فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول الله تعالى: {ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب} الراجع المنيب "

( بابُُ قَوْلِ الله تَعَالَى {ووهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أوَّابٌ} ( ص: 03) .
)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَا ذكر فِي قَول الله تَعَالَى {وَوَهَبْنَا ... } إِلَى آخِره وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: بابُُ، بل الْمَذْكُور: قَول الله تَعَالَى وَوَهَبْنَا ... إِلَى آخِره.
قَوْله: ( نعم العَبْد) ، الْمَخْصُوص بالمدح مَحْذُوف.
قَوْله: ( إِنَّه أواب) تَعْلِيل لكَونه ممدوحاً لكَونه أوَّاباً أَي رجَّاعاً إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ أَو مسبحاً مؤوباً للتسبيح ومرجعاً لَهُ، لِأَن كل مؤوب أواب.

الرَّاجِعُ المُنِيبُ
هَذَا تَفْسِير الأواب، وَفَسرهُ بِأَنَّهُ الرَّاجِع عَن الذُّنُوب، والمنيب من الْإِنَابَة وَهِي الرُّجُوع إِلَى الله بِكُل طَاعَة.

وقَوْلِهِ {هَبْ لِي مُلْكَاً لَا يَنْبَغِي لأِحَدٍ مِنْ بَعْدِي} ( ص: 53) .

وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على: قَول الله، فِي قَوْله: بابُُ قَول الله.
قَوْله: ( هَب لي) أَي: أَعْطِنِي ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي، يَعْنِي: من دوني،.

     وَقَالَ  ابْن كيسَان: لَا يكون لأحد من بعدِي،.

     وَقَالَ  يزِيد بن وهب: هَب لي ملكا لَا أسلبه فِي بَاقِي عمري كَمَا سلبته فِي ماضي عمري،.

     وَقَالَ  مقَاتل بن حَيَّان: كَانَ سُلَيْمَان ملكا وَلكنه أَرَادَ بقوله: لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي تسخير الرِّيَاح وَالطير، وَقيل: إِنَّمَا سَأَلَ ذَلِك ليَكُون لَهُ علما على الْمَغْفِرَة وَقبُول التَّوْبَة حَيْثُ أجَاب الله دعاءه، ورد عَلَيْهِ ملكه وَزَاد فِيهِ.

وقَوْلِهِ {واتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ علَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ( الْبَقَرَة: 201) .

وَقَوله، بِالْجَرِّ أَيْضا عطف على قَوْله: هَب لي ملكا.
قَوْله: ( وَاتبعُوا) أَي: الْيَهُود، مَا تتلو الشَّيَاطِين أَي: مَا ترويه وَتُخْبِرهُ وتحدثه الشَّيَاطِين.
قَوْله: ( على ملك سُلَيْمَان) وعداه: بعلى، لِأَنَّهُ ضمن معنى: تتلوا تكذب،.

     وَقَالَ  ابْن جرير: على، هُنَا بِمَعْنى: فِي، أَي: فِي ملك سُلَيْمَان، وَنَقله عَن ابْن جريج وَابْن إِسْحَاق.
قلت: التَّضْمِين أولى وَأحسن،.

     وَقَالَ  السّديّ مَا ملخصه: إِن الشَّيَاطِين كَانُوا يصعدون إِلَى السَّمَاء فيسمعون من الْمَلَائِكَة مَا يكون فِي الأَرْض فَيَأْتُونَ الكهنة فيخبرون بِهِ فتحدثه الكهنة للنَّاس فيجدونه كَمَا قَالُوا، وادخلت الكهنة فِيهِ غَيره فزادوا مَعَ كل كلمة سبعين، كلمة، فاكتتب النَّاس ذَلِك، وفشى فِي بني إِسْرَائِيل أَن الْجِنّ تعلم الْغَيْب، فَبعث سُلَيْمَان فِي النَّاس فَجمع تِلْكَ الْكتب وَجعلهَا فِي صندوق ثمَّ دَفنهَا تَحت كرسيه، وَلم يكن أحد من الشَّيَاطِين يَسْتَطِيع أَن يدنو من الْكُرْسِيّ إلاَّ احْتَرَقَ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَان تمثل شَيْطَان فِي صُورَة آدَمِيّ وأتى نَفرا من بني إِسْرَائِيل فدلهم على تِلْكَ الْكتب فأخرجوها.
فَقَالَ لَهُم الشَّيْطَان: إِن سُلَيْمَان كَانَ يضْبط الْإِنْس وَالْجِنّ وَالطير بِهَذَا السحر، ثمَّ طَار وَذهب وفشى فِي النَّاس أَن سُلَيْمَان كَانَ ساحراً فاتخذت بَنو إِسْرَائِيل تِلْكَ الْكتب، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خاصموه بهَا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {وَاتبعُوا مَا تتلو الشَّيَاطِين على ملك سُلَيْمَان وَمَا كفر سُلَيْمَان} ( الْبَقَرَة: 201) .
الْآيَة.

ولِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ ورَوَاحُهَا شَهْرٌ} ( سبأ: 21) .

أَي: وسخرنا لِسُلَيْمَان الرّيح،.

     وَقَالَ  فِي آيَة أُخْرَى: {فسخرنا لَهُ الرّيح تجْرِي بأَمْره رخاء} ( ص: 63) .
أَي لينَة حَيْثُ أصَاب أَي: حَيْثُ أَرَادَ.
قَوْله: ( غدوها) أَي: غدو الرّيح، شهر: يَعْنِي: مسير الرّيح شهر فِي غدوته وَشهر فِي روحته،.

     وَقَالَ  مُجَاهِد: كَانَ سُلَيْمَان يَغْدُو من دمشق فيقيل باصطخر، وَيروح من اصطخر فيقيل بكابل، وَكَانَ بَين إصطخر وكابل مسيرَة شهر، وَمَا بن دمشق واصطخر مسيرَة شهر.

{وأسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْر} ( سبإ: 21) .
أذَبْنا لَهُ عَيْنَ الحَدِيدِ
أسلنا من الإسالة، وَفَسرهُ بقوله: أذبنا لَهُ من الإذابة، وَفسّر عين الْقطر بالحديد،.

     وَقَالَ  قَتَادَة: عين من نُحَاس كَانَت بِالْيمن،.

     وَقَالَ  الْأَعْمَش: سيلت لَهُ كَمَا يسال المَاء، وَقيل: لم يذب للنَّاس لأحد قبله.

{ومِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} إلَى قَوْلِهِ {مِنْ مَحَارِيبَ} ( سبإ: 21) .

أَي: وسخرنا لَهُ {من الْجِنّ من يعْمل بَين يَدَيْهِ بِإِذن ربه وَمن يزغ مِنْهُم عَن أمرنَا نذقه من عَذَاب السعير يعْملُونَ لَهُ مَا يَشَاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعْمَلُوا آل دَاوُد شكرا وَقَلِيل من عبَادي الشكُور} ( سبإ: 21) .
قَوْله: ( وَمن يزغ) أَي: وَمن يمل من الْجِنّ عَن أمرنَا نذقه من عَذَاب السعير فِي الْآخِرَة، وَقيل: فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى وكل بهم ملكا بِيَدِهِ سَوط من نَار فَمن زاغ عَن أمره ضربه ضَرْبَة أحرقته.

قَالَ مُجَاهِدٌ: بُنْيَانٌ مَا دُونَ القُصُورِ
فسر مُجَاهِد المحاريب بقوله: بُنيان مَا دون الْقُصُور،.

     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدَة: المحاريب جمع محراب وَهُوَ مقدم كل بَيت، وَهُوَ أَيْضا الْمَسْجِد والمصلى.

وتَماثِيلَ جمع: تِمْثَال، وَهِي الصُّور، وَكَانَ عمل الصُّور فِي الجدران وَغَيرهَا سائغاً فِي شريعتهم.

{وجِفَان كالْجَوابِ} ( سبإ: 21) .
كالحِياضِ لِلإبِلِ، وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: كالْجَوْبَةِ مِنَ الأرْضِ
الجفان جمع جَفْنَة، وَهِي الْقَصعَة الْكَبِيرَة شبهت بالجوابي وشبهت الجوابي بالحياض الَّتِي يجبى فِيهَا المَاء أَي: يجمع، وَاحِدهَا: جابية، قَالَ الْأَعْشَى:

( تروح على آل المحلق جَفْنَة كجابية الشَّيْخ الْعِرَاقِيّ تفهق)

وَيُقَال: كَانَ يقْعد على جَفْنَة وَاحِدَة من جفان سُلَيْمَان ألف رجل يَأْكُلُون بَين يَدَيْهِ.
قَوْله: ( وَقَالَ ابْن عَبَّاس: كالجوبة) أَي: الجفان كالجوبة، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْوَاو وَالْبَاء الْمُوَحدَة: وَهِي مَوضِع ينْكَشف فِي الْحرَّة وَيَنْقَطِع عَنْهَا.

{وقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} إِلَى قوْلِهِ {الشَّكُورُ} ( سبإ: 21) .

راسيات: أَي: ثابتات لَا يحولن وَلَا يحركن من أماكنهن لعظمهن، وَفِي ( تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وَكَانَت بِالْيمن، وَمِنْه قيل للجبال: رواسي.
قَوْله: ( إِلَى قَوْله: الشكُور) ، بِعني، إقرأ إِلَى قَوْله: الشكُور، وَهُوَ قَوْله: {اعْمَلُوا آل دَاوُد شكرا وَقَلِيل من عبَادي الشكُور} ( سبإ: 31) .
قَالَ النَّسَفِيّ: أَي: وَقُلْنَا: إعملوا شكرا، يَعْنِي: إعملوا بِطَاعَة الله يَا آل دَاوُد شكرا على نعمه، وشكراً فِي مَحل الْمصدر على تَقْدِير: اشكروا شكرا، لِأَن إعملوا فِيهِ معنى: اشكروا من حَيْثُ أَن معنى الْعَمَل فِيهِ للمنعم شكر لَهُ، وَقيل: انتصب: شكرا، على أَنه مفعول لَهُ، أَي: اعْمَلُوا لله واعبدوه، على وَجه الشُّكْر لنعمائه، وَقيل: انتصب على الْحَال، أَي: شاكرين، وَقيل: يجوز أَن ينْتَصب: باعملوا، مَفْعُولا بِهِ، مَعْنَاهُ: أَنا سخرنا لكم الْجِنّ يعْملُونَ لكم مَا شِئْتُم فاعملوا أَنْتُم شكرا، على طَرِيق المشاكلة.
قَوْله: ( الشكُور) ، المتوفر على أَدَاء الشُّكْر الْبَاذِل وَسعه فِيهِ، قد شغل بِهِ قلبه وَلسَانه وجوارحه اعتقاداً واعترافاً.
وَعَن ابْن عَبَّاس: الشكُور من يشْكر على أَحْوَاله كلهَا،.

     وَقَالَ  السّديّ: هُوَ من يشْكر على الشُّكْر، وَقيل: من يرى عَجزه عَن الشُّكْر.

{فلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دلَّهُمْ علَى مَوْتِهِ إلاَّ دَابَّةُ الأرْضِ.
الأرَضَةُ تأكُلُ مِنْسَأتَهُ عَصاهُ فلَمَّا خَرَّ} إِلَى قَوْلِهِ {المُهِينِ} ( سبأ: 31 41) .

أَي: فَلَمَّا حكمنَا على سُلَيْمَان بِالْمَوْتِ مَا دلّ الْجِنّ على مَوته إلاَّ دَابَّة الأَرْض وَهِي الأَرْض، وَهِي دويبة تَأْكُل الْخشب.
قَوْله: ( منسأته) أَي: عَصَاهُ.
قَوْله: ( فَلَمَّا خر) ، أَي: سقط سُلَيْمَان مَيتا.
قَوْله: ( إِلَى قَوْله: المهين) ، يَعْنِي: اقْرَأ إِلَى قَوْله: المهين، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {تبينت الْجِنّ أَن لَو كَانُوا يعلمُونَ الْغَيْب مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب المهين} ( سبإ: 31 41) .
قَوْله: ( تبينت الْجِنّ) جَوَاب: لما، أَي: لما علمت الْجِنّ أَن لَو كَانُوا يعلمُونَ الْغَيْب وَكَانُوا يدعونَ أَنهم يعلمُونَ الْغَيْب.
قَوْله: ( فِي الْعَذَاب المهين) ، أَي: فِي الْعَذَاب الَّذِي يهين المعذب، يَعْنِي: مَا عمِلُوا مسخرين وَهُوَ ميت وهم يَظُنُّونَهُ حَيا.

حُبُّ الخَيْرِ عنْ ذِكْرِ رَبِّي مِنْ ذِكْرِ رَبِّي أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْت حب الْخَيْر عَن ذكر رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بالحجاب} ( ص: 23) .
قَوْله: ( حب الْخَيْر) ، قَالَ الْفراء: الْخَيل وَالْخَيْر بِمَعْنى فِي كَلَام الْعَرَب، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمى زيد الْخَيل: زيد الْخَيْر، وَالْخَيْر: المَال أَيْضا.
قَوْله: ( عَن ذكر رَبِّي) ، قَالَ قَتَادَة: عَن صَلَاة الْعَصْر.
قَوْله: ( حَتَّى تَوَارَتْ) ، يَعْنِي: الشَّمْس، أَي: غَابَتْ بالحجاب وَهُوَ جبل دون الْقَاف بمسيرة سنة تغرب الشَّمْس من وَرَائه، قيل: مَعْنَاهُ حَتَّى استترت الشَّمْس بِمَا يحجبها عَن الْأَبْصَار، والإضمار قبل الذّكر يجوز إِذا جرى ذكر الشَّيْء أَو دَلِيل الذّكر، وَقد جرى هُنَا، وَهُوَ قَوْله: بالْعَشي، وَهُوَ مَا بعد الزَّوَال.

فَطَفِقَ مَسْحَاً بالسُّوقِ والأعناق يَمْسَحُ أعْرَافَ الخَيْلِ وعَرَاقِيبَهَا
أول الْآيَة: {ردوهَا عَليّ} ( ص: 13) .
وَهِي الْمَذْكُورَة قبله بقوله: {إِذْ عرض عَلَيْهِ بالْعَشي الصافنات الْجِيَاد} ( ص: 13) .
وَكَانَ سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، صلى الصَّلَاة الأولى ثمَّ قعد على الْكُرْسِيّ وَهِي تعرض عَلَيْهِ، فعرضت عَلَيْهِ مِنْهَا تِسْعمائَة وَكَانَت ألفا، وَكَانَ سُلَيْمَان غزا دمشق ونصيبين فَأصَاب مِنْهَا ألف فرس،.

     وَقَالَ  مقَاتل: ورث سُلَيْمَان عَن أَبِيه دَاوُد ألف فرس، وَكَانَ أَبوهُ أَصَابَهَا من العمالقة،.

     وَقَالَ  الْحسن: بَلغنِي أَنَّهَا كَانَت خيلاً خرجت من الْبَحْر لَهَا أَجْنِحَة، وَقبل أَن يكمل الْعرض غربت الشَّمْس ففاتته صَلَاة الْعَصْر وَلم يعلم بذلك فَاغْتَمَّ لذَلِك، فَقَالَ: {ردوهَا عَليّ فَطَفِقَ مسحاً} ( ص: 13) .
أَي: فَأقبل يمسح بسوقها وأعناقها بِالسَّيْفِ وينحرها تقرباً إِلَى الله تَعَالَى وطلباً لرضاه حَيْثُ اشْتغل بهَا عَن طَاعَته.
قَوْله: ( يمسح أعراف الْخَيل وعراقيبها) ، والعراقيب جمع عرقوب، وَهُوَ العصب الغليظ عِنْد عقب الْإِنْسَان.

والأصْفَادِ الوَثاقُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآخَرين مُقرنين فِي الأصفاد} ( ص: 83) .
وَفسّر الأصفاد بِالْوَثَاقِ، وروى ابْن جرير من طَرِيق السّديّ، قَالَ: مُقرنين فِي الأصفاد: أَن تجمع اليدان إِلَى الْعُنُق بالأغلال،.

     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدَة: الأصفاد والأغلال وَاحِدهَا صفد، وَيُقَال للعطاء أَيْضا: صفد.
قَوْله: {وَآخَرين} ( ص: 83) .
عطف على قَوْله: {الشَّيَاطِين} ( ص: 83) .
أَي: سخرنا لَهُ الشَّيَاطِين وسخرنا لَهُ آخَرين، يَعْنِي: مَرَدَة الشَّيَاطِين مُقرنين فِي الأصفاد، يُقَال: صفده أَي: شده وأوثقه.
قَالَ مُجَاهِدٌ الصَّافِنَاتُ صَفَنَ الفَرَس رَفَعَ إحْدى رِجْلَيْهِ حتَّى تَكُونَ علَى طَرَفِ الحَافِرِ، الجِيَادُ السِّرَاع
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذْ عرض عَلَيْهِ بالْعَشي الصافنات الْجِيَاد} ( ص: 13) .
أَن الصافنات من صفن الْفرس إِلَى آخِره يَعْنِي: مُشْتَقّ مِنْهُ وَهُوَ جمع صافنة،.

     وَقَالَ  النَّسَفِيّ: الصَّافِن من الْخَيل الْقَائِم على ثَلَاث قَوَائِم، وَقد أَقَامَ الرَّابِعَة على طرف الْحَافِر، والصفون لَا يكَاد يكون فِي الهجن وَإِنَّمَا هُوَ فِي العراب الخلص، وَوصل الْفرْيَابِيّ إِلَى مُجَاهِد مَا قَالَه، لَكِن فِي رِوَايَته: يَدَيْهِ، وَالْمَوْجُود فِي أصل البُخَارِيّ: رجلَيْهِ، وَصوب القَاضِي عِيَاض مَا عِنْد الْفرْيَابِيّ.
قَوْله: ( الْجِيَاد السراع) بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة، وَفِي التَّفْسِير: الْجِيَاد المسرعة فِي الجري جمع جواد، وَقيل: جمع جيد، جمع لَهَا بَين وصفين محمودين.

جَسَداً شَيْطانَاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وألقينا على كرسيه جسداً} ( ص: 43) .
وَفسّر جسداً بقوله: شَيْطَانا،.

     وَقَالَ  الْفرْيَابِيّ: حَدثنَا وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح فِي قَوْله تَعَالَى: {وألقينا على كرسيه جسداً} ( ص: 43) .
قَالَ: شَيْطَانا يُقَال لَهُ آصف، قَالَ لَهُ سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَيفَ تفتن النَّاس؟ قَالَ: أَرِنِي خاتمك أخْبرك، فَأعْطَاهُ فنبذه آصف فِي الْبَحْر فساخ، فَذهب سُلَيْمَان وَقعد أصف على كرسيه وَمنع الله نسَاء سُلَيْمَان فَلم يقربهن، فأنكرته أم سُلَيْمَان، وَكَانَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يستطعم ويعرفهم بِنَفسِهِ فيكذبونه حَتَّى أَعطَتْهُ امْرَأَة حوتاً فطب بَطْنه فَوجدَ خَاتمه فِي بَطْنه، فَرد الله إِلَيْهِ ملكه، وفر آصف فَدخل الْبَحْر.
وَرَوَاهُ ابْن جرير من وَجه آخر عَن مُجَاهِد: أَن اسْمه آصر، آخِره رَاء، وَمن طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن اسْم الْجِنّ: صَخْر، وَمن طَرِيق السّديّ كَذَلِك.
انْتهى.

قلت: فِي هَذَا نظر من وُجُوه: الأول: أَنه يبعد من سُلَيْمَان أَن يناول خَاتمه لغيره ليراه مَعَ علمه أَن ملكه قَائِم بِهِ.
وَالثَّانِي: لَا يَلِيق أَن يقْعد شَيْطَان على كرْسِي نَبِي مُرْسل الَّذِي أعطي مَا لَا يعْطى غَيره من الْملك الْعَظِيم.
وَالثَّالِث: أَن آصف، بِالْفَاءِ فِي آخِره: هُوَ معلم سُلَيْمَان وكاتبه فِي أَيَّام ملكه، وَالَّذِي أَظن أَن الصَّحِيح أَن سُلَيْمَان لما افْتتن بِسَبَب ابْنة ملك صيدون وَاصْطفى ابْنة ملكهَا لنَفسِهِ وأحبها صورت فِي بَيتهَا صُورَة أَبِيهَا، وَكَانَ سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذا خرج من بَيتهَا كَانَت هِيَ وجواريها يعْبدُونَ هَذِه الصُّورَة حَتَّى أَتَى على ذَلِك أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَبلغ ذَلِك آصف بن برخياء فعتب على سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِسَبَب ذَلِك، فَعِنْدَ ذَلِك سقط الْخَاتم من يَده، وَكَانَ كلما أَعَادَهُ كَانَ يسْقط، فَقَالَ لَهُ آصف: إِنَّك مفتون، ففر إِلَى الله تَائِبًا من ذَلِك وَأَنا أقوم مقامك وأسير فِي عِيَالك وَأهل بَيْتك بسيرك إِلَى أَن يَتُوب الله عَلَيْك ويردك إِلَى ملكك، ففر سُلَيْمَان هَارِبا إِلَى الله تَعَالَى، وَأخذ آصف الْخَاتم فَوَضعه فِي يَده فَثَبت وَغَابَ مُدَّة أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثمَّ أَن الله تَعَالَى لما قبل تَوْبَته رَجَعَ إِلَى منزله فَرد الله إِلَيْهِ ملكه وَأعَاد الْخَاتم فِي يَده.
وَقيل: المُرَاد من الْجَسَد ابْنه، وَذَلِكَ أَنه لما ولد لَهُ قَالَت الشَّيَاطِين: نَقْتُلهُ وإلاَّ لَا نَعِيش مَعَه بعده، وَلما علم سُلَيْمَان ذَلِك أَمر السَّحَاب حَتَّى حملت ابْنه وعدى فِي السَّحَاب خوفًا من مضرَّة الشَّيَاطِين، فَعَاتَبَهُ الله لذَلِك، وَمَات الْوَلَد فَألْقى مَيتا على كرسيه فَهُوَ الْجَسَد الَّذِي قَالَ الله تَعَالَى: {وألقينا على كرسيه جسداً} ( ص: 43) .
وَهَذَا هُوَ الْأَنْسَب والأليق من غَيره، وَيُؤَيِّدهُ مَا قَالَه الْخَلِيل: لَا يُقَال الْجَسَد لغير الْإِنْسَان من خلق الأَرْض،.

     وَقَالَ  ابْن إِسْحَاق: وَكَانَ الْخَاتم من ياقوتة خضراء أَتَاهُ بهَا جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الْجنَّة مَكْتُوب عَلَيْهَا: لَا إلاه إلاَّ الله مُحَمَّد رَسُول الله، وَهُوَ الْخَاتم الَّذِي ألبسهُ الله آدم فِي الْجنَّة.

رُخَاءً طَيِّبةً حَيْثُ أصابَ حَيْثُ شَاءَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فسخرنا لَهُ الرّيح تجْرِي بأَمْره رخاء} ( ص: 63) .
وَفسّر رخاء بقوله: طيبَة، ويروى طيبا، بالتذكير، وَفسّر قَوْله: حَيْثُ أصَاب، بقوله: حَيْثُ شَاءَ، بلغَة حِمْيَر.

فامْنُنْ أعْطِ بِغَيْرِ حِسابٍ بِغَيْرِ حَرَجٍ
أول الْآيَة: {هَذَا عطاؤنا فَامْنُنْ أَو أمسك بِغَيْر حِسَاب} ( ص: 93) .
وَفسّر قَوْله: فَامْنُنْ، بقوله: أعْط، وَالْعرب تَقول: منَّ عَليّ برغيف، أَي: أعطانيه، وَفسّر قَوْله: بِغَيْر حِسَاب، بقوله: بِغَيْر حرج،.

     وَقَالَ  الْحسن الْبَصْرِيّ.
رَحمَه الله: إِن الله لم يُعْط أحد أعطية إلاَّ جعل فِيهَا حسابا إلاَّ سُلَيْمَان، فَإِن الله أعطَاهُ عَطاء هَنِيئًا، فَقَالَ: هَذَا عطاؤنا فَامْنُنْ أَو أمسك بِغَيْر حِسَاب، قَالَ: إِن أعطي أجر، وَإِن لم يُعْط لم يكن عَلَيْهِ تبعة.
.

     وَقَالَ  مقَاتل: هُوَ فِي أَمر الشَّيَاطِين، أَي: حل من شِئْت مِنْهُم وأوثق من شِئْت فِي وثاقك وَلَا تبعة عَلَيْك فِيمَا تتعاطاه.



[ قــ :3267 ... غــ :3423 ]
- حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا مُحمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ زِيادٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ عِفْرِيتاً مِنَ الجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطع علَيَّ صَلاَتِي فأمْكَنَنِي الله مِنْهُ فأخَذْتُهُ فأرَدْتُ أنْ أرْبُطَهُ علَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكَاً لَا يَنْبَغِي لأِحَدٍ مِنْ بَعْدِي فرَدَدْتُهُ خاسِئاً.
.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بابُُ الْأَسير يرْبط فِي الْمَسْجِد، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

قَوْله: ( تفلَّت) ، بتَشْديد اللَّام، أَي: تعرض لي فلتة، أَي: بَغْتَة، وَفِي قَوْله: ( فَذكرت دَعْوَة أخي سُلَيْمَان)
إِلَى آخِره، دلَالَة على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقدر على ذَلِك، إلاَّ أَنه تَركه رِعَايَة لِسُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.

عِفْرِيتٌ مُتَمَرِّدٌ مِنْ إنْسٍ أوْ جانٍّ مِثْلُ زِبْنِيَةٍ جَمَاعَتُهَا الزَّبَانِيَّةُ
فسر: عفريتاً، بقوله: متمرد، سَوَاء كَانَ من إنس أَو من جَان، واشتقاقه من: العفر،.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: العفر والعفرية والعفارية والعفريت: الْقوي المتشيطن الَّذِي يعفر قرنه، وَالْيَاء فِي عفرية وعفارية للإلحاق بشرذمة وعذافرة، وَالْهَاء فيهمَا للْمُبَالَغَة، وَالتَّاء فِي: عفريت، للإلحاق بقنديل، وَفِي الحَدِيث: أَن الله تَعَالَى يبغض العفرية التفرية، قَالَ ابْن الْأَثِير: هُوَ الداهي الْخَبيث الشرير، وَمِنْه العفريت.
قَوْله: ( مثل زبنية) ، بِكَسْر الزَّاي وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر النُّون وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره هَاء، وَيجمع على: زَبَانِيَة.
وَفِي قَوْله: ( عفريت) مثل زبنية، نظر، لِأَن مثل الزبنية العفرية لَا العفريت،.

     وَقَالَ  بَعضهم: مُرَاد المُصَنّف بقوله: مثل زبنية، إِنَّه قيل فِي عفريت: عفرية، وَهِي قِرَاءَة جَاءَت شَاذَّة عَن أبي بكر الصّديق وَأبي رَجَاء العطاردي، وَأبي السمال، بِالسِّين الْمُهْملَة وباللام.
انْتهى.
قلت: قد تقدم من قَول الزَّمَخْشَرِيّ أَن عفرية لُغَة مُسْتَقلَّة وَلَيْسَت هِيَ وعفرية لُغَة وَاحِدَة، والزبانية فِي الأَصْل إسم أَصْحَاب الشرطة واشتقاقها من الزَّبْن وَهُوَ الدّفع، وَأطلق ذَلِك على مَلَائِكَة النَّار لأَنهم يدْفَعُونَ الْكفَّار إِلَى النَّار، وَيُقَال وَاحِد الزَّبَانِيَة زبني، وَيُقَال: زابن، وَقيل: زباني، وَالْكل لَا يَخْلُو عَن نظر.





[ قــ :368 ... غــ :344 ]
- حدَّثنا خالِدُ بنُ مَخْلَدٍ حدَّثنا مُغِيرَةُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَالَ سُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَام لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ علَى سَبْعِينَ امْرَأةً تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأةٍ فارِسَاً يُجاهِدُ فِي سَبِيلِ الله فَقَالَ لَهُ صاحِبُهُ إنْ شَاءَ الله فلَمْ يَقُلْ ولَمْ تَحْمِلْ شَيْئاً إلاَّ واحِدَاً ساقِطَاً إحْدَى شِقَّيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْ قالَهَا لَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله.
قَالَ شُعَيْبٌ وابنُ أبِي الزِّنادِ تَسْعِينَ وهْوَ أصَحُّ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وخَالِد بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم البَجلِيّ الْكُوفِي وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: عبد الرَّحْمَن ابْن عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
قَوْله: ( لأطوفن) ، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: لأطيفن، وهما لُغَتَانِ: طَاف بالشَّيْء وأطاف بِهِ، إِذا دَار خَلفه وتكرر عَلَيْهِ، وَالطّواف هُنَا كِنَايَة عَن الْجِمَاع، وَاللَّام فِيهِ جَوَاب قسم مَحْذُوف تَقْدِيره: وَالله لأطوفن.
قَوْله: ( اللَّيْلَة) ، نصب على الظَّرْفِيَّة.
قَوْله: ( على سبعين امْرَأَة) ، وَمضى الحَدِيث فِي كتاب الْجِهَاد فِي: بابُُ من طلب الْوَلَد، وَفِيه لأطوفن اللَّيْلَة على مائَة امْرَأَة أَو تسع وَتِسْعين، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور، فَقَالَ: تسعين، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان، فَقَالَ: سبعين، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد من رِوَايَة أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة: كَانَ لِسُلَيْمَان سِتُّونَ امْرَأَة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَأبي عوَانَة من طَرِيق هِشَام عَن ابْن سِيرِين، فَقَالَ: مائَة امْرَأَة، وَكَذَا عِنْد ابْن مرْدَوَيْه من رِوَايَة عمرَان بن خَالِد عَن ابْن سِيرِين، وَقد مر وَجه الْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات فِي كتاب الْجِهَاد، وَقيل: إِن السِّتين كن حرائر وَمَا زَاد عَلَيْهِنَّ كن سراري، أَو بِالْعَكْسِ، وَعَن وهب: كَانَ لِسُلَيْمَان ألف امْرَأَة ثَلَاثمِائَة مهيرة وَسَبْعمائة سَرِيَّة، وروى الْحَاكِم فِي ( مُسْتَدْركه) من طَرِيق أبي معشر عَن مُحَمَّد بن كَعْب قَالَ: بلغنَا أَنه كَانَ لِسُلَيْمَان صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألف بَيت من قَوَارِير على الْخشب، مِنْهَا ثَلَاثمِائَة صَرِيحَة وَسَبْعمائة سَرِيَّة.
قَوْله: ( فَقَالَ لَهُ صَاحبه: قل: إِن شَاءَ الله تَعَالَى) ، وَفِي رِوَايَة معمر عَن طَاوُوس، على مَا سَيَأْتِي، فَقَالَ لَهُ الْملك، وَفِي رِوَايَة هِشَام بن حُجَيْر: فَقَالَ لَهُ صَاحبه.
قَالَ سُفْيَان: يَعْنِي الْملك هَذَا يدل على أَن تَفْسِير صَاحبه بِالْملكِ لَيْسَ بمرفوع، وَوَقع فِي ( مُسْند الْحميدِي) : عَن سُفْيَان: فَقَالَ لَهُ صَاحبه أَو الْملك، بِالشَّكِّ، وَمثلهَا فِي مُسلم، وَبِهَذَا كُله يرد قَول من يَقُول بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي عِنْده علم من الْكتاب، وَهُوَ: آصف بن برخيا، وَأبْعد من هَذَا من قَالَ: المُرَاد بِالْملكِ خاطره،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: قيل: المُرَاد بِصَاحِبِهِ الْملك وَهُوَ الظَّاهِر من لَفظه، وَقيل: القرين، وَقيل: صَاحب لَهُ آدَمِيّ.
قَوْله: ( إلاَّ وَاحِدًا سَاقِطا شقَّه) ، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب: فَلم تحمل مِنْهُنَّ إلاَّ امْرَأَة وَاحِدَة جَاءَت بشق رجل، وَفِي رِوَايَة أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين: شقّ غُلَام، وَفِي رِوَايَة هِشَام عَنهُ.
نصف إِنْسَان، وَفِي رِوَايَة معمر: حكى النقاش فِي ( تَفْسِيره) : أَن الشق الْمَذْكُور هُوَ الْجَسَد الَّذِي ألقِي على كرسيه.
قَوْله: ( لَو قَالَهَا) ، أَي: لَو قَالَ سُلَيْمَان: إِن شَاءَ الله، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيل الله، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب: لَو قَالَ: إِن شَاءَ الله، وَزَاد فِي آخِره: فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ، وَفِي رِوَايَة ابْن سِيرِين: لَو اسْتثْنى لحملت كل امْرَأَة مِنْهُنَّ فَولدت فَارِسًا يُقَاتل فِي سَبِيل الله، وَفِي رِوَايَة طَاوُوس: لَو قَالَ: إِن شَاءَ الله، لم يَحْنَث وَكَانَ دركاً لِحَاجَتِهِ، أَي: كَانَ يحصل لَهُ مَا طلب، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ من طَرِيق معمر: وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ.
قَوْله: ( قَالَ شُعَيْب) ، هُوَ شُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَابْن أبي الزِّنَاد هُوَ عبد الله بن ذكْوَان، وهما قَالَا فِي روايتهما: تسعين، على مَا سَيَأْتِي فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور.
قَوْله: ( وَهُوَ الْأَصَح) ، أَي: مَا روياه من تسعين هُوَ الْأَصَح.





[ قــ :369 ... غــ :345 ]
- حدَّثني عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حدَّثنا أبي حدَّثَنا الأعْمَشُ حدثناإبْرَاهِيمُ التِيمِيُّ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي ذَرٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ.

قُلْتُ يَا رسُولَ الله أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أوَّلُ قَالَ المَسْجِدُ الحَرَامُ.

قُلْتُ ثُمَّ أيُّ قَالَ ثُمَّ المَسْجِدُ الأقْصَى.

قُلْتُ كَمْ كانَ بَيْنَهُمَا قَالَ أرْبَعُونَ ثُمَّ قَالَ حَيْثُما أدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ فَصَلِّ والأرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ.
( انْظُر الحَدِيث 6633) .


مطابقته للتَّرْجَمَة تستأنس من قَوْله: ( ثمَّ الْمَسْجِد الْأَقْصَى) ، لِأَن سُلَيْمَان صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الَّذِي بناه، وَإِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ يروي عَن أَبِيه يزِيد بن شريك عَن أبي ذَر الْغِفَارِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي: بابُُ قَول الله تَعَالَى: { وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} ( النِّسَاء: 51) .
فَإِنَّهُ رُوِيَ هُنَاكَ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْوَاحِد عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ ... إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: ( قَالَ: أَرْبَعُونَ) أَي: أَرْبَعُونَ سنة، وَقد صرح بِهِ هُنَاكَ، وَالْمُطلق يحمل على الْمُقَيد.





[ قــ :370 ... غــ :346 ]
- حدَّثنا أبُو اليَمَانِ أخْبرَنَا شُعَيْبٌ حدَّثنا أَبُو الزِّنادِ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ حدَّثَهُ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ سَمِعَ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ مَثَلِي ومثَلُ النَّاسِ كمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نارَاً فجعَلَ الفَرَاشُ وهَذِهِ الدَّوَابُّ تَقَعُ فِي النَّارِ.
وقَالَ كَانَتِ امْرَأتَانِ مَعَهُما ابناهُمَا جاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بابُنِ إحْدَيْهِمَا فقالَتْ صاحِبَتُهَا إنَّما ذَهَبَ بابُْنِكِ وقالَتِ الأخْرَى إنَّمَا ذَهَبَ بابُْنِكِ فتَحَاكَما إِلَى داوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى فخَرَجَتَا علَى سُلَيْمَانَ بنِ دَاوُدَ فأخْبَرَتاهُ فَقال ائْتُونِي بالسِّكِّينِ أشُقُّهُ بَيْنَهُمَا فقَالَتِ الصُّغْرَى لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ الله هوَ ابنُهَا فَقَضَى بِهِ للْصُّغْرَى.
قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ وَالله إنْ سَمِعْتُ بالسِّكِّينِ إلاَّ يَوْمَئِذٍ وَمَا كُنَّا نَقُولُ إلاَّ المُدْيَةُ.
( الحَدِيث 743 طرفه فِي: 9676) .


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وَقَالَ كَانَت امْرَأَتَانِ) إِلَى آخِره، فَإِن فِيهِ ذكر سُلَيْمَان، وَأما تَعْلِيق الحَدِيث الأول بِحَدِيث التَّرْجَمَة فَهُوَ أَن الرَّاوِي ذكره مَعَه كَمَا سَمعه مَعَه،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: مُتَابعَة الْأَنْبِيَاء مُوجبَة للخلاص، كَمَا أَن فِي هَذَا التحاكم خلاص الْكُبْرَى من تلبسها بِالْبَاطِلِ ووباله فِي الْآخِرَة، وخلاص الصُّغْرَى من ألم فِرَاق وَلَدهَا، وخلاص الابْن من الْقَتْل، وَتَمام الحَدِيث الأول هُوَ قَوْله: فَجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فِيهَا فَذَلِك مثلي ومثلكم أَنا آخذ بِحُجزِكُمْ عَن النَّار فتغلبوني وتقتحمون فِيهَا.
وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن هُرْمُز الْأَعْرَج.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفَرَائِض عَن أبي الْيَمَان أَيْضا.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقَضَاء عَن عمرَان بن بكار وَعَن الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( مثلي وَمثل النَّاس) ، بِفَتْح الْمِيم أَي: صِفَتي وحالي وشأني فِي دُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَام المنقذ لَهُم من النَّار، وَمثل مَا تزين لَهُم أنفسهم من التَّمَادِي على الْبَاطِل كَمثل رجل.
.
إِلَى آخِره، وَهَذَا من تَمْثِيل الْجُمْلَة بِالْجُمْلَةِ، وَالْمرَاد من ضرب الْمثل الزِّيَادَة فِي الْكَشْف والتنبيه للْبَيَان.
قَوْله: ( استوقد نَارا) أَي: أوقد نَارا، يُؤَيّدهُ مَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم وَأحمد من حَدِيث جَابر: مثلي ومثلكم كَمثل رجل أوقد نَارا،.

     وَقَالَ  بَعضهم: زِيَادَة السِّين وَالتَّاء للْإِشَارَة إِلَى أَنه عالج إيقادها وسعى فِي تَحْصِيل آلاتها.
قلت: معنى الاستفعال الطّلب، وَلَكِن قد يكون صَرِيحًا نَحْو: استكتبته، أَي: طلبت مِنْهُ الْكِتَابَة، وَقد يكون تَقْديرا نَحْو استخرجت الوتد من الْحَائِط، وَلَيْسَ فِيهِ طلب صَرِيح، واستوقد هَهُنَا من هَذَا الْقَبِيل، وَالنَّار جَوْهَر لطيف مضيء محرق حَار والنور ضوؤها.
قَوْله: ( الْفراش) ، بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الرَّاء وَفِي آخِره شين مُعْجمَة، قَالَ الْخَلِيل: يطير كالبعوض، وَقيل: هُوَ كصغار البق،.

     وَقَالَ  الْفراء: هُوَ غوغاء الْجَرَاد الَّذِي يتفرش ويتراكم ويتهافت فِي النَّار.
قَوْله: ( وَهَذِه الدَّوَابّ) ، عطف على الْفراش، وَهُوَ جمع دَابَّة، وَأَرَادَ بهَا هُنَا مثل البرغش والبعوض والجندب وَنَحْوهَا.
قَوْله: ( تقع فِي النَّار) خبر: جعل، لِأَن جعل، من أَفعَال المقاربة يعْمل عمل: كَانَ، فِي اقتضائه الِاسْم وَالْخَبَر.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شبه الْمُخَالفين لَهُ بالفراش وتساقطهم فِي نَار الْآخِرَة بتساقط الْفراش فِي نَار الدُّنْيَا مَعَ حرصهم على الْوُقُوع فِي ذَلِك وَمنعه إيَّاهُم، وَالْجَامِع بَينهمَا اتِّبَاع الْهوى وَضعف التَّمْيِيز وحرص كل من الطَّائِفَتَيْنِ على هَلَاك نَفسه،.

     وَقَالَ  ابْن الْعَرَبِيّ: هَذَا مثل كثير الْمعَانِي، وَالْمَقْصُود: أَن الْخلق لَا يأْتونَ مَا يجرهم إِلَى النَّار على قصد الهلكة، وَإِنَّمَا يأتونه على قصد الْمَنْفَعَة وَاتِّبَاع الشَّهْوَة، كَمَا أَن الْفراش يقتحم النَّار لَا ليهلك فِيهَا بل لما يَصْحَبهُ من الضياء، وَقد قيل: إِنَّهَا لَا تبصر بِحَال وَهُوَ بعيد جدا.
قَوْله: ( وَقَالَ كَانَت امْرَأَتَانِ) ، لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح بِرَفْعِهِ وَهُوَ مَرْفُوع فِي نُسْخَة شُعَيْب عِنْد الطَّبَرَانِيّ وَغَيره، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق عَليّ بن عَيَّاش عَن شُعَيْب: حَدثنِي أَبُو الزِّنَاد مِمَّا حَدثهُ عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج مِمَّا ذكر أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يحدث عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: بَينا امْرَأَتَانِ.
قَوْله: ( فتحاكما) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فتحاكمتا، وَفِي نُسْخَة شُعَيْب: فاختصما.
قَوْله: ( فَقضى بِهِ للكبرى) ، أَي: للْمَرْأَة الْكُبْرَى، قيل: إِن ذَلِك كَانَ على سَبِيل الْفتيا مِنْهُمَا لَا الحكم، فَلذَلِك سَاغَ لِسُلَيْمَان أَن ينْقضه، ورده الْقُرْطُبِيّ بِأَن فتيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كحكمه وهما سَوَاء فِي التَّنْفِيذ.
فَإِن قلت: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك، فَكيف جَازَ لِسُلَيْمَان نقض حكم دَاوُد؟ قلت: إِن كَانَ حكمهمَا بِالْوَحْي فَحكم سُلَيْمَان نَاسخ لحكم دَاوُد، وَإِن كَانَ بِالِاجْتِهَادِ فاجتهاده كَانَ أقوى لِأَنَّهُ بالحيلة اللطيفة أظهر مَا فِي نفس الْأَمر،.

     وَقَالَ  الْوَاقِدِيّ: إِنَّمَا كَانَ بَينهمَا على سَبِيل الْمُشَاورَة، فوضح لداود صِحَة رَأْي سُلَيْمَان فأمضاه، وَقيل: إِن من شرع دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الحكم للكبرى من حَيْثُ هِيَ كبرى.
ورد بِأَن هَذَا غلط، لِأَن الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى وصف طردي مَحْض لَا يُوجب شَيْء من ذَلِك تَرْجِيحا لأحد المتداعيين حَتَّى يحكم لَهُ أَو عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الطول وَالْقصر والسواد وَالْبَيَاض،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: إِن سُلَيْمَان فعل ذَلِك تحيلاً على إِظْهَار الْحق فَلَمَّا أقرَّت بِهِ الصُّغْرَى عمل بإقرارها وَإِن كَانَ الحكم قد نفذ، كَمَا لَو اعْترف الْمَحْكُوم لَهُ بعد الحكم أَن الْحق لخصمه،.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: وَإِنَّمَا حكما بِالِاجْتِهَادِ إِذْ لَو كَانَ بِنَصّ لما سَاغَ خِلَافه، وَهُوَ دَال على أَن الفطنة والفهم موهبة من الله تَعَالَى وَلَا الْتِفَات لقَوْل من يَقُول: إِن الإجتهاد إِنَّمَا يسوغ عِنْد فقد النَّص، والأنبياء، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَا يفقدون النَّص، فَإِنَّهُم متمكنون من استطلاع الْوَحْي وانتظاره، وَالْفرق بَينهم وَبَين غَيرهم قيام الْعِصْمَة بهم عَن الْخَطَأ وَعَن التَّقْصِير فِي الِاجْتِهَاد، بِخِلَاف غَيرهم.
قَوْله: ( لَا تفعل يَرْحَمك الله) ، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم والإسماعيلي من طَرِيق وَرْقَاء عَن أبي الزِّنَاد: لَا يَرْحَمك الله، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: يَنْبَغِي أَن يكون على هَذِه الرِّوَايَة أَن يقف على: لَا، دقيقة حَتَّى يتَبَيَّن للسامع أَن مَا بعده كَلَام مستأنمف، لِأَنَّهُ إِذا وصل بِمَا بعد: لَا يتَوَهَّم للسامع أَنه دُعَاء عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ دُعَاء لَهُ.
قَوْله: ( قَالَ أَبُو هُرَيْرَة) صورته تَعْلِيق، لَكِن ادّعى بَعضهم أَنه مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الأول، وَفِيه تَأمل.
قَوْله: ( إِن سَمِعت) ، كلمة: إِن، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون النُّون كلمة نفي.
أَي: وَالله مَا سَمِعت بِلَفْظ السكين إلاَّ يَوْمئِذٍ.
قَوْله: ( المدية) بِضَم الْمِيم، وَقيل: الْمِيم مُثَلّثَة، سمي السكين بهَا لِأَنَّهَا تقطع مدى حَيَاة الْحَيَوَان، وَسمي السكين سكيناً لِأَنَّهُ يسكن حَرَكَة الْحَيَوَان، وَهُوَ يذكر وَيُؤَنث.