فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول الله تعالى: {يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} [البقرة: 146]

( بابُُ قَوْلِ الله تَعَالَى { يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْنَاءَهُمْ وإنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وهُمْ يَعْلَمُونَ} ( الْبَقَرَة: 641) .
)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَا جَاءَ من ذكر قَول الله تعال: { يعرفونه} ( الْبَقَرَة: 641) .
الْآيَة وَأول الْآيَة { الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه} ( الْبَقَرَة: 641) .
الْآيَة، أخبر الله تَعَالَى أَن عُلَمَاء أهل الْكتاب يعْرفُونَ صِحَة مَا جَاءَهُم بِهِ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا يعرف أحدهم وَلَده، وَالْعرب كَانَت تضرب الْمثل فِي صِحَة الشَّيْء بِهَذَا، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: ويروى أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ لعبد الله بن سَلام: أتعرف مُحَمَّدًا كَمَا تعرف ابْنك؟ قَالَ: نعم وَأكْثر، نزل الْأمين من السَّمَاء بنعته فعرفته، وإنني لَا أَدْرِي مَا كَانَ من أمه، وَقيل: يعْرفُونَ مُحَمَّدًا كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم من بَين أَبنَاء النَّاس، لَا يشك أحد وَلَا يتمارى فِي معرفَة ابْنه إِذا رَآهُ من بَين أَبنَاء النَّاس كلهم، ثمَّ أخبر الله تَعَالَى أَنهم مَعَ هَذَا التحقق والإيقان العلمي { ليكتمون الْحق} أَي: ليكتمون النَّاس مَا فِي كتبهمْ من صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
{ وهم يعلمُونَ} أَي: وَالْحَال أَنهم يعلمُونَ الْحق.
فَإِن قلت: مَا وَجه دُخُول هَذَا الْبابُُ المترجم فِي أَبْوَاب عَلَامَات النُّبُوَّة الْمَذْكُورَة؟ قلت: من جِهَة أَنه أَشَارَ فِي الحَدِيث إِلَى حكم التَّوْرَاة، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَهُمْ عَمَّا فِي التَّوْرَاة فِي حكم من زنى، وَالْحَال أَنه لم يقْرَأ التَّوْرَاة وَلَا وقف عَلَيْهَا قبل ذَلِك، فَظهر الْأَمر كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَيْضا من أعظم عَلَامَات النُّبُوَّة.



[ قــ :3467 ... غــ :3635 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرَنا مالِكُ بنُ أنَسٍ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ اليَهُودَ جاؤُا إِلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فذَكَرُوا لَهُ أنَّ رجُلاً مِنْهُم وامْرَأةً زَنَيا فَقَالَ لَهُم رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شأنِ الرَّجْمِ فَقَالَ نَفْضَحُهُمْ ويُجْلَدُونَ فَقَالَ عَبْدُ الله بنُ سَلاَمٍ كذَبْتُمْ إنَّ فِيهَا الرَّجْمَ فأتَوْا بالتَّوْرَاةِ فنَشَرُوهَا فوَضَعَ أحَدُهُمْ يَدَهُ علَى آيَةِ الرَّجْمِ فقَرَأ مَا قَبْلَها وَمَا بَعْدَهَا فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الله بنُ سَلامٍ ارْفَعْ يَدَكَ فرَفَعَ يَدَهُ فإذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ فقالُوا صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فيهَا آيةُ الرَّجْمِ فأمَرَ بِهِمَا رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرُجِمَا.
قَالَ عَبْدُ الله فرَأيْتُ الرَّجُلَ يَحْنَأُ عَلَى المَرْأةِ يَقِيهَا الحِجَارَةَ.
.
وَجه الْمُطَابقَة قد ذَكرْنَاهُ الْآن.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُحَاربين عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن أبي الطَّاهِر، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معمر عَنهُ بِهِ مُخْتَصرا.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرَّجْم عَن قُتَيْبَة عَنهُ بِتَمَامِهِ.

قَوْله: ( فَذكرُوا لَهُ) أَي: للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( أَن رجلا مِنْهُم) أَي: من الْيَهُود ( وَامْرَأَة زَنَيَا) وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجم فِي الزِّنَا يهوديين: رجل وَامْرَأَة زَنَيَا، فَأَتَت الْيَهُود إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهما ... الحَدِيث.
قَوْله: ( مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة؟) هَذَا السُّؤَال لَيْسَ لتقليدهم، وَلَا لمعْرِفَة الحكم مِنْهُم، وَإِنَّمَا هُوَ لإلزامهم بِمَا يعتقدونه فِي كِتَابهمْ، وَلَعَلَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أُوحِي إِلَيْهِ أَن الرَّجْم فِي التَّوْرَاة الْمَوْجُودَة فِي أَيْديهم لم يغيروه كَمَا غيروا أَشْيَاء، أَو أَنه أخبرهُ بذلك من أسلم مِنْهُم، وَلذَلِك لم يخف عَلَيْهِ حِين كتموه.
قَوْله: ( فِي شَأْن الرَّجْم) أَي: فِي أمره وَحكمه.
قَوْله: ( فَقَالُوا: نفضحهم) أَي: نكشف مساويهم، وَالِاسْم الفضيحة من: فَضَح فلَان فلَانا إِذا كشف مساويه، وَبَينهمَا للنَّاس، وَفِي رِوَايَة مُسلم: ( نسوّد وُجُوههمَا ونحملهما وَنُخَالِف بَين وُجُوههمَا وَيُطَاف بهما) .
قَوْله: ( ونحملهما) ، بِالْحَاء واللاّم فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَفِي بَعْضهَا: ( نجملهما) بِالْجِيم الْمَفْتُوحَة، وَفِي بَعْضهَا: ( نحممهما) ، بميمين وَكله مُتَقَارب، فَمَعْنَى: نحملهما يَعْنِي على الْجمل، وَمعنى الثَّانِي: نجعلهما جَمِيعًا على الْجمل، وَمعنى الثَّالِث: نسود وُجُوههمَا بالحمم، بِضَم الْحَاء وَفتح الْمِيم وَهُوَ: الفحم.
قَوْله: ( فَقَالَ عبد الله بن سَلام) ، بتَخْفِيف اللاّم: ابْن الْحَارِث وَهُوَ إسرائيلي من بني قينقاع وَهُوَ من ولد يُوسُف الصّديق وَكَانَ اسْمه فِي الْجَاهِلِيَّة الْحصين فغيروه، وَكَانَ حَلِيف الْأَنْصَار، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين فِي ولَايَة مُعَاوِيَة بِالْمَدِينَةِ، شهد لَهُ الشَّارِع بِالْجنَّةِ.
قَوْله: ( أَن فِيهَا) أَي: أَن فِي التَّوْرَاة ( الرَّجْم على الزَّانِي) قَوْله: ( فَوضع أحدهم) أَي أحد الْيَهُود، هُوَ عبد الله بن صوريا الْأَعْوَر،.

     وَقَالَ  الْمُنْذِرِيّ: إِنَّه ابْن صوري، وَقَيده بَعضهم بِكَسْر الصَّاد.
قَوْله: ( يحنأ) ، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح النُّون وبالهمزة فِي آخِره، قَالَ الْخطابِيّ: من حنيت الشَّيْء أحنيه إِذا غطيته، وَالْمَحْفُوظ بِالْجِيم والهمزة من: جنأ الرجل على الشَّيْء يجنأ إِذا أكب عَلَيْهِ، قيل: فِيهِ سبع رِوَايَات كلهَا رَاجِعَة إِلَى الْوِقَايَة.
قَوْله: ( يَقِيهَا) ، من وقى يقي وقاية، وَهُوَ الْحِفْظ من وُصُول الْحِجَارَة إِلَيْهَا.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فَمِنْهُ: أَن الشَّافِعِي وَأحمد احتجا بِهِ أَن الْإِسْلَام لَيْسَ بِشَرْط فِي الْإِحْصَان، وَبِه قَالَ أَبُو يُوسُف، وَعند أبي حنيفَة وَمُحَمّد: من شُرُوط الْإِحْصَان الْإِسْلَام، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من أشرك بِاللَّه فَلَيْسَ بمحصن) ، وَالْجَوَاب عَن الحَدِيث أَن ذَلِك كَانَ يحكم التَّوْرَاة قبل نزُول آيَة الْجلد فِي أول مَا دخل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة، فَصَارَ مَنْسُوخا بهَا.
وَمِنْه: وجوب حد الزِّنَا على الْكَافِر وَمِنْه أَن الْكفَّار مخاطبون بِفُرُوع الشَّرْع وَفِيه خلاف فَقيل لَا يخاطبون بهَا وَقيل هم مخاطبون بِالنَّهْي دون الْأَمر وَمِنْه: أَن الْكفَّار إِذا تحاكموا إِلَيْنَا حكم القَاضِي بَينهم بِحكم شرعنا، قَالَه النَّوَوِيّ.
قلت: اخْتلف الْعلمَاء فِي الحكم بَينهم إِذا ارتفعوا إِلَيْنَا أواجب علينا أم نَحن فِيهِ مخيرون؟ فَقَالَت جمَاعَة من فُقَهَاء الْحجاز وَالْعراق: إِن الإِمَام أَو الْحَاكِم مُخَيّر، إِن شَاءَ حكم بَينهم إِذا تحاكموا إِلَيْهِ بِحكم الْإِسْلَام، وَإِن شَاءَ أعرض عَنْهُم، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي أحد قوليه، وَهُوَ قَول عَطاء وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: { فَإِن جاؤك} ( الْمَائِدَة: 24) .
قَالَ: نزلت فِي بني قُرَيْظَة، وَهِي محكمَة: قَالَ عَامر وَالنَّخَعِيّ: إِن شَاءَ حكم وَإِن شَاءَ لم يحكم،.

     وَقَالَ  ابْن الْقَاسِم: إِن تحاكم أهل الذِّمَّة إِلَى حَاكم الْمُسلمين وَرَضي الخصمان بِهِ جَمِيعًا فَلَا يحكم بَينهمَا إلاَّ بِرِضا من أساقفهما، فَإِن كره ذَلِك أساقفهم، فَلَا يحكم بَينهم، وَكَذَلِكَ إِن رَضِي الأساقفة وَلم يرض الخصمان أَو أَحدهمَا لم يحكم بَينهمَا،.

     وَقَالَ  الزُّهْرِيّ: مَضَت النسة أَن يرد أهل الذِّمَّة فِي حُقُوقهم ومعاملاتهم ومواريثهم إِلَى أهل دينهم إلاَّ أَن يَأْتُوا راغبين فِي حكمنَا فنحكم بَينهم بِكِتَاب الله تَعَالَى.
.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: وَاجِب على الْحَاكِم أَن يحكم بَينهم إِذا تحاكموا إِلَيْهِ بِحكم الله تَعَالَى، وَزَعَمُوا أَن قَوْله تَعَالَى: { وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله} ( الْمَائِدَة: 94) .
نَاسخ للتَّخْيِير فِي الحكم بَينهم فِي الْآيَة الَّتِي قبل هَذِه، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس من حَدِيث سُفْيَان بن حُسَيْن، وَالْحكم عَن مُجَاهِد عَنهُ، وَمِنْهُم من يرويهِ عَن سُفْيَان وَالْحكم عَن مُجَاهِد، قَوْله: وَهُوَ صَحِيح عَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَبِه قَالَ الزُّهْرِيّ وَعمر ابْن عبد الْعَزِيز وَالسُّديّ، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي، إلاَّ أَن أَبَا حنيفَة، قَالَ إِذا جَاءَت الْمَرْأَة وَالزَّوْج فَعَلَيهِ أَن يحكم بَينهمَا بِالْعَدْلِ، وَإِن جَاءَت الْمَرْأَة وَحدهَا وَلم يرض الزَّوْج لم يحكم،.

     وَقَالَ  صَاحِبَاه: يحكم، وَكَذَا أختلف أَصْحَاب مَالك.