فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: وقوله تعالى: {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [البقرة: 57]

( بابُُ: و.

     قَوْلُهُ  تَعَالى: { وظَللْنا علَيْكُمُ الغَمامَ وأنْزَلْنا عَلَيْكُمُ المَنَّ والسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَمَا ظَلَمُونا ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ( الْبَقَرَة: 57) .

     وَقَالَ  مجاهِدٌ المَنُّ صَمْغَةٌ
والسَّلْوَى الطيْرُ.
)

ذكر هَذِه الْآيَة وَلم يذكر شَيْئا من تَفْسِيرهَا غير مَا ذكره من قَول مُجَاهِد، وَلما ذكر الله تَعَالَى مَا دفع عَن قوم مُوسَى من النقم الْمَذْكُورَة قبل هَذِه الْآيَة، ذكرهم هُنَا بِمَا أَسْبغ عَلَيْهِم من النعم، فَقَالَ: ( وظللنا عَلَيْكُم الْغَمَام) وَهُوَ جمع غمامة، سمي بذلك لِأَنَّهُ يغم السَّمَاء أَي يواريها ويسترها، وَهُوَ السَّحَاب الْأَبْيَض ظللوا بِهِ فِي التيه ليقيهم حر الشَّمْس، وَعَن مُجَاهِد: لَيْسَ من زِيّ مثل هَذَا السَّحَاب بل أحسن مِنْهُ وَأطيب وأبهى منْظرًا، وَذكر سنيد فِي تَفْسِيره: عَن حجاج بن مُحَمَّد عَن ابْن جريج قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا: غمام أبرد من هَذَا وَأطيب، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي الله فِيهِ فِي قَوْله: { هَل ينظرُونَ إلاَّ أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام} ( الْبَقَرَة: 210) وَهُوَ الَّذِي جَاءَت فِيهِ الْمَلَائِكَة يَوْم بدر.
قَوْله: ( وأنزلنا عَلَيْكُم الْمَنّ والسلوى) وَفسّر مُجَاهِد: الْمَنّ، بقوله صمغة، والسلوى، بالطير، رَوَاهُ عَنهُ عبد بن حميد عَن شَبابَُة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ، وَعَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانَ الْمَنّ ينزل عَلَيْهِم على الْأَشْجَار فيغدون إِلَيْهِ ويأكلون مِنْهُ مَا شاؤوا،.

     وَقَالَ  عِكْرِمَة: شَيْء يشبه الرب الغليظ، وَعَن السّديّ: إِنَّه الترنجبين،.

     وَقَالَ  الرّبيع بن أنس: الْمَنّ شراب كَانَ ينزل عَلَيْهِم مثل الْعَسَل فيمزجونه بِالْمَاءِ ثمَّ يشربونه،.

     وَقَالَ  وهب بن مُنَبّه: هُوَ خبز الرقَاق مثل الذّرة أَو مثل النقي، وروى ابْن جرير بِإِسْنَادِهِ عَن الشّعبِيّ، قَالَ: عسلكم هَذَا جُزْء من سبعين جُزْءا من الْمَنّ، وَكَذَا قَالَ عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم: إِنَّه الْعَسَل.

وَاخْتلفت عِبَارَات الْمُفَسّرين فِي ( الْمَنّ) وَلكنهَا مُتَقَارِبَة فَمنهمْ من فسره بِالطَّعَامِ، وَمِنْهُم من فسره بِالشرابِ، وَالظَّاهِر وَالله أعلم أَن كل مَا امتن الله بِهِ عَلَيْهِم من طَعَام أَو شراب وَغير ذَلِك مِمَّا لَيْسَ لَهُم فِيهِ عمل وَلَا كد، فالمن الْمَشْهُور إِن أكل وَحده كَانَ طَعَاما، وَإِن مزج مَعَ المَاء كَانَ شرابًا طيبا وَإِن ركب مَعَ غَيره صَار نوعا آخر.
وَأما ( السلوى) فَكَذَلِك اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة: عَن أبي عَبَّاس: السلوى طَائِر شَبيه السمان يأكلوه مِنْهُ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَالشعْبِيّ وَالضَّحَّاك وَالْحسن وَعِكْرِمَة وَالربيع بن أنس، وَعَن وهب: هُوَ طير سمين مثل الْحَمَامَة يَأْتِيهم فَيَأْخُذُونَ مِنْهُ من سبت إِلَى سبت، وَعَن عِكْرِمَة: طير أكبر من العصفور،.

     وَقَالَ  ابْن عَطِيَّة: السلوى طير بِإِجْمَاع الْمُفَسّرين، وَقد غلط الْهُذلِيّ فِي قَوْله: إِنَّه الْعَسَل،.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: دَعْوَى الْإِجْمَاع لَا يَصح لِأَن المؤرخ أحد عُلَمَاء اللُّغَة وَالتَّفْسِير قَالَ: إِنَّه الْعَسَل،.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: السلوى الْعَسَل، قَالُوا: والسلوى جمع بِلَفْظ الْوَاحِد أَيْضا، كَمَا يُقَال: سماني للْوَاحِد وَالْجمع،.

     وَقَالَ  الْخَلِيل: واحده سلوة،.

     وَقَالَ  الْكسَائي: السلوى وَاحِد وَجمعه سلاوي.
قَوْله: ( كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم) أَمر إِبَاحَة وإرشاد وامتنان.
قَوْله: ( وَمَا ظلمونا) الْآيَة، يَعْنِي: أمرناهم بِالْأَكْلِ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ وَأَن يعبدوا فخالفوا وَكفر لظلموا أنفسهم.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: فظلموا بِأَن كفرُوا هَذِه النعم.



[ قــ :4231 ... غــ :4478 ]
- ح دَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ عبْدِ المَلِكِ عنْ عَمْروِ بن حُرَيْثٍ عَن سعِيدٍ بنِ زَيْدٍ رَضِي الله عنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الكَمْأةُ مِن المَنِّ وماؤُها شِفاءٌ لِلْعَيْنِ.


قَالَ الْخطابِيّ: لَا وَجه لإدخال هَذَا الحَدِيث هُنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ المُرَاد من الكمأة فِي الحَدِيث أَنَّهَا نوع من الْمَنّ الْمنزل على بني إِسْرَائِيل، فَإِن ذَلِك شَيْء كَانَ يسْقط عَلَيْهِم كالترنجبين، وَإِنَّمَا المُرَاد أَنَّهَا شَجَرَة تنْبت بِنَفسِهَا من غير استنبات وَلَا مؤونة، ورد عَلَيْهِ: بِأَن فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر فِي هَذَا الْبابُُ من الْمَنّ الَّذِي أنزل على بني إِسْرَائِيل، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَبِهَذَا تظهر الْمُنَاسبَة فِي ذكره هُنَا، وَكَأن الْخطابِيّ لم يطلع على رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن عبد الْملك، فَلذَلِك قَالَ ذَلِك.

وَأَبُو نعيم: بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ هُنَا، وَإِن كَانَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة يروي أَيْضا عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، لِأَن الْغَالِب إِذا أطلق: سُفْيَان عَن عبد الْملك، يكون الثَّوْريّ، وَكَذَا ذكره أَبُو مَسْعُود لما ذكر هَذَا الحَدِيث، وَعَمْرو بن حُرَيْث الْقرشِي المَخْزُومِي وَله صُحْبَة، وَسَعِيد بن زيد ابْن عَمْرو بن نفَيْل الْعَدوي أحد الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى.
وَأخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن غَيره.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الطِّبّ عَن أبي كريب وَغَيره.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَفِي الْوَلِيمَة عَن يحيى بن حبيب وَغَيره وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَغَيره.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطِّبّ عَن مُحَمَّد بن الصَّباح.

قَوْله: ( الكمأة) ، بِفَتْح الْكَاف وَإِسْكَان الْمِيم وَفتح الْهمزَة: وَاحِدهَا كمء، وَعَكسه.
تَمْرَة وتمر، وَهُوَ من النَّوَادِر،.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده: جمع الكمء أكمؤه وكمأة، هَذَا قَول أهل اللُّغَة،.

     وَقَالَ  سِيبَوَيْهٍ: لَيست الكمأة بِجمع، كمء، لِأَن فعلة لَيْسَ مِمَّا يكسر على فعل، وَإِنَّمَا هُوَ إسم الْجمع،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة: كمأة وَاحِدَة وكمأتان وكماء.
وَعَن أبي زيد: أَن الكمأة تكون وَاحِدَة وجمعاً.
وَفِي ( الْجَامِع) : الْجمع الْقَلِيل أكمؤة على أفعل، وَالْجمع الْكثير: كَمَاء،.

     وَقَالَ  صَاحب ( التَّلْوِيح) : الصَّحِيح من هَذَا كُله مَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهٍ، وَذكر عبد اللَّطِيف بن يُوسُف الْبَغْدَادِيّ أَن الكمأة جدرى الأَرْض وَتسَمى بَنَات الرَّعْد، لِأَنَّهَا تكْثر بكثرته وتنفطر عَنْهَا الأَرْض،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة: أول اجتناثها سُقُوط الْجَبْهَة، وَهِي تتطاول إِلَى أَن يَتَحَرَّك الْحر، وكمأة السهل بَيْضَاء رخوة، وَالَّتِي بالآكام سَوْدَاء جَيِّدَة، وَقيل: الكمأة هِيَ الَّتِي إِلَى الغبرة والسواد.
وَفِي ( الْجَامِع) : تخرج بِبَعْض الأَرْض،.

     وَقَالَ  ابْن خالويه فِي كِتَابه: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب من أَسمَاء الكمء إلاَّ الَّذِي أعرفك: الذعلوق والبرنيق والمغرود والفقع والجب وَبَنَات أوبر وَالْعقل والقعيل، بِتَقْدِيم الْقَاف على الْعين، والجباة.
يُقَال: كمأت الأَرْض أخرجت كماءها، وأجبأت أخرجت جباءها وَهِي الكمأة الْحَمْرَاء، والبدأة يُقَال بدئت الأَرْض بِكَسْر الدَّال، وَعَن أبي حنيفَة: الفردة والفراد وعصاقل وقرحان والخماميس، وَلم أسمع لَهَا بِوَاحِد، قَالَه الْفراء: وَعند الْقَزاز: العرجون ضرب من الكمأة قدر شبر أَو دون ذَلِك وَهُوَ طيب مَا دَامَ غضاً، وَالْجمع العراجين، وَالْفطر قَالَ ابْن سيدة: هُوَ ضرب من الكمأة.
قَوْله: ( من الْمَنّ) ، ظَاهره أَن الكمأة من نفس الْمَنّ، وَأَبُو هُرَيْرَة أَخذ بِظَاهِرِهِ على مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث قَتَادَة، قَالَ: حدثت أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: أخذت ثَلَاثَة أكمؤ أَو خَمْسَة أَو سبعا فعصرتهن وَجعلت ماءهن فِي قَارُورَة وكحلت بِهِ جَارِيَة فبرئت،.

     وَقَالَ  ابْن خالويه: يعصر مَاؤُهَا ويخلط بِهِ أدوية ثمَّ يكتحل بِهِ، قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: الصَّحِيح أَنه ينْتَفع بصورتها فِي حَال وبإضافتها فِي أُخْرَى.
وَفِي ( الْجَامِع) لِابْنِ بيطار: هِيَ أصل مستدير لَا ورق وَلَا سَاق لَهَا ولونها إِلَى الْحمرَة مائل تُؤْخَذ فِي الرّبيع وتؤكل نِيَّة ومطبوخة، والغذاء الْمُتَوَلد مِنْهَا أغْلظ من الْمُتَوَلد من القرع وَلَيْسَت بردي، الكيموس، وَهِي فِي الْمعدة الحارة جَيِّدَة لِأَنَّهَا بَارِدَة رطبَة فِي الدرجَة الثَّانِيَة، وأجودها أَشدّهَا تلذذاً وملاساً، وأميلها إِلَى الْبيَاض، والمتخلخلة الرخوة رَدِيئَة جدا، وماؤها يجلو الْبَصَر كحلاً، وَهِي من أصلح أدوية الْعين، وَإِذا رتب بهَا الإثمد واكتحل بِهِ قوى الأجفان، وَزَاد فِي الرّوح الباصرة قُوَّة وحدة، وَيدْفَع عَنْهَا نزُول المَاء.
وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ: أَن الْأَطِبَّاء يَقُولُونَ: إِن أكل الكمأة يجلو الْبَصَر، وَقيل: تُؤْخَذ فتشق وتوضع على الْجَمْرَة حَتَّى يغلي مَاؤُهَا ثمَّ يُؤْخَذ ميل فَيصير فِي ذَلِك الشق وَهُوَ فاتر فيكتحل بِهِ، وَلَا يَجْعَل الْميل فِي مَائِهَا وَهِي بَارِدَة يابسة، وَقيل: أَرَادَ المَاء الَّذِي تنْبت بِهِ وَهُوَ أول مطر ينزل إِلَى الأَرْض فتربى بِهِ الأكحال، وَقيل: إِن كَانَ فِي الْعين حرارة فماؤها وَحده شِفَاء، وَإِن كَانَ لغير ذَلِك فيركب مَعَ غَيره.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: قيل: أَرَادَ أَنَّهَا تَنْفَع من تَأْخُذهُ الْعين الَّتِي هِيَ النظرة، وَذَلِكَ أَن فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث: وماؤها شِفَاء من الْعين، قَالَ: وَقيل: يُرِيد من دَاء الْعين، فَحذف الْمُضَاف،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ فِي قَوْله: ( والكمأة من الْمَنّ) ، مَا ملخصه: أَنه لم يرد بِهِ أَنَّهَا من الْمَنّ الَّذِي أنزل على مُوسَى بني إِسْرَائِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِن الْمَرْوِيّ أَنه شَيْء كَانَ يسْقط عَلَيْهِم كالترنجبين، وَقد ذكرنَا هَذَا فِي أول الحَدِيث، وَالْجَوَاب عَنهُ أَيْضا:.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: قَالَ كَثِيرُونَ: شبهها بالمن الَّذِي أنزل عَلَيْهِم حَقِيقَة، عملا بِظَاهِر اللَّفْظ، وَقيل: معنى قَوْله: ( الكمأة من الْمَنّ) يَعْنِي: مِمَّا من الله على عباده بهَا بإنعامه ذَلِك عَلَيْهِم.