فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الصلاة على الحصير

( بابُُ الصَّلاةِ عَلَى الحَصِيرِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان الصَّلَاة على الْحَصِير، يَعْنِي جَائِزَة، والحصير، بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ.
وَذكر ابْن سَيّده فِي ( الْمُحكم) و ( الْمُحِيط) الْأَعْظَم: أَنَّهَا سفيفة تصنع من بردى وأسل، ثمَّ تفرش، سمي بذلك لِأَنَّهُ على وَجه الأَرْض، وَوجه الأَرْض يُسمى حَصِيرا، والسفيفة، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وبالفاءين: شَيْء يعْمل من الخوص كالزنبيل؛ والأسل، بِفَتْح الْهمزَة وَالسِّين الْمُهْملَة وَفِي آخِره لَام.
نَبَات لَهُ أَغْصَان كَثِيرَة دقاق لَا ورق لَهَا.
وَفِي ( الجمهرة) : والحصير عَرَبِيّ، سمي حَصِيرا لانضمام بَعْضهَا إِلَى بعض.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: الْحَصِير البارية.

فَإِن قلت: مَا الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبابُُ وَالْبابُُ الَّذِي قبله؟ قلت: قد ذكرت عِنْد قَوْله: بابُُ عقد الْإِزَار على الْقَفَا، أَن الْأَبْوَاب الْمُتَعَلّقَة بالثياب سَبْعَة عشر بابُُا، والمناسبة بَينهَا ظَاهِرَة، غير أَنه تخَلّل بَين هَذِه الْأَبْوَاب خَمْسَة أَبْوَاب لَيْسَ لَهَا تعلق بِأَحْكَام الثِّيَاب، وَقد ذكرنَا وَجه تخللها والمناسبة بَينهَا هُنَاكَ فَارْجِع إِلَيْهِ تظفر بجوابك.

وَصَلَّى جابِرٌ وَأَبُو سَعِيدٍ فِي السَّفِينَةِ قائِماً.

الْكَلَام فِيهِ من وُجُوه.

الأول فِي مَعْنَاهُ: وَاسم أبي سعيد: سعد بن مَالك الْخُدْرِيّ.
قَوْله: ( فِي السَّفِينَة) هِيَ: الْفلك لِأَنَّهَا تسفن وَجه المَاء أَي تقشره، فعيلة بِمَعْنى فاعلة، وَالْجمع سفائن وسفن وسفين.
قَوْله: ( قيَاما) جمع قَائِم وَأَرَادَ بِهِ التَّثْنِيَة أَي: قَائِمين، نصب على الْحَال وَفِي بعض النّسخ: قَائِما، بِالْإِفْرَادِ بِتَأْوِيل كل مِنْهُمَا قَائِما.

الثَّانِي: أَن هَذَا تَعْلِيق وَصله أَبُو بكر بن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح: عَن عبيد ابْن أبي عتبَة مولى أنس، قَالَ: ( سَافَرت مَعَ أبي الدَّرْدَاء وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَجَابِر بن عبد اوأناس قد سماهم، قَالَ: فَكَانَ إمامنا يُصَلِّي بِنَا فِي السَّفِينَة قَائِما، وَنُصَلِّي خَلفه قيَاما، وَلَو شِئْنَا لأرفينا) .
أَي: لأرسينا.
يُقَال أرسى السَّفِينَة بِالسِّين الْمُهْملَة، وأرفى، بِالْفَاءِ: إِذا وقف بهَا على الشط.
وَالْبُخَارِيّ اقْتصر هُنَا على ذكر الْإِثْنَيْنِ، وهما: جَابر وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي اتعالى عَنْهُمَا.

الثَّالِث: فِي وَجه مُنَاسبَة إِدْخَال هَذَا الْأَثر فِي بابُُ الصَّلَاة على الْحَصِير، فَقَالَ ابْن الْمُنِير: لِأَنَّهُمَا اشْتَركَا فِي الصَّلَاة على غير الأَرْض لِئَلَّا يتخيل أَن مُبَاشرَة الْمُصَلِّي الأَرْض شَرط من، قَوْله: عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِمعَاذ رَضِي اتعالى عَنهُ: ( عفر وَجهك فِي التُّرَاب) .
قلت: ثمَّة وَجه أقوى مِمَّا ذكره فِي الْمُنَاسبَة وَهُوَ أَن هَذَا الْبابُُ فِي الصَّلَاة على الْحَصِير، وَفِي الْبابُُ الَّذِي قبله: وَكَانَ يُصَلِّي على الْخمْرَة، وكل وَاحِد من الْحَصِير والخمرة يعْمل من سعف النّخل، وَيُسمى: سجادة، والسفينة أَيْضا مثل السجادة على وَجه المَاء، فَكَمَا أَن الْمُصَلِّي يسْجد على الْخمْرَة والحصير دون الأَرْض، فَكَذَلِك الَّذِي يُصَلِّي فِي السَّفِينَة يسْجد على غير الأَرْض.

الرَّابِع فِي استنباط الحكم مِنْهُ: وَهُوَ أَن الصَّلَاة فِي السَّفِينَة إِنَّمَا تجوز: إِذا كَانَ قَائِما.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة: تجوز قَائِما وَقَاعِدا بِعُذْر وَبِغير عذر.
وَبِه قَالَ الْحسن بن مَالك وَأَبُو قلَابَة وَطَاوُس، روى عَنهُ ابْن أبي شيبَة، وروى أَيْضا عَن مُجَاهِد أَن جُنَادَة بن أبي أُميَّة قَالَ: ( كُنَّا نغزو مَعَه لَكنا نصلي فِي السَّفِينَة قعُودا) ، أَو لِأَن الْغَالِب دوران الرَّأْس فَصَارَ كالمحقق، وَالْأولَى أَن يخرج إِن اسْتَطَاعَ الْخُرُوج مِنْهَا،.

     وَقَالَ  أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: لَا تجوز قَاعِدا إلاَّ من عذر، لِأَن الْقيام ركن فَلَا يتْرك إلاَّ من عذر، وَالْخلاف فِي غير المربوطة، فَلَو كَانَت مربوطة لم تجز قَاعِدا إِجْمَاعًا.
وَقيل: تجوز عِنْده فِي حالتي الإجراء والإرساء وَيلْزمهُ التَّوَجُّه عِنْد الِافْتِتَاح كلما دارت السَّفِينَة لِأَنَّهَا فِي حَقه كالبيت، حَتَّى لَا يتَطَوَّع فِيهَا مومياً مَعَ الْقُدْرَة على الرُّكُوع وَالسُّجُود، بِخِلَاف رَاكب الدَّابَّة.

وَقَالَ الحَسَنُ تُصلِّي قائِماً مَا لَمْ تَشُقَّ على أصْحَابِكَ تَدُورُ مَعَها وَإِلَّا فَقاعِداً.

الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح: حدّثنا حَفْص عَن عَاصِم عَن الشّعبِيّ، وَالْحسن وَابْن سِيرِين أَنهم قَالُوا: صل فِي السَّفِينَة قَائِما.
.

     وَقَالَ  الْحسن: لَا تشق على أَصْحَابك، وَفِي رِوَايَة الرّبيع بن صبيح: أَن الْحسن ومحمداً قَالَا: يصلونَ فِيهَا قيَاما جمَاعَة، ويدورون مَعَ الْقبْلَة حَيْثُ دارت.
وَالْبُخَارِيّ اقْتصر على الذّكر عَن الْحسن.
قَوْله: ( تصلي) خطاب لمن سَأَلَهُ عَن الصَّلَاة فِي السَّفِينَة: هَل يُصَلِّي قَائِما أَو قَاعِدا؟ فَأجَاب لَهُ: ( تصلي قَائِما) أَي: حَال كونك قَائِما ( مَا لم تشق على أَصْحَابك تَدور مَعهَا) أَي: مَعَ السَّفِينَة.
قَوْله: ( وإلاَّ) أَي؛ وَإِن شقّ على أَصْحَابك الْقيام فقاعداً، أَي: فصل حَال كونك قَاعِدا، لِأَن الْحَرج مَدْفُوع.



[ قــ :376 ... غــ :380]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قالَ أخْبرنا مالكٌ عنْ إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أبي طَلْحَةَ عَنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ أنَّ جَدَّتَهُ مُليْكَةَ دَعَتْ رسولَ اللَّهِ لَطَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: ( قُومُوا فَلأضلِّيَ لَكُمْ) قَالَ أنَسٌ فَقمْتُ إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ فَقَامَ رَسولُ الله وَصَفَفْتُ واليَتِيمَ وَرَاءَهُ وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا فَصَّلَى لَنا رَسولُ الله رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ.
( الحَدِيث 083 أَطْرَافه فِي: 727، 068، 178، 478، 4611) .


مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: عبد ابْن يُوسُف التنيسِي، وَالْإِمَام مَالك بن أنس وَإِسْحَاق بن عبد ابْن أبي طَلْحَة، وَرُبمَا يُقَال إِسْحَاق بن أبي طَلْحَة، بنسبته إِلَى جده، وَاسم أبي طَلْحَة: زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ النجاري، وَكَانَ مَالك لَا يقدم على إِسْحَاق أحد فِي الحَدِيث، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة.
وَالرَّابِع: أنس بن مَالك خَادِم النَّبِي.
وَالْخَامِس: جدته مليكَة، بِضَم الْمِيم، والآن يَأْتِي بَيَانهَا مفصلا.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين وَفِيه: عَن إِسْحَاق بن عبد ابْن أبي طَلْحَة، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والحموي: عَن إِسْحَاق بن أبي طَلْحَة بنسبته إِلَى جده.
وَفِيه: الِاخْتِلَاف فِي الضَّمِير الَّذِي فِي جدته.
فَقَالَ ابْن عبد الْبر وَعبد الْحق وعياض يعود على إِسْحَاق، وَصَححهُ النَّوَوِيّ، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حدّثنا مُسلم بن إِبْرَاهِيم حدّثنا الْمثنى بن سعيد حدّثنا قَتَادَة عَن أنس بن مَالك: ( أَن النَّبِي كَانَ يزور أم سليم فَتُدْرِكهُ الصَّلَاة أَحْيَانًا فَيصَلي على بِسَاط لنا، وَهُوَ حَصِير ننضحه بِالْمَاءِ) .
وَأم سليم هِيَ: أم أنس، وَأمّهَا مليكَة بنت مَالك بن عدي، وَهِي جدة أنس.
وَاخْتلف فِي اسْم: أم سليم، فَقيل: سهلة.
وَقيل: رميلة.
وَقيل: رميثة.
وَقيل: الرميصاء.
وَقيل: الغميصاء.
وَقيل: أنيفة، بالنُّون وَالْفَاء مصغرة، وَتزَوج أم سليم: مَالك بن النَّضر فَولدت لَهُ أنس بن مَالك، ثمَّ خلف عَلَيْهَا أَبُو طَلْحَة فَولدت لَهُ: عبد اوأبا عُمَيْر، وَعبد اهو وَالِد إِسْحَاق، رَاوِي هَذَا الحَدِيث عَن عَمه أخي أَبِيه لأمه: أنس بن مَالك.
.

     وَقَالَ  ابْن سعد وَابْن مَنْدَه وَابْن الْحصار: يعود الضَّمِير فِي جدته على أنس نَفسه، وَيُؤَيِّدهُ مَا ذكره أَبُو الشَّيْخ الْأَصْبَهَانِيّ فِي الْحَادِي عشر من ( فَوَائِد الْعِرَاقِيّين) : حدّثنا أَبُو بكر مُحَمَّد بن جَعْفَر، قَالَ؛ حدّثنا مقدم بن مُحَمَّد بن يحيى عَن عَمه الْقَاسِم بن يحيى عَن عبيد ابْن عمر عَن إِسْحَاق بن أبي طَلْحَة، عَن أنس، قَالَ: ( أرْسلت، جدتي إِلَى النَّبِي وَاسْمهَا مليكَة فجاءنا فَحَضَرت الصَّلَاة فَقُمْت إِلَى حَصِير لنا) الحَدِيث.
وَلَا تنَافِي بَين كَون مليكَة جدة أنس، وَبَين كَونهَا جدة إِسْحَاق.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَعَن أبي نعيم وَعَن عبد ابْن مُحَمَّد المسندي.
وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن يحيى، وَأَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي، وَالتِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن بن عِيسَى، وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة.

ذكر اخْتِلَاف أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث: وَعند مُسلم: ( فَرُبمَا تحضر الصَّلَاة وَهُوَ فِي بيتنا، فيأمر بالبساط الَّذِي تَحْتَهُ فيكنس ثمَّ ينضح، ثمَّ يؤم رَسُول الله فنقوم خَلفه، وَكَانَ بساطهم من جريد النّخل) .
وَعند ابْن أبي شيبَة: عَن أنس بن مَالك، قَالَ: ( صنع بعض عمومتي للنَّبِي طَعَاما، فَقَالَ إِنِّي أحب أَن تَأْكُل فِي بَيْتِي وَتصلي فِيهِ.
قَالَ: فَأَتَاهُ وَفِي الْبَيْت فَحل من تِلْكَ الفحول، فَأمر بِجَانِب مِنْهُ فكنس.
ورش فصلى فصلينا مَعَه)
.
وَعند النَّسَائِيّ: ( أَن أم سليم سَأَلت رَسُول الله أَن يَأْتِيهَا فَيصَلي فِي بَيتهَا فتتخذه مصلى، فَأَتَاهَا فعمدت إِلَى حَصِير فنضحته فصلى عَلَيْهِ، وصلينا مَعَه) .
وَفِي ( الغرائب) للدارقطني: عَن أنس، قَالَ: ( صنعت مليكَة طَعَاما لرَسُول الله فَأكل مِنْهُ وَأَنا مَعَه، ثمَّ دَعَا بِوضُوء فَتَوَضَّأ، ثمَّ قَالَ لي: قُم فَتَوَضَّأ وَمر الْعَجُوز فلتتوضأ وَمر هَذَا الْيَتِيم فَليَتَوَضَّأ.
فلأصلي لكم.
قَالَ: فعمدت إِلَى حَصِير عندنَا خلق قد اسود)
.
وَفِي رِوَايَة: ( قِطْعَة حَصِير عندنَا خلق) .
وَفِي ( سنَن الْبَيْهَقِيّ) من حَدِيث أبي قلَابَة: عَن أنس ( أَن النَّبِي، كَانَ يَأْتِي أم سليم يقيل عِنْدهَا، وَكَانَ يُصَلِّي على نطع، وَكَانَ كثير الْعرق فتتبع الْعرق من النطع فتجعله فِي الْقَوَارِير مَعَ الطّيب، وَكَانَ يُصَلِّي على الْخمْرَة) .
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: ( لطعام) أَي: لأجل طَعَام،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَهُوَ مشْعر بِأَن مَجِيئه كَانَ لذَلِك لَا ليُصَلِّي بهم ليتخذوا مَكَان صلَاته مصلى لَهُم، كَمَا فِي قصَّة عتْبَان بن مَالك الْآتِيَة، وَهَذَا هُوَ السِّرّ فِي كَونه بَدَأَ فِي قصَّة عتْبَان بِالصَّلَاةِ قبل الطَّعَام، وَهَهُنَا بِالطَّعَامِ قبل الصَّلَاة، فَبَدَأَ فِي كل مِنْهُمَا بِأَصْل مَا دعِي لَهُ.
قلت: لَا مَانع فِي الْجمع بَين الدُّعَاء للطعام وَبَين الدُّعَاء للصَّلَاة، وَلِهَذَا صلى رَسُول الله فِي هَذَا الحَدِيث، وَالظَّاهِر أَن قصد مليكَة من دعوتها كَانَ للصَّلَاة، وَلكنهَا جعلت الطَّعَام مُقَدّمَة لَهَا.
وَقَوله: وَهَذَا هُوَ السِّرّ إِلَى آخِره، فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن الطَّعَام كَانَ قد حضر وتهيأ فِي دَعْوَة مليكَة، وَالطَّعَام إِذا حضر لَا يُؤَخر فَيقدم على الصَّلَاة، وَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ فِي قصَّة عتْبَان لعدم حُضُور الطَّعَام.

قَوْله: ( فنضحته) من النَّضْح وَهُوَ الرش، وَذَلِكَ إِمَّا لأجل تلبين الْحَصِير، أَو لإِزَالَة الأوساخ مِنْهُ لِأَنَّهُ أسود من كَثْرَة الِاسْتِعْمَال.
وَقَوله: ( من طول مَا لبس) كِنَايَة عَنْهَا وأصل هَذِه الْمَادَّة تدل على مُخَالطَة ومداخلة، وَلَيْسَ هَهُنَا: لبس، من: لبست الثَّوْب، وَإِنَّمَا هُوَ من قَوْلهم: لبست امْرَأَة، أَي: تمتعت بهَا زَمَانا، فحينئذٍ يكون مَعْنَاهُ: قد اسود من كَثْرَة مَا تمتّع بِهِ طول الزَّمَان، وَمن هَذَا يظْهر لَك بطلَان قَول بَعضهم، وَقد اسْتدلَّ بِهِ على منع افتراش الْحَرِير لعُمُوم النَّهْي عَن لبس الْحَرِير، وَقصد هَذَا الْقَائِل الغمز فِيمَا قَالَ أَبُو حنيفَة من جَوَاز افتراش الْحَرِير وتوسده، وَلَكِن الَّذِي يدْرك دقائق الْمعَانِي ومدارك الْأَلْفَاظ الْعَرَبيَّة يعرف ذَلِك، ويقر بِأَن أَبَا حنيفَة لَا يذهب إِلَى شَيْء سدىً.
قَوْله: ( واليتيم) ، هُوَ ضميرَة بن أبي ضميرَة، وَأَبُو ضمير مولى رَسُول ا، كَذَا قَالَه الذَّهَبِيّ فِي ( تَجْرِيد الصَّحَابَة) ، ثمَّ قَالَ: لَهُ ولأبيه صُحْبَة.
.

     وَقَالَ  فِي ( الكنى) أَبُو ضميرَة مولى رَسُول ا، كَانَ من حمير، اسْمه سعد، وَكَذَا قَالَ البُخَارِيّ: إِن اسْمه سعد الْحِمْيَرِي من آل ذِي يزن،.

     وَقَالَ  أَبُو حَاتِم: سعيد الْحِمْيَرِي هُوَ جد حُسَيْن بن عبد ابْن ضميرَة بن أبي ضميرَة.
انْتهى.
وَيُقَال: اسْم أبي ضميرَة: روح بن سندر، وَقيل: روح بن شيرزاد؛ وضميرة، بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الرَّاء فِي آخِره هَاء.
قَوْله: ( والعجوز) هِيَ: مليكَة الْمَذْكُورَة أَولا.
قَوْله: ( ثمَّ انْصَرف) أَي: من الصَّلَاة، وَذهب إِلَى بَيته.

ذكر إعرابه: قَوْله: ( صَنعته) جملَة فعلية فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة لطعام.
قَوْله: ( فلأصلي لكم) فِيهِ سِتَّة أوجه من الْإِعْرَاب.
الأول: فلأصلي، بِكَسْر اللَّام وَضم الْهمزَة وَفتح الْيَاء، وَوَجهه أَن اللَّام فِيهِ.
لَام كي، وَالْفِعْل بعْدهَا مَنْصُوب: بِأَن، الْمقدرَة تَقْدِيره: فَلِأَن أُصَلِّي.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: روينَاهُ كَذَا، و: الْفَاء، زَائِدَة، أَو: الْفَاء، جَوَاب الْأَمر، ومدخول: الْفَاء، مَحْذُوف تَقْدِيره: قومُوا فقيامكم لأصلي لكم.
وَيجوز أَن تكون: الْفَاء، زَائِدَة على رَأْي الْأَخْفَش، وَاللَّام مُتَعَلق: بقوموا.
الْوَجْه الثَّانِي: فلأصلي، مثلهَا إِلَّا أَنَّهَا سَاكِنة الْيَاء، وَوَجهه أَن تسكين الْيَاء الْمَفْتُوحَة للتَّخْفِيف فِي مثل هَذَا لُغَة مَشْهُورَة.
الثَّالِث: فلأصلِّ: بِحَذْف الْيَاء، لكَون اللَّام لَام الْأَمر، وَهِي رِوَايَة الْأصيلِيّ.
الرَّابِع: فأصلي، على صِيغَة الْإِخْبَار عَن نَفسه، وَهُوَ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: فَأَنا أُصَلِّي، وَالْجُمْلَة جَوَاب الْأَمر.
الْخَامِس: فلنصل؛ بِكَسْر اللَّام فِي الأَصْل وبنون الْجمع، وَوَجهه أَن: اللَّام، لَام الْأَمر، وَالْفِعْل مجزوم بهَا وعلامة الْجَزْم سُقُوط الْيَاء.
السَّادِس: فلأصلي، بِفَتْح اللَّام، وَرُوِيَ هَكَذَا فِي بعض الرِّوَايَات، وَوَجهه: أَن تكون: اللَّام، لَام الِابْتِدَاء للتَّأْكِيد، أَو تكون جَوَاب قسم مَحْذُوف، و: الْفَاء، جَوَاب شَرط مَحْذُوف تَقْدِيره: إِن قُمْتُم فوا لأصلي لكم.

قَوْله: ( فصففت أَنا واليتيم) كَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: ( فصففت واليتيم) ، بِغَيْر لفظ، أَنا، وَفِي مثل هَذَا خلاف بَين الْبَصرِيين والكوفيين، فَعِنْدَ الْبَصرِيين لَا يعْطف على الضَّمِير الْمَرْفُوع، إلاَّ بعد أَن يُؤَكد بضمير مُنْفَصِل ليحسن الْعَطف على الضَّمِير الْمَرْفُوع الْمُتَّصِل، بارزاً كَانَ أَو مستتراً.
كَقَوْلِه تَعَالَى: { اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة} ( الْبَقَرَة: 53، والأعراف: 91) وَعند الْكُوفِيّين: يجوز ذَلِك بِدُونِ التَّأْكِيد، وَالْأول هُوَ الْأَفْصَح.
قَوْله: ( واليتيم) يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فَلِأَنَّهُ مَعْطُوف على الضَّمِير الْمَرْفُوع.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: بِالنّصب، وَلَو صَحَّ رِوَايَة الرّفْع فَهُوَ مُبْتَدأ و: وَرَاء، خَبره، وَالْجُمْلَة حَال.
قلت: وَجه النصب هُوَ أَن تكون: الْوَاو، فِيهِ: وَاو المصاحبة، وَالتَّقْدِير: فصففت أَنا مَعَ الْيَتِيم.
قَوْله: ( والعجوز من وَرَائِنَا) جملَة إسمية وَقعت حَالا.
وَفِي حَالَة الرّفْع تكون مَعْطُوفًا.
فَافْهَم.
قَوْله: ( فصلى) أَي، النَّبِي: ( لنا) ، أَي: لأجلنا.

ذكر استنباط الْأَحْكَام: فِيهِ: إِجَابَة الدعْوَة وَإِن لم تكن وَلِيمَة عرس وَالْأكل من طعامها.
وَفِيه: جَوَاز النَّافِلَة جمَاعَة.
فَإِن قلت: قد جَاءَ فِي رِوَايَة أبي الشَّيْخ الْحَافِظ: ( فَحَضَرت الصَّلَاة) .
قلت: لَا يلْزم من حُضُور وَقت الصَّلَاة أَن صلَاته فِي بَيت مليكَة كَانَت للْفَرض، أَلاَ ترى أَن فِي رِوَايَة مُسلم: ( قومُوا فلأصلي لكم) ، فِي غير وَقت صَلَاة، فصلى بِنَا فَإِن قلت: قد جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى لمُسلم: ( فَرُبمَا تحضر الصَّلَاة وَهُوَ فِي بيتنا) .
قلت: الْجَواب مَا ذَكرْنَاهُ الْآن، وَمَعَ هَذَا كره أَصْحَابنَا وَجَمَاعَة آخَرُونَ التَّنَفُّل بِالْجَمَاعَة فِي غير رَمَضَان.
.

     وَقَالَ  ابْن حبيب، عَن مَالك: لَا بَأْس أَن يَفْعَله النَّاس الْيَوْم فِي الْخَاصَّة من غير أَن يكون مشتهراً، مَخَافَة أَن يَظُنهَا الْجُهَّال من الْفَرَائِض.

وَفِيه: أَن الْأَفْضَل أَن تكون النَّوَافِل فِي الْبَيْت لِأَن الْمَسَاجِد تبنى لأَدَاء الْفَرَائِض.

وَفِيه: الصَّلَاة فِي دَار الدَّاعِي وتبركه بهَا،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَلَعَلَّه أَرَادَ تَعْلِيم أَفعَال الصَّلَاة مُشَاهدَة مَعَ تبركهم، فَإِن الْمَرْأَة قَلما تشاهد أَفعاله فِي الْمَسْجِد، فَأَرَادَ أَن تشاهدها وتتعلمها وتعلمها غَيرهَا.

وَفِيه: تنظيف مَكَان الْمصلى من الأوساخ، وَمثله التَّنْظِيف من الكناسات والزبالات.

وَفِيه: قيام الطِّفْل مَعَ الرِّجَال فِي صف وَاحِد.

وَفِيه: تَأَخّر النِّسَاء عَن الرِّجَال.

ويستنبط مِنْهُ أَن إِمَامَة الْمَرْأَة للرِّجَال لَا تصح لِأَنَّهُ إِذا كَانَ مقَامهَا مُتَأَخِّرًا عَن مرتبَة الصَّبِي فبالأولى أَن لَا تتقدمهم، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، خلافًا للطبري وَأبي ثَوْر، فِي إجازتهما إِمَامَة النِّسَاء مُطلقًا، وَحكى عَنْهُمَا أَيْضا إجَازَة ذَلِك فِي التَّرَاوِيح إِذا لم يُوجد قارىء غَيرهَا.

وَفِيه: أَن الْأَفْضَل فِي نوافل النَّهَار أَن تكون رَكْعَتَيْنِ،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَفِيه: الِاقْتِصَار فِي نَافِلَة النَّهَار على رَكْعَتَيْنِ، خلافًا لمن اشْترط أَرْبعا.
قلت: إِن كَانَ مُرَاده أَبَا حنيفَة، فَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ لم يشْتَرط ذَلِك، بل قَالَ الْأَرْبَع أفضل سَوَاء كَانَ فِي اللَّيْل أَو فِي النَّهَار.
وَفِيه: صِحَة صَلَاة الصَّبِي الْمُمَيز.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: احْتج بقوله: من طول مَا لبس أَصْحَاب مَالك فِي الْمَسْأَلَة الْمَشْهُورَة بِالْخِلَافِ، وَهِي إِذا حلف لَا يلبس ثوبا ففرشه فعندهم يَحْنَث، وَأجَاب أَصْحَابنَا: بِأَن لبس كل شَيْء بِحَسبِهِ، فحملنا اللّبْس فِي الحَدِيث على الافتراش للقرينة، وَلِأَنَّهُ الْمَفْهُوم مِنْهُ، بِخِلَاف من حلف لَا يلبس ثوبا، فَإِن أهل الْعرف لَا يفهمون من لبسه الافتراش.
انْتهى.
قلت: لَيْسَ معنى اللّبْس فِي الحَدِيث الافتراش، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ التَّمَتُّع، كَمَا قَالَ صَاحب ( اللُّغَة) يُقَال: لبست امْرَأَة أَي تمتعت بهَا زَمَانا طَويلا، وَلَيْسَ هُوَ من: اللّبْس، الَّذِي من: لبست الثِّيَاب، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.

وَفِيه: الصَّلَاة على الْحَصِير وَسَائِر مَا تنبته الأَرْض، وَهُوَ إِجْمَاع إلاَّ من شَذَّ بِحَدِيث أَنه لم يصلِّ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَصح قلت: كَذَا ذكره صَاحب ( التَّلْوِيح) وَأَرَادَ بقوله: لَا يَصح، الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة من حَدِيث يزِيد بن المقادم عَن أَبِيه شُرَيْح بن هانىء: ( أَنه سَأَلَ عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، أَكَانَ النَّبِي يُصَلِّي على الْحَصِير؟ وَا تَعَالَى يَقُول: { وَجَعَلنَا جَهَنَّم للْكَافِرِينَ حَصِيرا} ( الْإِسْرَاء: 8) فَقَالَت: لَا لم يكن يُصَلِّي على الْحَصِير) وَقَالُوا: هَذَا غير صَحِيح لضعف يزِيد بن الْمِقْدَام، وَلِهَذَا بوب البُخَارِيّ بابُُ الصَّلَاة على الْحَصِير، فَإِن هَذَا الحَدِيث لم يثبت عِنْده، أوردهُ لمعارضة مَا هُوَ أقوى مِنْهُ، وَالَّذِي شَذَّ فِيهِ هُوَ عمر بن عبد الْعَزِيز فَإِنَّهُ كَانَ يسْجد على التُّرَاب، وَلَكِن يحمل فعله هَذَا على التَّوَاضُع.

وَفِيه: أَن الأَصْل فِي الْحَصِير وَنَحْوه الطَّهَارَة، وَلَكِن النَّضْح فِيهِ إِنَّمَا كَانَ لأجل التليين أَو لإِزَالَة الْوَسخ، كَمَا ذكرنَا.
.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض: الْأَظْهر أَنه كَانَ للشَّكّ فِي نَجَاسَته.
قُلْنَا: هَذَا على مذْهبه فِي أَن النَّجَاسَة الْمَشْكُوك فِيهَا تطهر بنضحها من غير غسل، وَعِنْدنَا الطَّهَارَة لَا تحصل إلاَّ بِالْغسْلِ.

وَفِيه: أَن الْإِثْنَيْنِ يكونَانِ صفا وَرَاء الإِمَام، وَهُوَ مَذْهَب الْعلمَاء كَافَّة إلاَّ ابْن مَسْعُود، فَإِنَّهُ قَالَ: يكون الإِمَام بَينهمَا.
وَفِي ( التَّوْضِيح) : وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة والكوفيون.
قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة لَيْسَ كَذَلِك، بل مذْهبه أَنه إِذا أم اثْنَيْنِ يتَقَدَّم عَلَيْهِمَا، وَبِه قَالَ مُحَمَّد، واحتجا فِي ذَلِك بِهَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور فِي الْبابُُ، نعم، عَن أبي يُوسُف رِوَايَة أَنه يتوسطهما.
قَالَ صَاحب ( الْهِدَايَة) : وَنقل ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود.
قلت: هَذَا مَوْقُوف عَلَيْهِ، وَقد رَوَاهُ مُسلم من ثَلَاث طرق وَلم يرفعهُ فِي الْأَوليين، وَرَفعه إِلَى النَّبِي فِي الثَّالِثَة.
.

     وَقَالَ ؛ هَكَذَا فعل رَسُول ا.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: هَذَا الحَدِيث لَا يَصح رَفعه، وَأما فعله هُوَ فَإِنَّمَا كَانَ لضيق الْمَسْجِد، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فِي ( شرح الْآثَار) بِسَنَد عَن ابْن سِيرِين أَنه قَالَ: لَا أرى ابْن مَسْعُود فعل ذَلِك إلاَّ لضيق الْمَسْجِد، أَو لعذر آخر، لَا على أَنه السّنة.

وَفِيه: أَن الْمُنْفَرد خلف الصَّفّ تصح صلَاته بِدَلِيل وقُوف الْعَجُوز فِي الْأَخير، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَمَالك،.

     وَقَالَ  أَحْمد وَأَصْحَاب الحَدِيث: لَا يَصح لقَوْله: ( لَا صَلَاة للمنفرد خلف الصَّفّ) .
قُلْنَا؛ أُرِيد بِهِ نفي الْكَمَال.

وَفِيه: أَن السَّلَام لَيْسَ بِوَاجِب فِي الْخُرُوج من الصَّلَاة، لقَوْله؛ ثمَّ انْصَرف، وَلم يذكر سَلاما.
فَإِن قلت: المُرَاد مِنْهُ الِانْصِرَاف من الْبَيْت الَّذِي فِيهِ.
قلت: ظَاهره الِانْصِرَاف من الصَّلَاة، وَإِن كَانَ يحْتَمل الِانْصِرَاف من الْبَيْت، وَبِهَذَا الِاحْتِمَال لَا تقوم الْحجَّة.