فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ما يستحب لمن توفي فجاءة أن يتصدقوا عنه، وقضاء النذور عن الميت

( بابُُ مَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُتَوَفَّى فَجْأةً أنْ يَتَصَدَّقُوا عنْهُ وقَضاءِ النُّذُورِ عنِ المَيِّتِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَا يسْتَحبّ لمن يَمُوت فجاءة، أَي: بَغْتَة، وَهُوَ بِضَم الْفَاء وَتَخْفِيف الْجِيم ممدودة، وَيجوز فتح الْفَاء وَسُكُون الْجِيم بِغَيْر مد.
قَوْله: ( أَن يتصدقوا) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة وَالضَّمِير فِي: أَن يتصدقوا، لأهل الْمَيِّت، أَو لأَصْحَابه بِقَرِينَة الْحَال.
قَوْله: ( وَقَضَاء النذور) ، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: ( لمن يتوفى) ، وَالتَّقْدِير: وَفِي بَيَان اسْتِحْبابُُ قَضَاء النذور عَن الْمَيِّت الَّذِي مَاتَ وَعَلِيهِ نذر.



[ قــ :2635 ... غــ :2760 ]
- حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالكٌ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ رَجُلاً قَالَ للنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسَها وأُرَاها لوْ تَكلَّمَتْ تَصَدَّقتْ أفَأتَصَدَّقُ عنْهَا قَالَ: نَعَمْ تَصَدَّقْ عَنْها.

( انْظُر الحَدِيث 8831) .

مطابقته للجزء الأول للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة.

والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الْوَصَايَا عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ.

قَوْله: ( أفتلتت) ، بِلَفْظ الْمَجْهُول من الافتلات، أَي: مَاتَت بَغْتَة، وكل شَيْء عوجل مبادرة فَهُوَ فلتة.
قَوْله: ( نَفسهَا) ، بِالنّصب على أَنه مفعول ثَان، وبالرفع على أَنه مفعول أقيم مقَام الْفَاعِل، وَالنَّفس مُؤَنّثَة، وَهِي هُنَا: الرّوح، وَقد تكون النَّفس بِمَعْنى الذَّات.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: كَأَن البُخَارِيّ رمز إِلَى أَن الْمُبْهم فِي حَدِيث عَائِشَة هُوَ سعد بن عبَادَة الَّذِي تقدم فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي قصَّة سعد بن عبَادَة بِلَفْظ آخر، وَلَا تنَافِي بَين قَوْله: إِن أُمِّي مَاتَت وَعَلَيْهَا نذر، وَبَين قَوْله: إِن أُمِّي توفيت وَأَنا غَائِب عَنْهَا، فَهَل ينفعها شَيْء إِن تَصَدَّقت بِهِ عَنْهَا؟ لاحْتِمَال أَن يكون سَأَلَ عَن النّذر وَعَن الصَّدَقَة عَنْهَا.
انْتهى.
قلت: الْمُنَافَاة بَين حَدِيث عَائِشَة وَبَين حَدِيث ابْن عَبَّاس ظَاهِرَة بِلَا شكّ إِن قرىء قَوْله: أَرَاهَا، بِفَتْح الْهمزَة، وَإِن قرىء بضَمهَا فَكَذَلِك، لِأَن الرجل يخبر عَن حَال أمه مُشَاهدَة.
فَإِن قلت: يحْتَمل أَن الرجل سَأَلَ عَن النّذر وَعَن الصَّدَقَة جَمِيعًا.
قلت: هَذَا هُنَا احْتِمَال، وَمثل هَذَا الِاحْتِمَال لَا يقطع بِهِ فالمنافاة حَاصِلَة.
فَإِن قلت: الحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بابُُ موت الْفُجَاءَة، وَلَفظه: ( إِن أُمِّي افتلتت نَفسهَا، وأظنها لَو تَكَلَّمت تَصَدَّقت.
.
)
الحَدِيث، فَهَذَا يدل قطعا على أَن الْهمزَة فِي أَرَاهَا مَضْمُومَة وَأَنه بِمَعْنى: وأظنها، لَو تَكَلَّمت فَهَذَا بِوَجْه دَعْوَى عدم الْمُنَافَاة.
قلت: فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِلَفْظ: ( وَأَنَّهَا لَو تَكَلَّمت تَصَدَّقت) ، فَهَذَا صَرِيح فِي أَن هَذَا الرجل فِي حَدِيث عَائِشَة غير سعد بن عبَادَة، وَأَنه سَأَلَ عَن الصَّدَقَة عَن أمه، وَأَن سَعْدا سَأَلَ عَن الصَّدَقَة، فِي رِوَايَة ابْن عَبَّاس، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ: أَنه سَأَلَ عَن النّذر، وَعدم الْمُنَافَاة يَتَأَتَّى فِي رِوَايَة سعد فَقَط، وَأما الْمُنَافَاة بَين حَدِيث عَائِشَة هُنَا وَبَين حَدِيث ابْن عَبَّاس فَظَاهره بِرِوَايَة النَّسَائِيّ.
وَالله أعلم.
قَوْله: ( أفأتصدق عَنْهَا؟) ، قَالَ: وَفِي الرِّوَايَة الَّتِي مرت فِي الْجَنَائِز: ( فَهَل لَهَا أجر إِن تَصَدَّقت عَنْهَا؟ قَالَ: نعم) .
قَوْله: ( نعم) ، يدل على أَن الصَّدَقَة تَنْفَع الْمَيِّت، وَكَذَلِكَ قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إلاَّ من ثَلَاث: صَدَقَة جَارِيَة) الحَدِيث يدل على ذَلِك.
وَحَدِيث سعد بن عبَادَة، لما أمره، وَمِنْهَا:، بالتصدق عَن أمه، قَالَ: ( أَي الصَّدَقَة أفضل؟ قَالَ: سقِِي المَاء) ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيث عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دلّت على أَن تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى: { وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إلاَّ مَا سعى} ( النَّجْم: 93) .
على الْخُصُوص.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: أما الْعتْق عَن الْمَيِّت فَلَا أعلم فِيهِ خَبرا ثَبت عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد ثَبت عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا أعتقت عبدا عَن أَخِيهَا عبد الرَّحْمَن، وَكَانَ مَاتَ وَلم يوص، وَأَجَازَ ذَلِك الشَّافِعِي، قَالَ بعض أَصْحَابه: لما جَازَ أَن يتَطَوَّع بِالنَّفَقَةِ، وَهِي مَال، فَكَذَا الْعتْق.
وَفرق غَيره بَينهمَا، فَقَالَ: إِنَّمَا أجزناها للْأَخْبَار الثَّابِتَة، وَالْعِتْق لَا خير فِيهِ، بل فِي قَوْله: ( الْوَلَاء لمن أعتق) ، دلَالَة على مَنعه، لِأَن الْحَيّ هُوَ الْمُعْتق بِغَيْر أَمر الْمَيِّت، فَلهُ الْوَلَاء إِذا ثَبت لَهُ الْوَلَاء، فَلَيْسَ للْمَيت مِنْهُ شَيْء، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَنَّهُ قد رُوِيَ فِي حَدِيث سعد بن عبَادَة أَنه قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِن أُمِّي هَلَكت فَهَل ينفعها أَن أعتق عَنْهَا؟ قَالَ: نعم) .
فَدلَّ على أَن الْعتْق ينفع الْمَيِّت، وَيشْهد لذَلِك فعل عَائِشَة الَّذِي سبق.





[ قــ :636 ... غــ :761 ]
- حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخْبرنا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عبْدِ الله عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ سَعْدَ بنَ عُبَادَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ اسْتَفْتَى رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إنَّ أمِّي ماتَتْ وعلَيْهَا نَذْرٌ فقَالَ اقْضهِ عَنْها.

مطابقته للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبيد الله بن عبد الله الْعمريّ.
قَوْله: ( عَن ابْن عَبَّاس ان سعد بن عبَادَة) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة مَالك، وَتَابعه اللَّيْث وَبكر بن وَائِل وَغَيرهمَا عَن الزُّهْرِيّ،.

     وَقَالَ  سُلَيْمَان بن كثير عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الله عَن ابْن عَبَّاس عَن سعد بن عبَادَة: أَنه استفتى، فَجعله من مُسْند سعد، أخرجه النَّسَائِيّ قيل: هَذَا أرجح، لِأَن ابْن عَبَّاس لم يدْرك الْقِصَّة.
كَمَا ذكرا عَن قريب، وَيكون ابْن عَبَّاس قد أَخذه عَنهُ.
قلت: يحْتَمل أَن يكون أَخذه عَن غَيره، كَمَا هُوَ عَادَته فِي أَحَادِيث كَثِيرَة.
قَوْله: ( وَعَلَيْهَا نذر) ، قد اخْتلفت الْآثَار فِي النّذر الَّذِي على أم سعد، فَقيل: كَانَ الْعتْق، وَقد مر الْآن، وَقيل: كَانَ الصّيام.
فروى فِي ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس أَن رجلا، قَالَ: يَا رَسُول الله: ( إِن أُمِّي مَاتَت وَعَلَيْهَا صَوْم) ، وَقيل: كَانَ النّذر بِالصَّدَقَةِ.
وَالله أعلم.