه زِيَاد بن أَيُّوب عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ، وَيَعْقُوب الدوري عِنْد الْبَيْهَقِيّ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الرَّهْن يركب) ، أَي: الْمَرْهُون يركب، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالْمرَاد الظّهْر، وبيَّنه فِي الطَّرِيق الثَّانِي حَيْثُ قَالَ: الظّهْر يركب.
قَوْله: (بِنَفَقَتِهِ) ، أَي: بِمُقَابلَة نَفَقَته، يَعْنِي يركب وَينْفق عَلَيْهِ.
قَوْله: (وَيشْرب) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا.
قَوْله: (لبن الدّرّ) ، بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء، وَهُوَ مصدر بِمَعْنى: الدارة، أَي: ذَات الضَّرع،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَقَوله: لبن الدّرّ، من إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه، وَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: { حب الحصيد} (ق: 9) .
قلت: إِضَافَة الشيى إِلَى نَفسه لَا تصح إلاَّ إِذا وَقع فِي الظَّاهِر فيؤول، وَقد ذكرنَا أَن المُرَاد بالدر: الدارة، فَلَا يكون إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه، لِأَن اللَّبن غير الدارة، وَكَذَلِكَ يؤول فِي { حب الحصيد} (ق: 9) [/ ح.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهَذَا الحَدِيث إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَجَمَاعَة الظَّاهِرِيَّة على: أَن الرَّاهِن يركب الْمَرْهُون بِحَق نَفَقَته عَلَيْهِ.
وَيشْرب لبنه، كَذَلِك، وَرُوِيَ ذَلِك أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،.

     وَقَالَ  ابْن حزم فِي (الْمحلى) : وَمَنَافع الرَّهْن كلهَا لَا تحاشى مِنْهَا شَيْئا لصَاحب الرَّهْن لَهُ كَمَا كَانَت قبل الرَّهْن، وَلَا فرق حاشى ركُوب الدَّابَّة الْمَرْهُونَة وحاشى لبن الْحَيَوَان الْمَرْهُون.
فَإِنَّهُ لصَاحب الرَّهْن إلاَّ أَن يضيعهما فَلَا ينْفق عَلَيْهِمَا وَينْفق على كل ذَلِك الْمُرْتَهن، فَيكون لَهُ حِينَئِذٍ الرّكُوب وَاللَّبن بِمَا أنْفق لَا يُحَاسب بِهِ من دينه، كثر ذَلِك أَو قل، وَذَلِكَ لِأَن ملك الرَّاهِن باقٍ فِي الرَّهْن لم يخرج عَن ملكه، لَكِن الرّكُوب والاحتلاب خَاصَّة لمن أنْفق على المركوب والمحلوب، لحَدِيث أبي هُرَيْرَة انْتهى.
.

     وَقَالَ  الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك وَأحمد فِي رِوَايَة: لَيْسَ للرَّاهِن ذَلِك لِأَنَّهُ يُنَافِي حكم الرَّهْن، وَهُوَ الْحَبْس الدَّائِم، فَلَا يملكهُ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَيْسَ لَهُ أَن ينْتَفع بالمرهون استخداماً وركوباً ولبناً وسكنى وَغير ذَلِك، وَلَيْسَ لَهُ أَن يَبِيعهُ من غير الْمُرْتَهن بِغَيْر إِذْنه، وَلَو بَاعه توقف على إِجَازَته، فَإِن أجَازه وَيكون الثّمن رهنا، سَوَاء شَرط الْمُرْتَهن عِنْد الْإِجَازَة أَن يكون مَرْهُونا عِنْده أَو لَا.
وَعَن أبي يُوسُف: لَا يكون رهنا إلاَّ بِشَرْط، وَكَذَا: لَيْسَ للْمُرْتَهن أَن ينْتَفع بالمرهون حَتَّى لَو كَانَ عبدا لَا يستخدمه أَو دَابَّة لَا يركبهَا أَو ثوبا لَا يلْبسهُ أَو دَارا لَا يسكنهَا أَو مُصحفا لَيْسَ لَهُ أَن يقْرَأ فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ أَن يَبِيعهُ إلاَّ بِإِذن الرَّاهِن.
.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ فِي الِاحْتِجَاج لِأَصْحَابِنَا: أجمع الْعلمَاء على أَن نَفَقَة الرَّهْن على الرَّاهِن لَا على الْمُرْتَهن، وَأَنه لَيْسَ على الْمُرْتَهن اسْتِعْمَال الرَّهْن.
قَالَ: والْحَدِيث يَعْنِي: الحَدِيث الَّذِي احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَمن مَعَه مُجمل فِيهِ لم يبين فِيهِ الَّذِي يركب وَيشْرب، فَمن أَيْن جَازَ للمخالف أَن يَجعله للرَّاهِن دون الْمُرْتَهن؟ وَلَا يجوز حمله على أَحدهمَا إلاَّ بِدَلِيل، قَالَ: وَقد روى هشيم عَن زَكَرِيَّاء عَن الشّعبِيّ عَن أبي هُرَيْرَة، ذكر أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا كَانَت الدَّابَّة مَرْهُونَة فعلى الْمُرْتَهن عَلفهَا وَلبن الدّرّ يشرب وعَلى الَّذِي يشرب نَفَقَتهَا ويركب، فَدلَّ هَذَا الحَدِيث أَن الْمَعْنى بالركوب وَشرب اللَّبن فِي الحَدِيث الأول هُوَ الْمُرْتَهن لَا الرَّاهِن، فَجعل ذَلِك لَهُ وَجعلت النَّفَقَة عَلَيْهِ بَدَلا مِمَّا يتعوض مِنْهُ، وَكَانَ هَذَا عندنَا وَالله أعلم فِي وَقت مَا كَانَ الرِّبَا مُبَاحا، وَلم ينْه حِينَئِذٍ عَن الْقَرْض الَّذِي يجر مَنْفَعَة، وَلَا عَن أَخذ الشَّيْء لشَيْء وَإِن كَانَا غير متساويين، ثمَّ حرم الرِّبَا بعد ذَلِك وَحرم كل قرض جر مَنْفَعَة.

وَأجْمع أهل الْعلم أَن نَفَقَة الرَّهْن على الرَّاهِن لَا على الْمُرْتَهن، وَأَنه لَيْسَ للْمُرْتَهن اسْتِعْمَال الرَّهْن، قَالَ: وَيُقَال لمن صرف ذَلِك إِلَى الرَّاهِن فَجعل لَهُ اسْتِعْمَال الرَّهْن: أَيجوزُ للرَّاهِن أَن يرْهن رجلا دَابَّة هُوَ راكبها؟ فَلَا يجد بدّاً من أَن يَقُول: لَا، فَيُقَال لَهُ: فَإِذا كَانَ الرَّهْن لَا يجوز إلاَّ أَن يكون مخلى بَينه وَبَين الْمُرْتَهن فيقبضه وَيصير فِي يَده دون يَد الرَّاهِن، كَمَا وصف الله تَعَالَى بقوله: { فرهان مَقْبُوضَة} (الْبَقَرَة: 382) .
فَيَقُول: نعم، فَيُقَال لَهُ: فَلَمَّا لم يجز أَن يسْتَقْبل الرَّهْن على مَا الرَّاهِن رَاكِبه لم يجز ثُبُوته فِي يَده بعد ذَلِك رهنا بِحقِّهِ إلاَّ كَذَلِك أَيْضا، لِأَن دوَام الْقَبْض لَا بُد مِنْهُ فِي الرَّهْن إِذا كَانَ الرَّهْن إِنَّمَا هُوَ إحباس الْمُرْتَهن للشَّيْء الْمَرْهُون بِالدّينِ، وَفِي ذَلِك أَيْضا مَا يمْنَع اسْتِخْدَام الْأمة الرَّهْن لِأَنَّهَا ترجع بذلك إِلَى حَال لَا يجوز عَلَيْهَا اسْتِقْبَال الرَّهْن.

وَحجَّة أُخْرَى: أَنهم قد أَجمعُوا أَن الْأمة الرَّهْن لَيْسَ للرَّاهِن أَن يَطَأهَا، وللمرتهن مَنعه من ذَلِك، فَلَمَّا كَانَ الْمُرْتَهن يمْنَع الرَّاهِن من وَطئهَا، كَانَ لَهُ أَيْضا أَن يمنعهُ بِحَق الرَّهْن من استخدامها.
انْتهى.
قلت: الطَّحَاوِيّ أطلق قَوْله: قد أَجمعُوا ... إِلَى آخِره، وَقد قَالَ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي: للرَّاهِن أَن يطَأ الآيسة وَالصَّغِيرَة، لِأَنَّهُ لَا ضَرَر فِيهِ، فَإِن عِلّة الْمَنْع الْخَوْف من أَن تَلد مِنْهُ، فَتخرج بذلك من الرَّهْن، وَهَذَا مَعْدُوم فِي حَقّهمَا، وَالْجُمْهُور على خلاف ذَلِك، ثمَّ إِن خَالف فوطىء فَلَا حد عَلَيْهِ لِأَنَّهَا ملكه، وَلَا مهر عَلَيْهِ، فَإِذا ولدت صَارَت أم ولد لَهُ وَخرجت من الرَّهْن وَعَلِيهِ قيمتهَا حِين أحبلها، وَلَا فرق بَين الْمُوسر والمعسر، إِلَّا أَن الْمُوسر تُؤْخَذ قيمتهَا مِنْهُ، والمعسر يكون فِي ذمَّته قيمتهَا، وَهَذَا قَول أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيّ أَيْضا.
.

     وَقَالَ  ابْن حزم: قَالَ الشَّافِعِي: إِن رهن أمة فَوَطِئَهَا فَحملت، فَإِن كَانَ مُوسِرًا خرجت من الرَّهْن ويكلف رهنا آخر مَكَانهَا، وَإِن كَانَ مُعسرا، فَمرَّة قَالَ: يخرج من الرَّهْن وَلَا يُكَلف رهنا مَكَانهَا وَلَا تكلّف هِيَ شَيْئا، وَمرَّة قَالَ: تبَاع إِذا وضعت وَلَا يُبَاع الْوَلَد ويكلف رهن آخر.
.

     وَقَالَ  أَبُو ثَوْر: هِيَ خَارِجَة من الرَّهْن وَلَا يُكَلف لَا هُوَ وَلَا هِيَ شَيْئا، سَوَاء كَانَ مُوسِرًا أَو مُعسرا.
وَعَن قَتَادَة: أَنَّهَا تبَاع ويكلف سَيِّدهَا أَن يفتكَّ وَلَده مِنْهَا.
وَعَن ابْن سِيرِين: أَنَّهَا استسعيت، وَكَذَلِكَ العَبْد الْمَرْهُون إِذا أعتق.
.

     وَقَالَ  مَالك: إِن كَانَ مُوسِرًا كلف أَن يَأْتِي بِقِيمَتِهَا فَتكون الْقيمَة رهنا وَتخرج هِيَ من الرَّهْن، وَإِن كَانَ مُعسرا، فَإِن كَانَت تخرج إِلَيْهِ وتأتيه فَهِيَ خَارِجَة من الرَّهْن وَلَا يتبع بغرامة وَلَا يُكَلف هُوَ رهنا مَكَانهَا، لَكِن يتبع بِالدّينِ الَّذِي عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ تسور عَلَيْهَا بِيعَتْ هِيَ وَأعْطِي هُوَ وَلَده مِنْهَا.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: إِن حملت وَأقر بحملها، فَإِن كَانَ مُوسِرًا خرجت من الرَّهْن وكلف قَضَاء الدّين إِن كَانَ حَالا، أَو كلف رهنا بِقِيمَتِهَا إِن كَانَ إِلَى أجل، وَإِن كَانَ مُعسرا كلفت أَن تستسعى فِي الدّين الْحَال بَالغا مَا بلغ، وَلَا ترجع بِهِ على سَيِّدهَا، وَلَا يُكَلف وَلَدهَا سِعَايَة، وَإِن كَانَ الدّين إِلَى أجل كلفت أَن تستسعى فِي قيمتهَا فَقَط، فَجعلت رهنا مَكَانهَا، فَإِذا حل أجل الدّين كلفت من قبل أَن تستسعي فِي بَاقِي الدّين إِن كَانَت أَكثر من قيمتهَا، وَإِن كَانَ السَّيِّد استلحق وَلَدهَا بعد وَضعهَا لَهُ وَهُوَ مُعسر، قسم الدّين على قيمتهَا يَوْم ارتهنها، وعَلى قيمَة وَلَدهَا يَوْم اسْتَلْحقهُ، فَمَا أصَاب للْأُم سعت فِيهِ بَالغا مَا بلغ للْمُرْتَهن، وَلم ترجع بِهِ على سَيِّدهَا، وَمَا أصَاب الْوَلَد سعي فِي الْأَقَل من الدّين أَو من قِيمَته وَلَا رُجُوع بِهِ على أَبِيه، وَيَأْخُذ الْمُرْتَهن كل ذَلِك.
.

     وَقَالَ  صَاحب (التَّوْضِيح) : هَذَا الحَدِيث حجَّة على أبي حنيفَة قلت: سُبْحَانَ الله! هَذَا تحكم، وَكَيف يكون حجَّة عَلَيْهِ وَقد ذكرنَا وَجهه؟ على أَن الشّعبِيّ، هُوَ الرَّاوِي عَن أبي هُرَيْرَة فِي هَذَا الحَدِيث، قد روى عَنهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا، فَهَذَا قَالَ: حَدثنَا أَبُو نعيم، قَالَ: حَدثنَا الْحسن بن صَالح عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن الشّعبِيّ، قَالَ: لَا ينْتَفع فِي الرَّهْن بِشَيْء، فَهَذَا الشّعبِيّ يَقُول هَذَا، وَقد روى عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الحَدِيث الْمَذْكُور أفيجوز عَلَيْهِ أَن يكون أَبُو هُرَيْرَة يحدثه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بذلك ثمَّ يَقُول هُوَ بِخِلَافِهِ؟ وَلَيْسَ ذَلِك إلاَّ وَقد ثَبت نسخ هَذَا الحَدِيث عِنْده.
وَالله أعلم.





[ قــ :404 ... غــ :51 ]
-
حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقاتِلٍ قَالَ أخْبَرَنا عبدُ الله بنُ الْمُبَارَكِ قَالَ أخْبرنا زَكَرِيَّاءُ عَن الشَّعْبِيِّ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرَّهنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كانَ مَرْهُونَاً ولَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كانَ مَرْهُوناً وعلَى الَّذِي يَرْكَبُ ويَشْرَبُ النَّفَقَةُ.

( انْظُر الحَدِيث 115) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه مُحَمَّد بن مقَاتل الرَّازِيّ عَن عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي عَن زَكَرِيَّاء بن أبي زَائِدَة عَن عَامر الشّعبِيّ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.

قَوْله: ( الظّهْر يركب) ، ويروى: ( الرَّهْن يركب) ، وَمرَاده بِالرَّهْنِ أَيْضا: الظّهْر، بِقَرِينَة: يركب.