فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب صيد القوس

( بابُُُ: {صَيْدِ القَوْسِ} )

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الصَّيْد بِالْقَوْسِ، والقوس يذكر وَيُؤَنث، فَمن أنثه يَقُول فِي تصغيره، قويسة، وَمن ذكره يَقُول: أَسْفَل قويس وَيجمع على قسي وأقواس وَقِيَاس،.

     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدَة منشدا.

( ووتر الأساود القياسا.
)


والقوس أَيْضا بَقِيَّة التَّمْر فِي الْحلَّة والقوس برج فِي السَّمَاء وَتقول: قست الشَّيْء بِغَيْرِهِ وعَلى غَيره أَقيس قيسا وَقِيَاسًا فانقاس إِذا قدرته على مِثَاله.
وَقَالَ الحَسَنُ وَإبْرَاهِيمُ: إذَا ضَرَبَ صَيْدا فَبَانَ مِنْهُ يَدٌ أوْ رِجْلٌ لَا تَأْكُلُ الَّذِي بَانَ وَتَأْكُلُ سَائِرَهُ} .

قيل: لَا وَجه لإيراد الْأَثر الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الْبابُُ قلت: الْوَجْه لِأَنَّهُ يُمكن ضرب صيد بِسَهْم قَوس فأبان مِنْهُ يَده أَو رجله.
وَالْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ أما أثر الْحسن فَأخْرجهُ ابْن أبي شيبَة عَن هشيم عَن يُونُس عَنهُ فِي رجل ضرف صيدا فأبان مِنْهُ بدا أَو رجلا، وَهُوَ حَيّ ثمَّ مَاتَ تَأْكُله وَلَا تَأْكُل مَا بَان مِنْهُ إلاَّ أَن تضربه فتقطعه فَيَمُوت من سَاعَته فَإِذا كَانَ ذَلِك فلتأكله كُله وَفِي ( الْأَشْرَاف) عَن الْحسن خلاف هَذَا، قَالَ فِي الصَّيْد يقطع مِنْهُ عُضْو، قَالَ: يَأْكُلهُ جَمِيعًا مَا بَان وَمَا بَقِي وَأما أثر إِبْرَاهِيم فَأخْرجهُ ابْن أبي شيبَة أَيْضا: حَدثنَا أَبُو بكر بن عَيَّاش عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة.
قَالَ: إِذا ضرب رجل الصَّيْد فَبَان عُضْو مِنْهُ ترك مَا سقط وَأكل مَا بَقِي، وَإِبْرَاهِيم لما روى هَذَا وَلم يعْتَرض عَلَيْهِ بِشَيْء فَكَأَنَّهُ رضيه.
قَوْله: ( سائره) ، أَي: بَاقِيه، وَقيل: لَا يسْتَعْمل سائره إلاَّ بِمَعْنى جَمِيعه، وَلَيْسَ كَذَلِك بل اللُّغَة الفصيحة أَنه يسْتَعْمل بِمَعْنى بَاقِيه قلَّ الْبَاقِي أَو كثر.

{وَقَالَ إبْرَاهِيمُ إذَا ضَرَبْتَ عُنُقَهُ أوْ وَسَطَهُ فَكُلْهُ} .

أَي: قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ.
قَوْله: ( أَو وَسطه) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة لِأَنَّهُ اسْم لِمَعْنى مَا بَين طرفِي الشَّيْء كمركز الدائرة، وبالسكون اسْم مُبْهَم لداخل الدائرة.

{وَقَالَ الأعْمَشُ عَنْ زَيْدٍ: اسْتَعْصَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ آلِ عَبْدِ الله حِمارٌ فَأمَرَهُمْ أنْ يَضْرِبُوهُ حَيْثُ تَيَسَّرَ، دَعُوا مَا سَقَطَ مِنْهُ وَكُلُوهُ} .

الْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَزيد هُوَ ابْن وهب، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو بكر بن أبي شيبَة عَن عِيسَى بن يُونُس عَن الْأَعْمَش عَن زيد بن وهب قَالَ: سُئِلَ ابْن مَسْعُود عَن رجل ضرب رجل حمَار وَحشِي فقطعها فَقَالَ: دعوا سقط وذكوا مَا بَقِي وكلوه، وَحَكَاهُ ابْن أبي شيبَة أَيْضا عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من حَدِيث الْحَارِث عَنهُ، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَعَطَاء: لَا تَأْكُل الْعُضْو وذَكِ، الصَّيْد وَكله.
.

     وَقَالَ  عِكْرِمَة: إِن عدا حَيا بعد سُقُوط الْعُضْو مِنْهُ فَلَا تَأْكُل الْعُضْو، وذِك الصَّيْد وَكله، وَإِن مَاتَ حِين ضرب فكله كُله وَبِه قَالَ قَتَادَة وَأَبُو ثَوْر وَالشَّافِعِيّ: كَذَلِك قَالَ: إِذا كَانَ لَا يعِيش بعد ضَرْبَة سَاعَة أَو مُدَّة أَكثر مِنْهَا وَفِي التَّمْهِيد عَن مَالك إِن قطع عضوه لَا يُؤْكَل الْعُضْو وَأكل الْبَاقِي.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي إِن قطع قطعتين أكله وَإِن كَانَت إِحْدَاهمَا أقل من الْأُخْرَى إِذا مَاتَ من تِلْكَ الضَّرْبَة.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري: إِذا قطعه نِصْفَيْنِ أكلا جَمِيعًا وَإِن قطع الثُّلُث فَإِن كَانَ مِمَّا يَلِي الرَّأْس أكله جَمِيعه، وَإِن كَانَ من الَّذِي يَلِي الْعَجز أكل الثُّلثَيْنِ مِمَّا يَلِي الرَّأْس وَلَا يَأْكُل الثُّلُث الَّذِي يَلِي الْعَجز.



[ قــ :5184 ... غــ :5478 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يَزِيدَ حدَّثنا حَيْوَةُ، قَالَ: أخْبَرَنِي رَبِيعَةُ بنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ أبِي إدْرِيس عَنْ أبِي ثَعْلَبَةَ الخُشْنِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله {إنَّا بِأرْضِ قَوْمٍ مِنْ أهْلِ الكِتَابِ، أفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ} وَبِأرْضِ صَيْد أصِيدُ بِقَوْسِي وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُسْلِمٍ وَبِكَلْبِي المُسْلِّم، فَمَا يَصْلُحُ لِي؟ قَالَ: أمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أهْلِ الكِتابِ؟ فَإنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَها فَلا تَأْكُلُوا فِيها، وَإنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوها وَكُلُوا فِيهَا، وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَذَكَرْت اسْمَ الله فَكُلْ، وَما صِدْتَ بِكَلْبِكَ المُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ الله فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ مُعلِّمٍ فَأدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبد الله بن يزِيد من الزِّيَادَة الْمقري، وحيوة ابْن شُرَيْح.
مصغر شرح بالشين الْمُعْجَمَة وَالرَّاء الْمصْرِيّ أَبُو زرْعَة، وَرَبِيعَة بن يزِيد من الزِّيَادَة الدِّمَشْقِي الْقصير، وَأَبُو إِدْرِيس عَائِذ الله بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة الْخَولَانِيّ، وَأَبُو ثَعْلَبَة بِلَفْظ الْحَيَوَان الْمَشْهُور الْخُشَنِي بِضَم الْخَاء وَفتح الشين المعجمتين وبالنون نِسْبَة إِلَى خشين بن النمر بن وبرة بن ثَعْلَب ابْن حلوان بن عمرَان بن الحاف بن قضاعة.
وَفِي اسْمه وَاسم أَبِيه خلاف، وَالْأَكْثَر على أَنه: جرهم بِضَم الْجِيم وَالْهَاء وَسُكُون الرَّاء، ابْن ناشم بالنُّون وَكسر الشين الْمُعْجَمَة وَهُوَ من الْمُبَايِعين تَحت الشَّجَرَة مَاتَ سنة خمس وَسبعين.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الذَّبَائِح عَن أبي عَاصِم فِي موضِعين مِنْهُ على مَا يَجِيء وَعَن أَحْمد بن أبي رَجَاء وَأخرجه مُسلم فِي الصَّيْد عَن هناد وَغَيره وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن هناد بِقصَّة الْكَلْب وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي السّير عَن هناد بِقصَّة الْآنِية.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّيْد عَن مُحَمَّد بن عبيد بِقصَّة الْقوس وَالْكَلب.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى بِتَمَامِهِ.
قَوْله: ( أَنا بِأَرْض قوم) يَعْنِي: بِالشَّام وَكَانَت جمَاعَة من قبائل الْعَرَب سكنوا الشَّام وَتنصرُوا مِنْهُم آل غَسَّان وتنوخ وبهراء وبطون من قضاعة.
مِنْهُم: بَنو خشين من آل أبي ثَعْلَبَة قَوْله: ( فِي آنيتهم) جمع إِنَاء وَفِي ( الْمغرب) الْإِنَاء وعَاء المَاء، وَجمع التقليل آنِية والتكثير: الْأَوَانِي.
وَنَظِيره سوار وأسورة وأساور.

واستغتى أَبُو ثَعْلَبَة الْمَذْكُور رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من مَسْأَلَتَيْنِ.

الأولى: عَن الْأكل فِي آنِية أهل الْكتاب فَأجَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: ( فَإِن وجدْتُم غَيرهَا) أَي: غير آنِية أهل الْكتاب فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِلَّا فاغسلوها وكلوا فِيهَا.
وَهَذَا التَّفْصِيل يَقْتَضِي كَرَاهَة اسْتِعْمَالهَا إِن وجد غَيرهَا مَعَ أَن الْفُقَهَاء قَالُوا بِجَوَاز اسْتِعْمَالهَا بعد الْغسْل بِلَا كَرَاهَة سَوَاء وجد غَيرهَا أَو لَا وَأجِيب أَن المُرَاد النَّهْي عَن الْآنِية الَّتِي يطبخون فِيهَا لُحُوم الْخَنَازِير وَيَشْرَبُونَ فِيهَا الْخُمُور، وَإِنَّمَا نهى عَنْهَا بعد الْغسْل للاستقذار وَكَونهَا معدة للنَّجَاسَة، وَمُرَاد الْفُقَهَاء أواني الْكفَّار الَّتِي لَيست مستعملة فِي النَّجَاسَات غَالِبا.
قلت: التَّحْقِيق فِي هَذَا أَن فِي حَدِيث أبي ثَعْلَبَة هَذَا تَرْجِيح الظَّاهِر على الأَصْل لِأَن الأَصْل فِي آنِية أهل الْكتاب وَالْمَجُوس الطَّهَارَة، وَمَعَ هَذَا فقد أَمر بغسلها عِنْد عدم وجود غَيرهَا.
وَالصَّحِيح أَن الحكم للْأَصْل حَتَّى تتَحَقَّق النَّجَاسَة ثمَّ يحْتَاج إِلَى الْجَواب عَن الحَدِيث فَأُجِيب بجوابين: أَحدهمَا: أَن الْأَمر بِالْغسْلِ للِاحْتِيَاط والاستحبابُ.
وَالثَّانِي: أَن المُرَاد بِالْحَدِيثِ حَالَة تحقق نجاستها، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: إِنَّا نجاور أهل الْكتاب وهم يطبخون فِي قدورهم الْخِنْزِير وَيَشْرَبُونَ فِي آنيتهم الْخمر فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِن وجدْتُم غَيرهَا فَكُلُوا فِيهَا وَاشْرَبُوا وَإِن لم تَجدوا غَيرهَا فاغسلوها بِالْمَاءِ وكلوا وَاشْرَبُوا) .
فَافْهَم.

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: عَن الصَّيْد بِالْقَوْسِ وبالكلب الْمعلم وَغير الْمعلم فَأجَاب بقوله: ( وَمَا صدت) إِلَى آخر.

وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَحْكَام.

الأول: فِيهِ جَوَاز الصَّيْد بِالْقَوْسِ إِذا ذكر اسْم الله عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن أَعْرَابِيًا يُقَال لَهُ: أَبُو ثَعْلَبَة، قَالَ: يَا رَسُول الله! إِن لي كلابا معلمة الحَدِيث، وَفِيه: افتني فِي قوسي، قَالَ: كل مَا ردَّتْ عَلَيْك قوسك ذكيا وَغير ذكي، قَالَ: وَإِن تغيب عني؟ قَالَ: وَإِن تغيب عَنْك مَا لم يصل أَو تَجِد فِيهِ أثر غير سهمك.
قَوْله: ( مَا لم يصل) بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة وَاللَّام الثَّقِيلَة أَي: مَا لم ينتن.

الثَّانِي: وجوب اشْتِرَاط التَّسْمِيَة، وَقد مرت مباحثها عَن قريب.

الثَّالِث: أَن الْكَلْب لَا بُد أَن يكون معلما؟ فَإِذا صَاد بكلبه الْمعلم وَذكر اسْم الله عِنْد الْإِرْسَال فَإِنَّهُ يُؤْكَل، وَإِذا صَاد بكلب غير معلم فَإِن أدْرك ذَكَاته يذكى ويؤكل، وإلاَّ فَلَا يُؤْكَل.

الرَّابِع: أَن ذكر الْكَلْب مُطلقًا يتَنَاوَل أَي لون كَانَ أَبيض أَو أسود أَو أَحْمَر، فَيجوز بِأَيّ لون كَانَ، وَفِيه حجَّة على أَحْمد حَيْثُ لَا يجوز بالكلب الْأسود، وَإِن كَانَ معلما.

الْخَامِس: أَن فِيهِ شرطين: كَون معلما.
وَالتَّسْمِيَة فَإِذا أرسل كَلْبا غير معلم أَو أرسل معلما بِغَيْر تَسْمِيَة، أَو وجد كَلْبا قد صَاد من غير إرْسَال فَلَا يحل صَيْده إِلَّا بِأَن يُدْرِكهُ وَفِيه حَيَاة مُسْتَقِرَّة ثمَّ يذكيه.