فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الدعاء برفع الوباء والوجع

( بابُُ الدُّعاءِ بِرَفْعِ الوَباءِ والوَجَعِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان الدُّعَاء بِرَفْع الوباء والوجع والوباء بِالْمدِّ وَالْقصر فَجمع الْمَقْصُور أوباء وَجمع الْمَمْدُود أوبية وَهُوَ الْمَرَض الْعَام، وَقيل: الْمَوْت الذريع وَأَنه أَعم من الطَّاعُون لِأَن حَقِيقَته مرض عَام ينشأ عَن فَسَاد الْهَوَاء، وَمِنْهُم من قَالَ: الوباء والطاعون مُتَرَادِفَانِ، ورد عَلَيْهِ بَعضهم بِأَن الطَّاعُون لَا يدْخل الْمَدِينَة وَأَن الوباء وَقع بِالْمَدِينَةِ كَمَا فِي حَدِيث العرنيين.

قلت: فِيهِ نظرلأن ابْن الْأَثِير قَالَ: إِنَّه الْمَرَض الْعَام، وَكَذَلِكَ الوباء هُوَ الْمَرَض الْعَام.
وَقَوله: الطَّاعُون لَا يدْخل الْمَدِينَة، يحْتَمل أَن يُقَال إِنَّه لَا يدْخل بعد قدوم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( والوجع) أَي: الدُّعَاء أَيْضا بِرَفْع الوجع، وَهُوَ يُطلق على كل الْأَمْرَاض فَيكون هَذَا الْعَطف من بابُُ عطف الْعَام على الْخَاص، لَكِن بِاعْتِبَار أَن منشأ الوباء خَاص وَهُوَ فَسَاد الْهَوَاء بِخِلَاف الوجع فَإِن لَهُ أسبابُاً شَتَّى وَبِاعْتِبَار أَن الوباء يُطلق على الْمَرَض الْعَام يكون من بابُُ عطف الْعَام على الْعَام.



[ قــ :6037 ... غــ :6372 ]
- حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا، قَالَت: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنا المَدِينَةَ كَما حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَو أشَدَّ، وانْقُلْ حُمَّاها إِلَى الجُحْفَة، اللَّهُمَّ بارِكْ لَنَا فِي مُدِّنا وصاعِنا.

ذكر الْمُطَابقَة هُنَا بِنَوْع من التعسف وَهُوَ أَنَّهَا تُؤْخَذ من قَول: قَوْله: ( وانقل حماها) بِاعْتِبَار أَن تكون الْحمى مَرضا عَاما فَتكون الْمُطَابقَة للجزء الأول للتَّرْجَمَة.
وَقيل: فِي بعض طرق حَدِيث الْبابُُ: فقدمنا الْمَدِينَة وَهِي أوبأ أَرض الله.

قلت: فِيهِ بعد لِأَن الْمُطَابقَة لَا تكون إلاَّ بَين التَّرْجَمَة وَحَدِيث الْبابُُ بِعَيْنِه وسُفْيَان هُوَ: الثَّوْريّ.

والْحَدِيث مُخْتَصر من حَدِيث أَوله: لما قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وعك أَبُو بكر وبلال رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَتقدم فِي آخر كتاب الْحَج وَتقدم الْكَلَام فِيهِ: والجحفة بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وبالفاء مِيقَات أهل مصر وَالشَّام فِي الْقَدِيم، والآن أهل الشَّام يحرمُونَ من مِيقَات أهل الْمَدِينَة، وَكَانَ سكانها فِي ذَلِك الْوَقْت يهود.
وَفِيه: الدُّعَاء على الْكفَّار بالأمراض والبليات.

قَوْله: ( فِي مدنا) أَي: فِيمَا نقدر بِهِ إِذْ بركته مستلزمة لبركته وَالْمرَاد كَثْرَة الأقوات من الثِّمَار والغلات.





[ قــ :6038 ... غــ :6373 ]
- حدّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ حدّثنا إبراهيمُ بنُ سعَدٍ أخبرنَا ابنُ شِهابٍ عنْ عامرِ بن سَعْدٍ أنَّ أباهُ قَالَ: عادَنِي رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حَجةِ الوَداعِ مِنْ شَكْوى أشْفَيْتُ مِنْهُ على المَوْت، فَقُلْتُ: يَا رسولَ الله { بَلَغَ بِي مَا تَراى مِنَ الوَجَعِ وَأَنا ذُو مالٍ وَلَا يَرِثُنِي إلاَّ ابْنَةٌ لِي واحدَةٌ، أفأتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مالِي؟ قَالَ: لَا.
قُلْتُ: فَبِشَطْرِهِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ كَثِيرٌ، إنكَ أنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أغْنياءَ خَيْرٌ مِنْ أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةَ يَتَكَفَّفُونَ النَّاس، وإنَّكَ لَنْ تُنفِقَ نَفَقَةَ تَبْتَغِي بهَا وَجْهَ الله إلاَّ أجِرْتَ حتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأتِكَ.
قُلْتُ: يَا رسولَ الله}
أُخَلَّفُ بَعْدَ أصْحابي؟ قَالَ: إنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَملاً تَبْتَغِي بِهِ وجْهَ الله إلاَّ ازْدَدْتَ دَرجةَ وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ تُخَلْفُ حتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أقْوامٌ ويُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ اللَّهُم أمْضِ لأصْحابي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أعَقابِهِمْ، لاكِنِ البائِسُ سَعْدُ بنُ خَوْلَةَ.

قَالَ سَعْدٌ: رَثَي لهُ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ أنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ.

قَالَ بَعضهم: هَذَا يتَعَلَّق بالركن الثَّانِي من التَّرْجَمَة وَهُوَ الوجع.


قلت: التَّرْجَمَة الدُّعَاء بِرَفْع الوجع وَلَيْسَ فِي الحَدِيث هَذَا، والمطابقة لَيست مُتَعَلقَة بِمُجَرَّد ذكر الوجع حَتَّى يَقُول هَذَا الْقَائِل مَا قَالَه، وَيُمكن أَن يُؤْخَذ وَجه الْمُطَابقَة هُنَا من قَوْله: ( اللَّهُمَّ أمض لِأَصْحَابِي هجرتهم وَلَا تردهم على أَعْقَابهم) ، فَإِن فِيهِ إِشَارَة لسعد بالعافية ليرْجع إِلَى دَار هجرته وَهِي الْمَدِينَة.

وَذكر هَذَا الحَدِيث فِي مَوَاضِع: فِي الْجَنَائِز عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي الْوَصَايَا عَن أبي نعيم عَن سُفْيَان، وَفِي الْمَغَازِي عَن أَحْمد بن يُونُس، وَفِي الْهِجْرَة عَن يحيى بن قزعة، وَفِي الطِّبّ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَفِي الْفَرَائِض عَن أبي الْيَمَان، وَهنا أخرجه أَيْضا عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن عَامر بن سعد بن أبي وَقاص عَن أَبِيه سعد.

قَوْله: ( عادني) أَي: زارني لأجل مرض حصل لي.
قَوْله: ( من شكوى) أَي: من مرض وَهُوَ غير منصرف.
قَوْله: ( أشفيت مِنْهُ) أَي: أشرفت مِنْهُ على الْمَوْت ودنوت مِنْهُ وَمرَاده بِهِ الْمُبَالغَة فِي شدَّة مَرضه، ويروى: أشفيت مِنْهَا أَي من الشكوى وَهُوَ الظَّاهِر، وَرِوَايَة: مِنْهُ، بِاعْتِبَار الْمَرَض.
قَوْله: ( إلاَّ ابْنة لي وَاحِدَة) وَاسْمهَا عَائِشَة.
قَوْله: ( ذُو مَال) أَي: صَاحب مَال وَكَانَ حصل لَهُ من الفتوحات شَيْء كثير.
قَوْله: ( فبشطره) أَي: نصفه، وَكثير بالثاء الْمُثَلَّثَة.
قَوْله: قَوْله: ( أَن تذر) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة أَي أَن تتْرك، وَقيل: لِأَن تذر.
قَوْله: ( عَالَة) هُوَ جمع العائل وَهُوَ الْفَقِير.
قَوْله: ( يَتَكَفَّفُونَ النَّاس) أَي: يمدون أكفهم إِلَى النَّاس بالسؤال.
قَوْله: ( فِي فِي امْرَأَتك) أَي: فِي فَم امْرَأَتك.
قَوْله: ( أخلف) يَعْنِي: فِي مَكَّة أبقى بعدهمْ.
قَوْله: ( لن تخلف) على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: ( فتعمل) بِالنّصب عطف عَلَيْهِ.
قَوْله: ( ولعلك تخلف حَتَّى ينْتَفع بك أَقوام) فِيهِ إِشَارَة إِلَى طول عمره، وَهُوَ من المعجزات، فَإِنَّهُ عَاشَ حَتَّى فتح الْعرَاق وانتفع بِهِ أَقوام وَأَرَادَ بهم الْمُسلمين.
وَقَوله: ( ويضر بك) على صِيغَة الْمَجْهُول آخَرُونَ أَي: أَقوام آخَرُونَ، وَأَرَادَ بهم الْمُشْركين، وَقيل: إِن عبيد الله أَمر عمر بن سعد وَلَده على الْجَيْش الَّذين لقوا الْحُسَيْن رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَتَلُوهُ بِأَرْض كربلا وقصته مَشْهُورَة.
قَوْله: ( أمض) بِفَتْح الْهمزَة يُقَال: أمضيت الْأَمر أَي: أنفذته أَي: تمم الْهِجْرَة لَهُم وَلَا تنقصها عَلَيْهِم،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: لم يكن للمهاجرين الْأَوَّلين أَن يقيموا بِمَكَّة إلاَّ ثَلَاثَة أَيَّام بعد الصَّدْر فَدَعَا لَهُم بالثبات على ذَلِك.
قَوْله: قَوْله: ( لَكِن البائس) بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَهُوَ من أَصَابَهُ الْبُؤْس أَي: الْفقر وَسُوء الْحَال.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: البائس شَدِيد الْحَاجة وَهُوَ مَنْصُوب بقوله: قَوْله: ( لَكِن) إِن كَانَت مُشَدّدَة هُوَ وَخَبره.
قَوْله: ( سعد بن خَوْلَة) وَإِن كَانَت مُخَفّفَة يكون البائس مُبْتَدأ وَخَبره سعد بن خَوْلَة، وَهُوَ من بني عَامر بن لؤَي من أنفسهم عِنْد الْبَعْض وحليف لَهُم عِنْد آخَرين، وَكَانَ من مهاجرة الْحَبَشَة الْهِجْرَة الثَّانِيَة فِي قَول الْوَاقِدِيّ، وَإِنَّمَا رثي لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكَونه مَاتَ بِمَكَّة وَهِي الأَرْض الَّتِي هَاجر مِنْهَا.
وَفِي ( التَّوْضِيح) : وَإِنَّمَا رثى لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ قَالَ: كل من هَاجر من بَلَده يكون لَهُ ثَوَاب الْهِجْرَة من الأَرْض الَّتِي هَاجر مِنْهَا إِلَى الأَرْض الَّتِي هَاجر إِلَيْهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَحرم ذَلِك لما مَاتَ بِمَكَّة، وَقيل: رَجَعَ إِلَى مَكَّة بعد شُهُوده بَدْرًا وَقد أَطَالَ الْمقَام بهَا بِغَيْر عذر وَلَو كَانَ لَهُ عذر، لم يَأْثَم وَكَانَ مَوته فِي حجَّة الْوَدَاع.
وَقد قَالَ ابْن مزين من الْمَالِكِيَّة: إِنَّمَا رثى لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ أسلم وَأقَام بِمَكَّة وَلم يُهَاجر، وأنكروا ذَلِك عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَعْدُود من الْبَدْرِيِّينَ عِنْد أهل الصَّحِيح كَمَا ذكره البُخَارِيّ وَغَيره.

وَقَوله: ( قَالَ سعد) أَي: سعد بن أبي وَقاص: رثى لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يرد قَول من زعم أَن فِي الحَدِيث إدارجاً وَأَن قَوْله: رثى لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من قَول الزُّهْرِيّ.
فَإِن قلت: ورد فِي بعض طرقه: وَفِيه قَالَ الزُّهْرِيّ ... إِلَى آخِره قلت، هَذَا يرجع إِلَى اخْتِلَاف الروَاة عَن الزُّهْرِيّ هَل وصل هَذَا الْقدر عَن سعد أَو قَالَ من قبل نَفسه؟ وَالْحكم للوصل لِأَنَّهُ مَعَ رَاوِيه زِيَادَة علم وَهُوَ حَافظ.
قَوْله: ( رثى لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: ترحم عَلَيْهِ ورق لَهُ من جِهَة وَفَاته بِمَكَّة وَهُوَ معنى قَوْله: قَوْله: ( من أَن توفّي بِمَكَّة) أَي: من أجل أَنه مَاتَ بِمَكَّة الَّتِي هَاجر مِنْهَا وَكَانَ يتَمَنَّى أَن يَمُوت بغَيْرهَا فَلم يُعْط متمناه.