فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الأكل في إناء مفضض

( بابُُُ: { الأَكْلِ فِي إنَاءٍ مُفَضَّضٍ} )

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حُرْمَة الْأكل فِي إِنَّا مفضض، وَهُوَ المرصع بِالْفِضَّةِ يُقَال: لجام مفضض أَي: مرصع بِالْفِضَّةِ وَمَعْنَاهُ: إِنَاء مفضض وإناء متخذ من فضَّة وإناء مضبب بِفِضَّة وإناء مَطْلِي بِالْفِضَّةِ، أما الْإِنَاء المفضض فَيجوز الشّرْب فِيهِ عِنْد أبي حنيفَة إِذا كَانَ يَتَّقِي مَوضِع الْفضة، وَهُوَ أَن يَتَّقِي مَوضِع الْفَم وَمَوْضِع الْيَد، وَكَذَلِكَ الْجُلُوس على السرير المفضض والكرسي المفضض بِهَذَا الشَّرْط.

     وَقَالَ  أَبُو يُوسُف يكره ذَلِك وَبِه قَالَ مُحَمَّد فِي رِوَايَة وَفِي رِوَايَة أُخْرَى مَعَ أبي حنيفَة وَأما الْإِنَاء الْمُتَّخذ من الْفضة فَلَا يجوز اسْتِعْمَاله أصلا لَا بِالْأَكْلِ وَلَا بالشرب وَلَا بالإدهان وَنَحْو ذَلِك للرِّجَال وَالنِّسَاء وَأما الْإِنَاء المضبب بِالْفِضَّةِ أَو الذَّهَب فعلى الْخلاف الْمَذْكُور، والمضبب هُوَ المشدد بِالْفِضَّةِ أَو الذَّهَب وَمِنْه: ضبب أَسْنَانه بِالْفِضَّةِ إِذا شدها، وَأما الْإِنَاء المطلي بِالْفِضَّةِ أَو الذَّهَب فَإِن كَانَ يخلص شَيْء مِنْهَا بالإذابة فَلَا يجوز اسْتِعْمَاله، وَإِن كَانَ لَا يخلص شَيْء فَلَا بَأْس بِهِ عِنْد أَصْحَابنَا.



[ قــ :5133 ... غــ :5426 ]
- حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا سَيْفُ بنُ أبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ مُجاهِدا يَقُولُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ أبِي لَيْلَى أنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَاسْتَسْقَى فَسَقَاهُ مَجوسيٌّ فَلَمَّا وَضَعَ القَدَحَ فِي يَدِهِ رَماهُ بِهِ،.

     وَقَالَ : لَوْلا أنِّي نَهَيْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلا مَرَّتَيْنِ؟ كَأنَّهُ يَقُولُ: لَمْ أفْعَلْ هاذا، وَلاكِنِّي سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُولُ: لَا تَلْبَسُوا الحَرِيرَ وَلا الدِّيباجَ، وَلا تَشْرَبُوا فِي آنِيَّةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلا تَأْكُلُوا فِي صَحَافِها، فَإنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الآخِرَةِ.


قَالَ صَاحب ( التَّلْوِيح) مَا حَاصله: لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة.
لِأَن التَّرْجَمَة فِي إِنَاء مفضض، والْحَدِيث فِي إِنَاء الْمُتَّخذ من الْفضة إلاَّ إِن كَانَ الْإِنَاء الَّذِي سقِِي فِيهِ حُذَيْفَة كَانَ مضببا وَأَن الضبة مَوضِع الشّفة عِنْد الشّرْب فَلهُ وَجه على بعد،.

     وَقَالَ  بَعضهم: أجَاب الْكرْمَانِي بِأَن لفظ: مفضض، وَإِن كَانَ ظَاهرا فِيمَا فِيهِ فضَّة لكنه يَشْمَل مَا كَانَ متخذا كُله من فضَّة.
قلت: فِيهِ نظر لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ بالشمول بِمَعْنى أَنه يُطلق على الْمَعْنيين بِحَسب اللُّغَة فَيحْتَاج إِلَى دَلِيل، وَإِن كَانَ بِحَسب الِاصْطِلَاح بالفقهاء قد فرقوا بَين المفضض والمتخذ من الْفضة،.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: المفضض لَيْسَ بِإِنَاء ذهب وَلَا فضَّة وَلَيْسَ بِحرَام مَا لم يَقع النَّهْي عَنهُ، وَكَذَلِكَ المضبب، وَهُوَ وَجه لبَعض الشَّافِعِيَّة.

وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وَسيف بن أبي سُلَيْمَان، وَيُقَال ابْن سُلَيْمَان المَخْزُومِي،.

     وَقَالَ  يحيى الْقطَّان: كَانَ حَيا سنة خمسين وَمِائَة، وَكَانَ عندنَا ثِقَة مِمَّن يصدق ويحفظ، وروى لَهُ مُسلم أَيْضا، وَحُذَيْفَة هُوَ ابْن الْيَمَان الْعَبْسِي.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَشْرِبَة عَن أبي مُوسَى وَفِي اللبَاس عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَفِي الْأَشْرِبَة أَيْضا عَن حَفْص بن عمر الحوضي، وَفِي اللبَاس أَيْضا عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَأخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن أبي مُوسَى بِهِ وَعَن غَيرهم وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَشْرِبَة عَن حَفْص بن عمر بِهِ وَعَن غَيره وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن بنْدَار بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد وَفِي الْوَلِيمَة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بِهِ وَعَن غَيره.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَشْرِبَة عَن مُحَمَّد بن عبد الْملك وَفِي اللبَاس عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.

قَوْله: ( فَسَقَاهُ مَجُوسِيّ) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث عبد الله بن حَكِيم، قَالَ: كُنَّا مَعَ حُذَيْفَة بِالْمَدَائِنِ فاستسقي حُذَيْفَة فَجَاءَهُ دهقان بشراب فِي إِنَاء من فضَّة فَرَمَاهُ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَن ابْن أبي ليلى يحدث أَن حُذيفة استقى فَأَتَاهُ إِنْسَان بِإِنَاء من فضَّة فَرَمَاهُ بِهِ،.

     وَقَالَ  إِنِّي كنت نهيته فَأبى أَن يَنْتَهِي الحَدِيث.
قَوْله: ( رَمَاه بِهِ) أَي: رمى الْقدح بِالشرابِ أَو رمى الشَّرَاب بالقدح، وَلَيْسَ بإضمار قبل الذّكر لِأَن قَوْله: ( فَاسْتَسْقَى فَسَقَاهُ) يدل عَلَيْهِ ويروى رمى بِهِ.
قَوْله: ( غير مرّة) أَي: لَوْلَا أَنِّي نهيته مرَارًا كَثِيرَة عَن اسْتِعْمَال آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة لما رميت بِهِ وَلَا اكتفيت بالزجر اللساني، لَكِن لما تكَرر النَّهْي بِاللِّسَانِ فَلم ينزجر رميت بِهِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ.
قَوْله: ( كَأَنَّهُ يَقُول) أَي: كَانَ حُذَيْفَة يَقُول: لم أفعل هَذَا أَي: الشّرْب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة، ثمَّ استدرك فِي بَيَان ذَلِك بقوله وَلَكِنِّي سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى آخِره.
قَوْله: ( وَلَا الديباج) .

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير الديباج الثِّيَاب المتخذة من الإبريسم، فَارسي مُعرب، وَقد يفتح داله وَيجمع على: دبابُج ودبايج، بِالْبَاء وَالْيَاء لِأَن أَصله دباج بتَشْديد الْيَاء.
قَوْله: ( فِي صحافها) جمع صَحْفَة وَهِي إِنَاء كالقصعة المبسوطة وَنَحْوهَا.
وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الْفضة وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: صحافهما، وَهَذَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا} ( التَّوْبَة: 34) فَإِذا علم حكم الْفضة يلْزم حكم الذَّهَب مِنْهُ بِالطَّرِيقِ الأولى.
قَوْله: ( لَهُم) أَي: للْكفَّار والسياق يدل عَلَيْهِ.

وَهَذَا الحَدِيث يدل على تَحْرِيم اسْتِعْمَال الْحَرِير والديباج وعَلى حُرْمَة الشّرْب وَالْأكل من إِنَاء الذَّهَب وَالْفِضَّة، وَذَلِكَ للنَّهْي الْمَذْكُور وَهُوَ نهي تَحْرِيم عِنْد كثير من الْمُتَقَدِّمين وَهُوَ قَول الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: إِن النَّهْي فِيهِ كَرَاهَة تَنْزِيه فِي قَوْله الْقَدِيم حَكَاهُ أَبُو عَليّ السنجي من رِوَايَة حَرْمَلَة.