فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} [الأنبياء: 95]

(بابٌُ { وَحرَام على قَرْيَة أهلكناها أَنهم لَا يرجعُونَ} (الْأَنْبِيَاء: 59) { إِنَّه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} (هود: 63) { وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا} (نوح: 72)

أَي: هَذَا بابُُ فِي قَوْله تَعَالَى: { وَحرَام} ... إِلَى آخِره.
قَالَ الْكرْمَانِي: الْغَرَض من هَذِه الْآيَات أَن الْإِيمَان وَالْكفْر بِتَقْدِير الله تَعَالَى، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: { وَحرم على قَرْيَة أهلكناها} الْآيَة وَفِي رِوَايَة غَيره: { وَحرَام} إِلَى آخر الْآيَة، والقراءاتان مشهورتان فَقَرَأَ أهل الْحجاز وَالْبَصْرَة وَالشَّام: حرَام، وَقَرَأَ أهل الْكُوفَة: وَحرم.

وَقَالَ منْصُورُ بنُ النُّعْمانِ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ: وحِرْمٌ بالحَبَشِيَّةِ: وجَبَ.

مَنْصُور بن النُّعْمَان الْيَشْكُرِي الْبَصْرِيّ، سكن مرو ثمَّ بخاري وَمَاله فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: مَنْصُور بن النُّعْمَان فِي النّسخ هَكَذَا، لَكِن قَالُوا: صَوَابه مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر السّلمِيّ الْكُوفِي، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو جَعْفَر عَن ابْن قهزاد عَن أبي عوَانَة عَنهُ، هَكَذَا قَالَه صَاحب (التَّلْوِيح) : وَتَبعهُ صَاحب (التَّوْضِيح) :.

     وَقَالَ  بَعضهم: لم أَقف على ذَلِك فِي (تَفْسِير أبي جَعْفَر الطَّبَرِيّ)
قلت: هَذَا مُجَرّد تشنيع، وَعدم وُقُوفه على هَذَا لَا يسْتَلْزم عدم وقُوف غَيره، وَنسخ الطَّبَرِيّ كَثِيرَة فَلَا تَخْلُو عَن زِيَادَة ونقصان.
قَوْله: (وَحرم بالحبشية وَجب) يَعْنِي: معنى حرم باللغة الحبشية وَجب، وروى غير عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: وَجب عَلَيْهِم أَنهم لَا يتوبون، يَعْنِي فِي تَفْسِير قَوْله عز وَجل: { وَحرَام على قَرْيَة أهلكناها أَنهم لَا يرجعُونَ} (الْأَنْبِيَاء: 59) وَعَن أبي هُرَيْرَة: لَا، هُنَا زَائِدَة، وَذهب إِلَى أَن حَرَامًا على بابُُه، وَأنكر البصريون زِيَادَة: لَا، هُنَا.
وَقيل: الْمَعْنى: وَحرَام أَن يتَقَبَّل مِنْهُم عمل لأَنهم لَا يرجعُونَ، أَي: لَا يتوبون، وَكَذَا قَالَ الزّجاج، وَقيل: الْحَرَام الْمَنْع، فَالْمَعْنى حرَام عَلَيْهِم الرُّجُوع إِلَى الدُّنْيَا،.

     وَقَالَ  الْمُهلب: وَجب عَلَيْهِم أَنهم لَا يتوبون، وَحرم وَحرَام بِمَعْنى وَاحِد، وَالتَّقْدِير: وَحرَام على قَرْيَة أردنَا إهلاكها التَّوْبَة من كفرهم، وَهَذَا كَقَوْلِه: { إِنَّه لن يُؤمن من قَوْمك إلاَّ من قد آمن} (هود: 63) أَي: تقدم علم الله فِي قوم نوح أَنه لن يُؤمن مِنْهُم غير من آمن، وَلذَلِك قَالَ نوح عَلَيْهِ السَّلَام: { رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} (نوح: 62) إِلَى قَوْله: { فَاجِرًا كفَّارًا} (نوح: 62) إِذا قد اعلمتني { إِنَّه لن يُؤمن مِنْهُم إلاّ من قد آمن} (هود: 63) وأهلكهم لعلمه تَعَالَى أَنهم لَا يرجعُونَ إِلَى الْإِيمَان.



[ قــ :6266 ... غــ :6612 ]
- حدّثني مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ حَدثنَا عبْدُ الرَّزَّاق أخبرَنا مَعَمَرٌ عنِ ابنِ طاوُوس عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رأيْتُ شَيْئاً أشْبهَ باللّمَمِ مِمَّا قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إنَّ الله كَتَبَ عَلَى ابنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنا، أدْرَكَ ذَلِكَ لَا مْحالَةَ، فَزِنا العيْنِ النَّظَرُ وزِنا اللِّسانِ المَنْطِقُ، والنَّفْسُ تَمَنَّى وتَشْتَهِي، والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ ويُكَذِّبُهُ) .
(انْظُر الحَدِيث 3426) .


مطابقته للتَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ الْآيَات الَّتِي تدل على أَن كل شَيْء غير خَارج عَن سَابق قدره، وَكَذَلِكَ حَدِيث الْبابُُ، لِأَن الزِّنَا ودواعيه كل ذَلِك مَكْتُوب مُقَدّر على العَبْد غير خَارج من سَابق قدره.

ومحمود بن غيلَان بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَعبد الرَّزَّاق بن همام، وَمعمر هُوَ ابْن رَاشد، وَابْن طَاوس هُوَ عبد الله يروي عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.

قَوْله: (مَا رَأَيْت شَيْئا أشبه باللمم) بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ صغَار الذُّنُوب، وَأَصله: مَا يلم بِهِ الشَّخْص من شهوات النَّفس، وَالْمَفْهُوم من كَلَام ابْن عَبَّاس أَنه النّظر، والنطق.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: يُرِيد بِهِ المعفو عَنهُ الْمُسْتَثْنى فِي كتاب الله: { الَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش إِلَّا اللمم} (النَّجْم: 23) وسمى الْمنطق وَالنَّظَر زنا لِأَنَّهُمَا من مقدماته، وَحَقِيقَته، إِنَّمَا يَقع بالفرج، وَعَن ابْن عَبَّاس: اللمم أَن يَتُوب من الذُّنُوب وَلَا يعاودها، وروى عَنهُ: كل مَا دون الزِّنَا فَهُوَ اللمم.
قَوْله: (فزنا الْعين النّظر) أَي: النّظر إِلَى الْأَجْنَبِيَّة.
.

     وَقَالَ  ابْن مَسْعُود: العينان تزنيان بِالنّظرِ، والشفتان تزنيان وزناهما التَّقْبِيل، وَالْيَدَانِ تزنيان وزناهما اللَّمْس، وَالرجلَانِ تزنيان وزناهما الْمَشْي، وَقيل: إِنَّمَا سميت هَذِه الْأَشْيَاء زنا لِأَنَّهَا دواعي إِلَيْهِ.
قَوْله: (لَا محَالة) بِفَتْح الْمِيم أَي: لَا بُد لَهُ من ذَلِك وَلَا تحول لَهُ عَنهُ.
قَوْله: (تمنى) أَصله: تتمني، فحذفت مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ.
قَوْله: (والفرج يصدق ذَلِك ويكذبه) يَعْنِي: إِذا قدر على الزِّنَا فِيمَا كَانَ فِيهِ النّظر، وَالتَّمَنِّي كَانَ زنا صدق ذَلِك فرجه، وَإِن امْتنع وَخَافَ ربه كذب ذَلِك فرجه، وتكتب لَهُ حسنه.
قيل: التَّصْدِيق والتكذيب من صِفَات الْإِخْبَار.
وَأجِيب بِأَن إطلاقهما هُنَا على سَبِيل التَّشْبِيه.

وَقَالَ شَبابَُةُ: حدّثنا ورْقاءُ عنِ ابنِ طاوُوسٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبي هُرَيرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

شَبابَُة بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة.
وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى ابْن سوار بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْوَاو وبالراء الْفَزارِيّ روى عَنهُ مَحْمُود، وورقاء مؤنث الأورق بِالْوَاو وبالراء وَالْقَاف ابْن عمر الْخَوَارِزْمِيّ سكن الْمَدِينَة، وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا التَّعْلِيق إِلَى أَن طاووساً سمع الْقِصَّة من ابْن عَبَّاس عَن أبي هُرَيْرَة أَيْضا.
وَالظَّاهِر أَنه سَمعه من أبي هُرَيْرَة بعد أَن سَمعه من ابْن عَبَّاس، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق صَاحب (التَّلْوِيح) فَقَالَ: روينَاهُ فِي (مُعْجم الطَّبَرَانِيّ الْأَوْسَط) فَقَالَ: حَدثنَا عمر بن عُثْمَان حَدثنَا ابْن الْمُنَادِي عَنهُ، فَذكره وَتَبعهُ فِي ذَلِك صَاحب (التَّوْضِيح) :.

     وَقَالَ  بَعضهم: راجعت (المعجم الْأَوْسَط) : فَلم أجد هَذَا فِيهِ.

قلت: صَاحب (التَّلْوِيح) : يُصَرح بِأَنَّهُ رَوَاهُ، وَتَبعهُ أَيْضا صَاحب (التَّوْضِيح) : الَّذِي هُوَ شيخ هَذَا الْقَائِل مَعَ علمه بِأَن الْمُثبت مقدم على النَّافِي، وَلَكِن عرق العصبية ينبض فَيُؤَدِّي صَاحبهَا إِلَى حط من هُوَ أكبر مِنْهُ فِي الْعلم وَالسّن والقدم.