فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب شهادة القاذف والسارق والزاني

( بابُُ شَهَادَةِ القَاذِفِ والسَّاِرِقِ والزَّاني)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم شَهَادَة الْقَاذِف، وَهُوَ الَّذِي يقذف أحدا بِالزِّنَا، وأصل الْقَذْف الرَّمْي، يُقَال: قذف يقذف، من بابُُ: ضرب يضْرب، قذفا، فَهُوَ قَاذف، وَلم يُصَرح بِالْجَوَابِ لمَكَان الْخلاف فِيهِ.

وقَوْلِ الله تعَالى: { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أبَداً وأُولائِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} ( النُّور: 4 و 5) .


وَقَول الله، مجرور عطفا على قَوْله: شَهَادَة الْقَاذِف، وأوله قَوْله تَعَالَى: { وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة، وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إلاَّ الَّذين تَابُوا من بعد ذَلِك وَأَصْلحُوا، فَإِن الله غَفُور رَحِيم} ( النُّور: 4 و 5) .
ظَاهر الْآيَة لَا يدل على الشَّيْء الَّذِي بِهِ رموا الْمُحْصنَات، وَذكر الرَّامِي لَا يدل على الزِّنَا، إِذْ قد يرميها بِسَرِقَة وَشرب خمر، فَلَا بُد من قرينَة دَالَّة على التَّعْيِين، وَقد اتّفق الْعلمَاء على أَن المُرَاد الرَّمْي بِالزِّنَا، لقرائن دلّت عَلَيْهِ، وَهِي تقدم ذكر الزِّنَا وَذكر الْمُحْصنَات الَّتِي هِيَ العفائف، يدل على أَن المُرَاد الرَّمْي بضد العفاف.
وَقَوله: { ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء} ( النُّور: 4 و 5) .
وَمَعْلُوم أَن الشُّهُود غير مَشْرُوط، إلاَّ فِي الزِّنَا، وَالْإِجْمَاع على أَنه لَا يجب الْجلد بِالرَّمْي بِغَيْر الزِّنَا.
قَوْله: { فَاجْلِدُوهُمْ} ( النُّور: 4 و 5) .
الْخطاب للأئمة.
قَوْله: { إلاَّ الَّذين تَابُوا} ( النُّور: 4 و 5) .
هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، لِأَن التائبين غير داخلين فِي صدر الْكَلَام، وَهُوَ قَوْله: { وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} ( النُّور: 4 و 5) .
إِذْ التَّوْبَة تجب مَا قبلهَا من الذُّنُوب، فَلَا يكون التائب فَاسِقًا، وَأما شَهَادَته فَلَا تقبل أبدا عِنْد الْحَنَفِيَّة، لِأَن رد الشَّهَادَة من تَتِمَّة الْحَد، لِأَنَّهُ يصلح جَزَاء فَيكون مشاركاً للْأولِ فِي كَونه حدا.
وَقَوله: { وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} ( النُّور: 4 و 5) .
لَا يصلح جَزَاء، لِأَنَّهُ لَيْسَ بخطاب للأئمة، بل هُوَ إِخْبَار عَن صفة قَائِمَة بالقاذفين، فَلَا يصلح أَن يكون من تَمام الْحَد لِأَنَّهُ كَلَام مُبْتَدأ على سَبِيل الِاسْتِئْنَاف مُنْقَطع عَمَّا قبله لعدم صِحَة عطفه على مَا سبق.
لِأَن قَوْله: { وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} ( النُّور: 4 و 5) .
جملَة إخبارية لَيْسَ بخطاب للأئمة، وَمَا قبله جملَة إنشائية خطاب للأئمة، وَكَذَا قَوْله: { وَلَا تقبلُوا} ( النُّور: 4 و 5) .
جملَة إنشائية، خطاب للأئمة، فيصلح أَن يكون عطفا على قَوْله: { فاجلدوا} ( النُّور: 4 و 5) .
وَالشَّافِعِيّ رَحمَه الله قطع قَوْله: { وَلَا تقبلُوا} ( النُّور: 4 و 5) .
عَن قَوْله: { فاجلدوا} ( النُّور: 4 و 5) .
مَعَ دَلِيل الِاتِّصَال، وَهُوَ كَونه جملَة إنشائية صَالِحَة للجزاء، مفوضة إِلَى الْأَئِمَّة مثل الألى وواصل قَوْله ( وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ) مَعَ قيانم دَلِيل الإنفصال وَهُوَ كَونه جملَة إسمية غير صَالِحَة للجزاء ثمَّ إِنَّه إِذا تَابَ قبلت شَهَادَته عِنْد الشَّافِعِي، وَعند أبي حنيفَة رد شَهَادَته يتَعَلَّق بِاسْتِيفَاء الْحَد، فَإِذا شهد قبل الْحَد أَو قبل تَمام اسْتِيفَائه قبلت شَهَادَته، فَإِذا استوفى لم تقبل شَهَادَته أبدا، وَإِن تَابَ وَكَانَ من الْأَبْرَار الأتقياء، وَعند الشَّافِعِي رد شَهَادَته مُتَعَلق بِنَفس الْقَذْف، فَإِذا تَابَ عَن الْقَذْف بِأَن يرجع عَنهُ عَاد مَقْبُول الشَّهَادَة، وَكِلَاهُمَا متمسك بِالْآيَةِ على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ،.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: التَّوْبَة من الْقَذْف إكذابه نَفسه،.

     وَقَالَ  الْإِصْطَخْرِي: مَعْنَاهُ أَن يَقُول: كذبت فَلَا أَعُود إِلَى مثله.
.

     وَقَالَ  أَبُو إِسْحَاق: لَا يَقُول كذبت، لِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ صَادِقا، فَيكون قَوْله: كذبت كذبا، وَالْكذب مَعْصِيّة، والإتيان بالمعصية لَا يكون تَوْبَة عَن مَعْصِيّة أُخْرَى، بل يَقُول: الْقَذْف بَاطِل نَدِمت على مَا قلت وَرجعت عَنهُ وَلَا أَعُود إِلَيْهِ.
قَوْله: { وَأَصْلحُوا} ( النُّور: 4 و 5) .
قَالَ أَصْحَابنَا: إِنَّه بعد التَّوْبَة لَا بُد من مُضِيّ مُدَّة عَلَيْهِ فِي حسن الْحَال حَتَّى قدرُوا ذَلِك بِسنة، لِأَن الْفُصُول الْأَرْبَعَة يتَغَيَّر فِيهَا الْأَحْوَال والطبائع، كَمَا فِي الْعنين، قَوْله: { فَإِن الله غَفُور رَحِيم} ( النُّور: 4 و 5) .
يقبل التَّوْبَة من كرمه.

وجَلَدَ عُمَرُ أبَا بَكْرَةَ وشِبْلَ بنَ مَعْبَدٍ ونافِعَاً بِقَذْفِ المُغِيرَةِ ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ.

     وَقَالَ  مَنْ تابَ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ

أَبُو بكرَة اسْمه نفيع مصغر نفع بِالْفَاءِ: ابْن الْحَارِث بن كلدة، بِالْكَاف وَاللَّام وَالدَّال الْمُهْملَة المفتوحات: ابْن عَمْرو بن علاج ابْن أبي سَلمَة واسْمه: عبد الْعُزَّى، وَيُقَال: ابْن عبد الْعزي بن نميرة بن عَوْف بن قسي، وَهُوَ ثَقِيف الثَّقَفِيّ، صَاحب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: كَانَ أَبوهُ عبدا لِلْحَارِثِ بن كلدة، فاستلحقه الْحَار وَهُوَ أَخُو زِيَاد لأمه، وَكَانَت أمهما سميَّة أمة لِلْحَارِثِ بن كلدة، وَإِنَّمَا قيل لَهُ: أَبُو بكرَة، لِأَنَّهُ تدلى إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ببكرة من حصن الطَّائِف، فكنى أَبَا بكرَة فَأعْتقهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْمئِذٍ رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مائَة حَدِيث وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، اتفقَا على ثَمَانِيَة، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِخَمْسَة، وَمُسلم بِحَدِيث، وَكَانَ مِمَّن اعتزل يَوْم الْجمل وَلم يُقَاتل مَعَ أحد من الْفَرِيقَيْنِ، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ سنة إِحْدَى وَخمسين، وَصلى عَلَيْهِ أَبُو بَرزَة الْأَسْلَمِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وشبل، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن معبد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبيد بن الْحَارِث بن عَمْرو بن عَليّ بن أسلم بن أحمس بن الْغَوْث بن أَنْمَار البَجلِيّ، قَالَه الطَّبَرِيّ، وَهُوَ أَخُو أبي بكرَة لأمه، وهم أَرْبَعَة أخوة لأم وَاحِدَة اسْمهَا سميَّة.
وَقد ذَكرنَاهَا الْآن.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: لَيست لَهُ صُحْبَة، وَكَذَا قَالَ يحيى بن معِين، روى لَهُ التِّرْمِذِيّ، وَنَافِع بن الْحَارِث أَخُو أبي بكرَة لأمه نزلا من الطَّائِف فَأَسْلمَا وَله رِوَايَة، قَالَه الذَّهَبِيّ.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: الثَّلَاثَة يَعْنِي: أَبَا بكرَة وشبل بن معبد ونافعاً أخوة صحابيون شهدُوا مَعَ أَخ آخر لأبي بكرَة اسْمه: زِيَاد، على الْمُغيرَة فجلد الثَّلَاثَة، وَزِيَاد لَيست لَهُ صُحْبَة وَلَا رِوَايَة، وَكَانَ من دهاة الْعَرَب وفصحائهم، مَاتَ سنة ثَلَاث وَخمسين، وقصتهم رويت من طرق كَثِيرَة.
ومحصلها: أَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة كَانَ أَمِير الْبَصْرَة لعمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فاتهمه أَبُو بكرَة وشبل وَنَافِع وَزِيَاد الَّذِي يُقَال لَهُ زِيَاد بن أبي سُفْيَان، وهم أخوة لأم تسمى: سميَّة، وَقد ذَكرنَاهَا، فَاجْتمعُوا جَمِيعًا فَرَأَوْا الْمُغيرَة متبطن الْمَرْأَة، وَكَانَ يُقَال لَهَا: الرقطاء أم جميل بنت عَمْرو بن الأفقم الْهِلَالِيَّة، وَزوجهَا الْحجَّاج بن عتِيك بن الْحَارِث بن عَوْف الْجُشَمِي، فرحلوا إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فشكوه، فَعَزله عمر وَولى أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وأحضر الْمُغيرَة فَشهد عَلَيْهِ الثَّلَاثَة بِالزِّنَا، وَأما زِيَاد فَلم يثبت الشَّهَادَة،.

     وَقَالَ : رَأَيْت منْظرًا قبيحاً وَمَا أَدْرِي أخالطها أم لَا؟ فَأمر عمر بجلد الثَّلَاثَة حد الْقَذْف، وروى الْحَاكِم فِي ( الْمُسْتَدْرك) من طَرِيق عبد الْعَزِيز بن أبي بكرَة الْقِصَّة مُطَوَّلَة، وفيهَا: فَقَالَ زِيَاد: رأيتهما فِي لِحَاف وَسمعت نفسا عَالِيا، وَمَا أَدْرِي مَا وَرَاء ذَلِك، وَالتَّعْلِيق الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ وَصله الشَّافِعِي فِي ( الْأُم) عَن سُفْيَان، قَالَ: سَمِعت الزُّهْرِيّ يَقُول: زعم أهل الْعرَاق أَن شَهَادَة الْمَحْدُود لَا تجوز، فَأشْهد لأخبرني فلَان أَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ لأبي بكرَة، تب وَأَقْبل شهادتك.
قَالَ سُفْيَان: سمى الزُّهْرِيّ الَّذِي أخبرهُ فحفظته ثمَّ نَسِيته، فَقَالَ لي عمر بن قيس: هُوَ ابْن الْمسيب، وروى سُلَيْمَان بن كثير عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد أَن عمر قَالَ لأبي بكرَة وشبل وَنَافِع: من تَابَ مِنْكُم قبلت شَهَادَته، قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: ابْن الْمسيب لم يَأْخُذهُ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إلاَّ بلاغاً لِأَنَّهُ لم يَصح لَهُ عَنهُ سَماع، وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ،.

     وَقَالَ : حَدثنَا قيس بن سَالم الْأَفْطَس عَن قيس بن عَاصِم، قَالَ: كَانَ أَبُو بكرَة إِذا أَتَاهُ رجل ليشهده قَالَ: أشهِد غَيْرِي، فَإِن الْمُسلمين قد فسقوني.
وَالدَّلِيل على أَن الحَدِيث لم يكن عِنْد سعيد بِالْقَوِيّ، أَنه كَانَ يذهب إِلَى خِلَافه، روى عَنهُ قَتَادَة وَعَن الْحسن أَنَّهُمَا قَالَا: الْقَاذِف إِذا تَابَ تَوْبَة فِيمَا بَينه وَبَين ربه، عز وَجل، لَا تقبل لَهُ شَهَادَة، ويستحيل أَن يسمع من عمر شَيْئا بِحَضْرَة الصَّحَابَة وَلَا ينكرونه عَلَيْهِ وَلَا يخالفونه ثمَّ يتْركهُ إِلَى خِلَافه، وَذكر الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي كِتَابه ( الْمدْخل) : إِذا لم يثبت هَذَا، كَيفَ رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه؟ وَأجِيب: بِأَن الْخَبَر مُخَالف للشَّهَادَة، وَلِهَذَا لم يتَوَقَّف أحد من أهل الْمصر عَن الرِّوَايَة عَنهُ وَلَا طعن أحد على رِوَايَته من هَذِه الْجِهَة مَعَ إِجْمَاعهم أَن لَا شَهَادَة لمحدود فِي قذف غير ثَابت، فَصَارَ قبُول خَبره جَارِيا مجْرى الْإِجْمَاع، وَفِيه مَا فِيهِ.

وأجازَهُ عبْدُ الله بنُ عُتْبَةَ وعُمرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ وسعيدُ بنُ جُبَيْر وطاوُوسٌ ومُجَاهِدٌ والشَّعْبِيُّ وعِكْرِمَةُ والزُّهْرِيُّ ومُحَارِبُ بنُ دِثَارٍ وشُرَيْحٌ ومُعَاوِيَةُ بنُ قُرَّةَ
أَي: وَأَجَازَ الحكم الْمَذْكُورَة، وَهُوَ قبُول شَهَادَة الْمَحْدُود فِي الْقَذْف عبد الله بن عتبَة بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: ابْن مَسْعُود الْهُذلِيّ، وَوَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق عمرَان بن عُمَيْر.
قَالَ: كَانَ عبد الله بن عتبَة يُجِيز شَهَادَة الْقَاذِف إِذا تَابَ، وَعمر بن عبد الْعَزِيز الْخَلِيفَة الْمَشْهُور وَوَصله الطَّبَرِيّ والخلال من طَرِيق ابْن جريج عَن عمرَان بن مُوسَى: سَمِعت عمر بن عبد الْعَزِيز أجَاز شَهَادَة الْقَاذِف وَمَعَهُ رجل، وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج فَزَاد مَعَ عمر بن عبد الْعَزِيز أبات بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم.
قَوْله: ( وَسَعِيد بن جُبَير) التَّابِعِيّ الْمَشْهُور، وَوَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيقه بِلَفْظ: تقبل شَهَادَة الْقَاذِف إِذا تَابَ.
قَوْله: ( وطاووس) هُوَ ابْن كيسَان الْيَمَانِيّ، وَمُجاهد بن جبر الْمَكِّيّ، وصل مَا روى عَنْهُمَا سعيد بن مَنْصُور وَالشَّافِعِيّ والطبري من طَرِيق ابْن أبي نجيح، قَالَ: الْقَاذِف إِذا تَابَ تقبل شَهَادَته، قيل لَهُ: من يَقُوله؟ قَالَ: عَطاء وطاووس وَمُجاهد.
قَوْله: ( وَالشعْبِيّ) هُوَ عَامر بن شرَاحِيل، وصل مَا روى عَنهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي خَالِد عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول: إِذا تَابَ قبلت شَهَادَته.
قَوْله: ( وَعِكْرِمَة) ، هُوَ مولى ابْن عَبَّاس، وصل مَا روى عَنهُ الْبَغَوِيّ فِي ( الجعديات) عَن شُعْبَة عَن يُونُس هُوَ ابْن عبيد عَن عِكْرِمَة قَالَ: إِذا تَابَ الْقَاذِف قبلت شَهَادَته.
قَوْله: ( وَالزهْرِيّ) ، هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وصل مَا روى عَنهُ ابْن جرير عَنهُ أَنه قَالَ: إِذا حد الْقَاذِف فَإِنَّهُ يَنْبَغِي للْإِمَام أَن يستتيبه، فَإِن تَابَ قبلت شَهَادَته، وإلاَّ لم تقبل.
قَوْله: ( ومحارب) ، بِضَم الْمِيم وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء: ابْن دثار، بِكَسْر الدَّال الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الثَّاء الْمُثَلَّثَة: الْكُوفِي قاضيها، و: شُرَيْح، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة القَاضِي، وَمُعَاوِيَة بن قُرَّة بن إِيَاس الْبَصْرِيّ أدْرك جمَاعَة من الصَّحَابَة.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة من أهل الْكُوفَة.
قلت: لَا نسلم قَوْله: إِن مُعَاوِيَة من أهل الْكُوفَة، بل هُوَ من أهل الْبَصْرَة، وَلم يُرْوَ عَن أحد مِنْهُم التَّصْرِيح بِقبُول شَهَادَة الْقَاذِف، وَهَؤُلَاء أحد عشر نفسا ذكرهم البُخَارِيّ تَقْوِيَة لمَذْهَب من يرى بِقبُول شَهَادَة الْقَاذِف، ورد الْمَذْهَب من لَا يرى بذلك، وَمن لَا يرى بذلك أَيْضا رووا عَن ابْن عَبَّاس ذكره ابْن حزم عَنهُ بِسَنَد جيد من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي عَنهُ أَنه قَالَ: شَهَادَة الْقَاذِف لَا تجوز وَإِن تَابَ، وَهَذَا وَاحِد يُسَاوِي هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين، بل يفضل عَلَيْهِم، وَكفى بِهِ حجَّة.
.

     وَقَالَ  ابْن حزم أَيْضا: وَصَحَّ ذَلِك أَيْضا عَن الشّعبِيّ فِي أحد قوليه، وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمُجاهد فِي أحد قوليه، وَعِكْرِمَة فِي أحد قوليه، وَشُرَيْح وسُفْيَان بن سعيد، وروى ابْن أبي شيبَة فِي ( مُصَنفه) : حَدثنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة عَن الْحسن وَسَعِيد بن الْمسيب قَالَا: لَا شَهَادَة لَهُ وتوبته بَينه وَبَين الله تَعَالَى، وَهَذَا سَنَد صَحِيح على شَرط مُسلم، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْمثنى بن الصَّباح وآدَم بن فائد عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( لَا تجوز شَهَادَة خائن وَلَا مَحْدُود فِي الْإِسْلَام) .
فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: آدم والمثنى لَا يحْتَج بهما.
قلت: فِي ( مُصَنف) ابْن أبي شيبَة حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان عَن حجاج عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( الْمُسلمُونَ عدُول بَعضهم على بعض إلاَّ محدوداً فِي قذف) .
فقد تَابع الْحجَّاج وَهُوَ ابْن أَرْطَأَة آدم والمثنى، وَالْحجاج أخرج لَهُ مُسلم مقرون بآخر، وَرَوَاهُ أَبُو سعيد النقاش فِي ( كتاب الشُّهُود) تأليفه من حَدِيث حجاج وَمُحَمّد بن عبيد الله الْعَزْرَمِي وَسليمَان بن مُوسَى عَن عَمْرو بن شُعَيْب، وَرَوَاهُ أَحْمد بن مُوسَى بن مرْدَوَيْه فِي مجالسه من حَدِيث الْمثنى عَن عَمْرو عَن أَبِيه عَن عبد الله بن عَمْرو.

وقالَ أبُو الزِّنادِ الأمْرُ عِنْدَنا بالمَدِينَةِ إذَا رجِعَ القاذِفُ عنْ قَوْلِهِ فاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ قُبِلَتْ شِهادَتُهُ
أَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: عبد الله بن ذكْوَان، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق حُصَيْن بن عبد الرَّحْمَن قَالَ: رَأَيْت رجلا جلد حدا فِي قذف بِالزِّنَا، فَلَمَّا فرغ من ضربه أحدث تَوْبَة، فَلَقِيت أَبَا الزِّنَاد، فَقَالَ لي: الْأَمر عندنَا ... فَذكره.
وقالَ الشُّعْبِيُّ وقَتادَةُ إذَا أكْذَبَ نفْسَهُ جُلِدَ وقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ
الشّعبِيّ عَامر بن شرَاحِيل، وصل مَا روى عَنهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق دَاوُد بن أبي هِنْد عَن الشّعبِيّ قَالَ: إِذا أكذب الْقَاذِف نَفسه قبلت شَهَادَته.
قلت: قد صَحَّ عَن الشّعبِيّ فِي أحد قوليه: إِنَّه لَا تقبل، وَقد ذَكرْنَاهُ الْآن عَن ابْن حزم.

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ إذَا جُلِدَ العَبْدُ ثُمَّ أُعْتِقَ جازَتْ شَهَادَتُهُ وإنِ اسْتُقْضِيَ الْمَحُدُودُ فَقضاياهُ جائِزَةٌ
أَي: قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: رَوَاهُ عَنهُ فِي ( جَامعه) عبد الله بن الْوَلِيد الْعَدنِي، وروى عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن وَاصل عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: لَا تقبل شَهَادَة الْقَاذِف تَوْبَته فِيمَا بَينه وَبَين الله،.

     وَقَالَ  الثَّوْريّ: وَنحن على ذَلِك.

وَقَالَ بعْضُ النَّاسِ لاَ تَجُوزُ شهادَةُ القَاذِفِ وإنْ تابَ
أَرَادَ بِبَعْض النَّاس أَبَا حنيفَة، فِيمَا ذهب إِلَيْهِ، وَلَكِن هَذَا لَا يمشي وَلَا يبرد بِهِ قلب المتعصب، فَإِن أَبَا حنيفَة مَسْبُوق بِهَذَا القَوْل، وَلَيْسَ هُوَ بمخترع لَهُ، وَقد ذكرنَا عَن قريب عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، نَحوه وَعَن جمَاعَة من التَّابِعين، وَقد ذَكَرْنَاهُمْ،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَهَذَا مَنْقُول عَن الحنيفة، يَعْنِي: عدم قبُول شَهَادَة الْمَحْدُود فِي الْقَذْف،.

     وَقَالَ : وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَحَادِيث قَالَ الْحفاظ: لَا يَصح شَيْء مِنْهَا، وأشهرها حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده مَرْفُوعا: لَا تجوز شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة وَلَا مَحْدُود فِي الْإِسْلَام.
أخرجه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَائِشَة نَحوه،.

     وَقَالَ : لَا يَصح،.

     وَقَالَ  أَبُو زرْعَة: مُنكر، قلت: قد مر عَن قريب حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا فِي ( مُصَنفه) وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَلما أخرجه أَبُو دَاوُد سكت عَنهُ، وَهَذَا دَلِيل الصِّحَّة عِنْده.

ثُمَّ قالَ لَا يَجُوزُ نِكاحٌ بِغَيْرِ شاهِدَيْنِ فإنْ تَزوَّجَ بِشَهَادَةِ محْدُودَيْنِ جازَ وإنْ تَزوَّجَ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ
أَي: ثمَّ قَالَ بعض النَّاس الْمَذْكُور، وَأَرَادَ بِهِ إِثْبَات التَّنَاقُض فِيمَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة، وَلَكِن لَا يمشي أصلا لِأَن حَالَة التَّحَمُّل لَا تشْتَرط فِيهَا الْعَدَالَة، كَمَا ذكر عَن بعض الصَّحَابَة أَنه تحمل فِي حَال كفره، ثمَّ أدّى بعد إِسْلَامه، وَذَلِكَ لِأَن الْغَرَض شهرة النِّكَاح، وَذَلِكَ حَاصِل بِالْعَدْلِ، وَغَيره عِنْد التَّحَمُّل، وَأما عِنْد الْأَدَاء فَلَا يقبل إلاَّ الْعدْل.
قَوْله: ( فَإِن تزوج) إِلَى آخِره أَيْضا إِثْبَات التَّنَاقُض فِيهِ، وَلَيْسَ فِيهِ تنَاقض، لِأَن عدم جَوَاز النِّكَاح بِغَيْر شَاهِدين بِالنَّصِّ، وَأما التَّزَوُّج بِشَهَادَة محدودين فقد ذكرنَا أَن المُرَاد من ذَلِك شهرة النِّكَاح، وَذَلِكَ حَاصِل بِشَهَادَة المحدودين، وَأما عدم جَوَاز التَّزَوُّج بِشَهَادَة عَبْدَيْنِ فَلِأَن الأَصْل فِيهِ أَن كل من ملك الْقبُول بِنَفسِهِ انْعَقَد العقد بِحُضُورِهِ، وَمن لَا فَلَا، فَإِذا كَانَ كَذَلِك لَا ينْعَقد بِحُضُور عَبْدَيْنِ أَو صبيين أَو مجنونين، فَمن أَيْن التَّنَاقُض يرد؟ وَمن أَيْن الِاعْتِرَاض الصَّادِر من غير تَأمل فِي دقائق الْأَشْيَاء؟
وأجازَ شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ والعبْدِ والأمَةِ لِرُؤْيَةِ هِلالِ رَمَضانَ
أَي: أجَاز بعض النَّاس الْمشَار إِلَيْهِ.
.
إِلَى آخِره، وَهَذَا الِاعْتِرَاض أَيْضا لَيْسَ بِشَيْء أصلا، وَذَلِكَ لِأَن أَبَا حنيفَة أجْرى ذَلِك مجْرى الْخَبَر، وَالْخَبَر يُخَالف الشَّهَادَة فِي الْمَعْنى، لِأَن الْمخبر لَهُ دخل فِي حكم مَا شهد بِهِ،.

     وَقَالَ  بِهَذَا أَيْضا غير أبي حنيفَة،.

     وَقَالَ  صَاحب ( التَّوْضِيح) : هَذَا غلط لِأَن الشَّاهِد على هِلَال رَمَضَان لَا يَزُول عَنهُ اسْم شَاهد، وَلَا يُسمى مخبرا، فَحكمه حكم الشَّاهِد فِي الْمَعْنى لاستحقاقه ذَلِك بالإسم، وَأَيْضًا: فَإِن الشَّهَادَة على هِلَال رَمَضَان حكم من الْأَحْكَام، وَلَا يجوز أَن يقبل فِي الْأَحْكَام إلاَّ من تجوز شَهَادَته فِي كل شَيْء، وَمن جَازَت شَهَادَته فِي هِلَال رَمَضَان وَلم تجز فِي الْقَذْف فَلَيْسَ بِعدْل، وَلَا هُوَ مِمَّن يرضى، لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا تعبدنا بِمن نرضى من الشُّهَدَاء.
انْتهى.
قلت: هَذَا تَطْوِيل الْكَلَام بِلَا فَائِدَة، وَكَلَام مَبْنِيّ على غير معرفَة بدقائق الْأَشْيَاء، وَقَوله: الشَّاهِد على هِلَال رَمَضَان لَا يَزُول عَنهُ اسْم الشَّاهِد، وَلَا يُسمى مخبرا، تحكم زَائِد، وَعدم زَوَال اسْم الشَّاهِد عَن الشَّاهِد على هِلَال رَمَضَان لَا عَقْلِي وَلَا نقلي، فَمن ادّعى ذَلِك فَعَلَيهِ الْبَيَان وَنفي الْإِخْبَار عَن شَاهد هِلَال رَمَضَان غير صَحِيح، على مَا لَا يخفى.
وَقَوله: وَحكمه حكم الشَّاهِد فِي الْمَعْنى يُنَاقض كَلَامه، الأول، لِأَنَّهُ قَالَ: لَا يُسمى مخبرا ثمَّ كَيفَ يَقُول: فَحكمه أَي: فَحكم هَذَا الْمخبر حكم الشَّاهِد فِي الْمَعْنى، وَنحن أَيْضا نقُول بذلك، وَلكنه لَيْسَ بِشَهَادَة حَقِيقَة إِذْ لَو كَانَت شَهَادَة حَقِيقَة لما جَازَ الحكم بِشَهَادَة وَاحِد فِي هِلَال رَمَضَان، مَعَ أَنه يَكْتَفِي بِشَهَادَة وَاحِد عِنْد اعتلال المطلع بِشَيْء، وَهُوَ قَول عِنْد الشَّافِعِي أَيْضا وَرِوَايَة أَحْمد، وَالله تَعَالَى تعبدنا بِمن نرضى من الشُّهَدَاء عِنْد الشَّهَادَات الْحَقِيقِيَّة، والإخبار بِهِلَال رَمَضَان لَيْسَ من ذَلِك، وَالله أعلم.

وكَيْفَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ وقَدْ نَفاى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزَّانِي سَنةً
هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ، وَهُوَ من تَمام التَّرْجَمَة، قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا عطف على أول التَّرْجَمَة، وَكَثِيرًا مَا يفعل البُخَارِيّ مثله، يردف تَرْجَمَة على تَرْجَمَة، وَإِن بعد مَا بَينهمَا.
قَوْله: ( وَكَيف تعرف تَوْبَته؟) أَي: كَيفَ تعرف تَوْبَة الْقَاذِف؟ وَأَشَارَ بذلك إِلَى الِاخْتِلَاف، فَقَالَ: أَكثر السّلف: لَا بُد أَن يكذب نَفسه، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، رُوِيَ ذَلِك عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَاخْتَارَهُ إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق.
.

     وَقَالَ : تَوْبَته أَن يزْدَاد خيرا وَلم يشْتَرط إكذاب نَفسه فِي تَوْبَته، لجَوَاز أَن يكون صَادِقا فِي قذفه، وَإِلَى هَذَا مَال البُخَارِيّ، كَمَا نذكرهُ الْآن، وَهُوَ استدلاله على ذَلِك بقوله: وَقد نفى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزَّانِي سنة، أَي: قد نَفَاهُ عَن الْبَلَد، وَهُوَ التَّغْرِيب، وَلم ينْقل عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه شَرط على الزَّانِي تَكْذِيبه لنَفسِهِ واعترافه بِأَنَّهُ عصى الله، عز وَجل، فِي مُدَّة تغريبه، وَسَيَأْتِي نفي الزَّانِي مَوْصُولا فِي آخر الْبابُُ.

ونهاى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ كَلامِ كعبِ بنِ مالِكٍ وصاحِبَيْهِ حتَّى مضاى خَمسُونَ لَيْلَةً
هَذَا أَيْضا من جملَة مَا يسْتَدلّ بِهِ البُخَارِيّ على مَا ذهب إِلَيْهِ مثل مَا ذهب مَالك، بَيَانه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما نهى عَن كَلَام كَعْب بن مَالك وصاحبيه هما مرَارَة بن الرّبيع وهلال بن أُميَّة { الَّذين خلفوا حَتَّى إِذا ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ} ( التَّوْبَة: 811) .
لم ينْقل عَنهُ أَنه شَرط عَلَيْهِم ذَلِك فِي مُدَّة الْخمسين، وقصة كَعْب ستأتي بِطُولِهَا فِي آخر تَفْسِير بَرَاءَة، وغزوة تَبُوك.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه تعلق قصتهم بِالْبابُُِ؟ قلت: تخلفوا عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة تَبُوك، والتخلف عَنهُ بِدُونِ إِذْنه مَعْصِيّة، كالسرقة وَنَحْوهَا.



[ قــ :2533 ... غــ :2648 ]
- حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني ابنُ وَهْبٍ عنْ يُونُسَ.

     وَقَالَ  اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني يُونُسُ عنِ ابنِ شِهابِ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ امْرَأةً سَرَقَتْ فِي غَزْوَةِ الفَتْحِ فَأتى بهَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ أمَرَ فَقُطِعَتْ يَدُها قالتْ عائِشَةُ فَحَسُنَتْ تَوْبَتُها وتَزَوَّجَتْ وكانَتْ تَأْتِي بَعْدَ ذالِكَ فأرْفعُ حاجَتَها إِلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: ( فحسنت توبتها) ، لِأَن فِيهِ دلَالَة على أَن السَّارِق إِذا تَابَ وَحسنت حَاله تقبل شَهَادَته، فَالْبُخَارِي ألحق الْقَاذِف بالسارق لعدم الْفَارِق عِنْده، وَنقل الطَّحَاوِيّ الْإِجْمَاع على قبُول شَهَادَة السَّارِق إِذا تَابَ، وَذهب الْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن بن صَالح إِلَى أَن الْمَحْدُود فِي الْخمر إِذا تَابَ لَا تقبل شَهَادَته، وَقد خالفا فِي ذَلِك جَمِيع فُقَهَاء الْأَمْصَار.

وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحُدُود عَن إِسْمَاعِيل أَيْضا بِإِسْنَادِهِ، وَفِي غَزْوَة الْفَتْح عَن مُحَمَّد بن مقَاتل.
وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن أبي الطَّاهِر وحرملة.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن أبي صَالح، وَهُوَ عبد الله بن صَالح كَاتب اللَّيْث عَن اللَّيْث.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقطع عَن الْحَارِث بن مِسْكين عَن ابْن وهب.
وَأما التَّعْلِيق عَن اللَّيْث فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد عَن مُحَمَّد بن يحيى بن فَارس عَن أبي صَالح لَكِن بِغَيْر هَذَا اللَّفْظ، وَظهر أَن هَذَا اللَّفْظ لِابْنِ وهب.

قَوْله: ( أَن امْرَأَة) ، اسْمهَا: فَاطِمَة بنت الْأسود.
قَوْله: ( ثمَّ أَمر بهَا فَقطعت) ، فِيهِ حذف يَعْنِي: بَعْدَمَا ثَبت عِنْد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بِشُرُوطِهِ أَمر بِقطع يَدهَا.

وَفِيه: أَن الْمَرْأَة كَالرّجلِ فِي حكم السّرقَة.
وَفِيه: أَن تَوْبَة السَّارِق إِذا حسنت لَا ترد شَهَادَته بعد ذَلِك.



[ قــ :534 ... غــ :649 ]
- حدَّثنا يَحْياى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عبدِ الله عنْ زَيْدِ بنِ خالِدٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ أمَرَ فِيمَنْ زَنَى ولَمْ يُحْصِنْ بِجِلْدِ مائَةٍ وتَغْرِيبِ عامٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يشْتَرط على الَّذِي زنى وأقيم عَلَيْهِ الْحَد ذكر التَّوْبَة، وَإِنَّمَا قَالَ فِي مَاعِز: حصلت التَّوْبَة بِالْحَدِّ، وَكَذَا فِي هَذَا الزَّانِي.

وَرِجَال هَذَا الحَدِيث قد ذكرُوا غير مرّة بِهَذَا النسق، ومفرقين أَيْضا، وَعبيد الله بن عبد الله ابْن عتبَة بن مَسْعُود، وَزيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح وَعَن أبي الطَّاهِر وحرملة.

قَوْله: ( بجلد مائَة) ، الْبَاء فِيهِ مُتَعَلق بقوله أَمر.
وَقَوله: ( فِيمَن زنى) فِي مَحل النصب على المفعولية بقوله: ( يجلد مائَة) ، لِأَن الْمصدر يعْمل عمل فعله.
قَوْله: ( وَلم يحصن) ، بِفَتْح الصَّاد وَكسرهَا وَالْوَاو فِيهِ للْحَال.
والْحَدِيث احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد على أَن الزَّانِي إِذا لم يكن مُحصنا يجلد مائَة جلدَة ويغرب سنة.
.

     وَقَالَ  أَصْحَابنَا: لَا يجمع بَين جلد وَنفي، لِأَن النَّص جعل الْجلد مائَة وَالزِّيَادَة على مُطلق النَّص نسخ، والْحَدِيث مَنْسُوخ، وَلِأَن فِي التَّغْرِيب تعريضاً للْفَسَاد، وَلِهَذَا قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: كفى بِالنَّفْيِ فتْنَة، وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نفى شخصا فَارْتَد، وَلحق بدار الْحَرْب، فَحلف أَن لَا يَنْفِي بعده أبدا، وَبِهَذَا عرف أَن نفيهم كَانَ بطرِيق السياسة وَالتَّعْزِير لَا بطرِيق الْحَد.
لِأَن مثل عمر لَا يحلف أَن لَا يُقيم الْحُدُود، وَالله أعلم.