فهرس الكتاب

عمدة القاري - بَابُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}

(كِتابُ الأيْمانِ والنُّذُور)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَنْوَاع الْأَيْمَان وأنواع النذور، والأيمان جمع يَمِين وَهُوَ لُغَة الْقُوَّة، قَالَ الله عز وَجل: { (69) لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} (الحاقة: 54) أَي: بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَة، وَهِي الْجَارِحَة أَيْضا وَفِي الشَّرْع تَقْوِيَة أحد طرفِي الْخَبَر بالمقسم بِهِ،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: الْيَمين تَحْقِيق مَا يجب وجوده بِذكر الله تَعَالَى والتزام الْمُكَلف قربَة أَو صفتهَا،.

     وَقَالَ  أَصْحَابنَا: النّذر إِيجَاب شَيْء من عبَادَة أَو صَدَقَة أَو نَحْوهمَا على نَفسه تَبَرعا، يُقَال: نذرت الشَّيْء أنذر وأنذر بِالضَّمِّ وَالْكَسْر نذرا.


(بابُُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاَْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُو اْ أَيْمَانَكُمْ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الْمَائِدَة: 98)

أَي: هَذَا بابُُ فِي ذكر قَول الله تَعَالَى، هَكَذَا وَقع فِي بعض النّسخ وَلم يَقع لفظ: بابُُ عِنْد أَكثر الروَاة، وَذكر الْآيَة كلهَا، إِنَّمَا هُوَ فِي رِوَايَة كَرِيمَة.
قَوْله: (بِاللَّغْوِ) ، هُوَ قَول الرجل فِي الْكَلَام من غير قصد: لَا وَالله، وبلى وَالله، هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي.
وَقيل: هُوَ فِي الْهزْل، وَقيل: فِي الْمعْصِيَة، وَقيل: على غَلَبَة الظَّن.
وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأحمد، وَقيل: الْيَمين فِي الْغَضَب، وَقيل: فِي النسْيَان.
قَوْله: (بِمَا عقدتم الْأَيْمَان) أَي: بِمَا صممتم عَلَيْهِ من الْأَيْمَان وقصدتموها، قرىء بتَشْديد الْقَاف وتخفيفها، وَالْعقد فِي الأَصْل الْجمع بَين أَطْرَاف الشَّيْء، وَيسْتَعْمل فِي الْأَجْسَام ويستعار للمعاني نَحْو: عقد البيع، وَعَن عَطاء معنى: عقدتم الْأَيْمَان أكدتم.
قَوْله: (مَسَاكِين) أَي: محاويج من الْفُقَرَاء وَمن لَا يجد مَا يَكْفِيهِ.
قَوْله: (من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم) قَالَ ابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة: من أعدل مَا تطْعمُونَ أهليكم،.

     وَقَالَ  عَطاء الْخُرَاسَانِي: من أمثل مَا تطْعمُونَ أهليكم،.

     وَقَالَ  ابْن أبي حَاتِم بِإِسْنَادِهِ عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: خبز وَلبن وَسمن، وبإسناده عَن ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه قَالَ: {من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم} قَالَ: الْخبز وَاللَّحم والسنم، وَالْخبْز وَاللَّبن، وَالْخبْز وَالزَّيْت، وَالْخبْز والخل.
وَاخْتلفُوا فِي مِقْدَار مَا يُطعمهُمْ.
فَقَالَ ابْن أبي حَاتِم بِإِسْنَادِهِ عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: يغديهم ويعشيهم،.

     وَقَالَ  الْحسن وَمُحَمّد بن سِيرِين: يَكْفِيهِ أَن يطعم عشرَة مَسَاكِين أَكلَة وَاحِدَة خبْزًا وَلَحْمًا، وَزَاد الْحسن، فَإِن لم يجد فخبزاً وَسمنًا ولبناً، فَإِن لم يجد فخبزاً وزيتاً وخلاً.
حَتَّى يشبعوا،.

     وَقَالَ  قوم: يطعم كل وَاحِد من الْعشْرَة نصف صَاع من بر أَو تمر وَنَحْوهمَا، وَهَذَا قَول عمر وَعلي وَعَائِشَة وَمُجاهد وَالشعْبِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَمَنْصُور بن مهْرَان وَمَالك وَالضَّحَّاك وَالْحكم وَمَكْحُول وَأبي قلَابَة وَمُقَاتِل بن حَيَّان،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: نصف صَاع من بر أَو صَاع من غَيره، وَهُوَ قَول مُجَاهِد وَمُحَمّد بن سِيرِين وَالشعْبِيّ وَالثَّوْري وَالنَّخَعِيّ وَأحمد، وروى ذَلِك عَن عَليّ وَعَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: الْوَاجِب فِي كَفَّارَة الْيَمين مد بِمد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (أَو كسوتهم) قَالَ الشَّافِعِي: لَو دفع إِلَى كل وَاحِد من الْعشْرَة مَا يصدق عَلَيْهِ اسْم الْكسْوَة من قيمص أَو سَرَاوِيل أَو إِزَار أَو عِمَامَة أَو مقنعة أَجزَاء ذَلِك.
وَاخْتلف أَصْحَابه فِي القلنسوة: هَل نجزى أم لَا؟ على وَجْهَيْن: وَحكى الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإسفرايني فِي الْخُف وَجْهَيْن أَيْضا، وَالصَّحِيح عدم الْإِجْزَاء،.

     وَقَالَ  مَالك وَأحمد: لَا بُد أَن يدْفع إِلَى كل وَاحِد مِنْهُم مَا يَصح أَن يُصَلِّي فِيهِ إِن كَانَ رجلا أَو امْرَأَة كل بِحَسبِهِ،.

     وَقَالَ  الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس: عباءة لكل مِسْكين أَو شملة،.

     وَقَالَ  مُجَاهِد: أدناه ثوب وَأَعلاهُ مَا شِئْت، وَعَن سعيد بن الْمسيب: عباءة يلف بهَا رَأسه وعباءة يأتزر بهَا.
قَوْله: (أَو تَحْرِير رَقَبَة) أَخذ أَبُو حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بإطلاقها فجوز الْكَافِرَة،.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي وَآخَرُونَ: لَا يجوز إلاَّ مُؤمنَة.
قَوْله: (فَمن لم يجد) أَي: فَإِن لم يقدر الْمُكَلف على وَاحِدَة من هَذِه الْخِصَال الثَّلَاث (فَصِيَام) أَي: فَعَلَيهِ صِيَام (ثَلَاثَة أَيَّام) .
وَاخْتلفُوا فِيهِ: هَل يجب التَّتَابُع أَو يسْتَحبّ؟ فالمنصوص عَن الشَّافِعِي: أَنه لَا يجب التَّتَابُع، وَهُوَ قَول مَالك،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة وَأحمد: يجب التَّتَابُع، ودلائلهم مَذْكُورَة فِي كتب الْفِقْه.
قَوْله: (ذَلِك) إِشَارَة إِلَى الْمَذْكُور قبله.
قَوْله: (واحفظوا أَيْمَانكُم) عَن الْحِنْث فَإِذا حنثتم فاحفظوها بِالْكَفَّارَةِ.



[ قــ :6275 ... غــ :6621 ]
- حدّثنا مُحمَّدُ بنُ مُقاتِلٍ أبُو الحَسَنِ أخبرنَا عَبْدُ الله أخبرنَا هِشامُ بنُ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ: أنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِي الله عَنهُ، لَمْ يَكُنْ يحْنَثُ فِي يَمِينٍ قَطُّ، حتَّى أنْزَلَ الله تَعَالَى كَفَّارَةَ اليَمِينِ.
.

     وَقَالَ : لَا أحْلِفُ عَلى يَمِينٍ فَرَأيْتُ غَيْرَها خَيْراً مِنْها إلاّ أتيْتُ الّذِي هُوَ خَيْرٌ وكَفَّرْتُ عنْ يَمِينِي.
(انْظُر الحَدِيث 4164) .


مطابقته لِلْآيَةِ الَّتِي هِيَ التَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَشَيْخه مروزي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك مروزي أَيْضا، وَهِشَام بن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ.
والْحَدِيث من أَفْرَاده.

قَوْله: (أَن أَبَا بكر) الصّديق وَفِي رِوَايَة عبد الله بن نمير عَن هِشَام بِسَنَدِهِ عَن أبي بكر الصّديق.
قَوْله: (لم يكن حنث) إِنَّمَا زَادَت لفظ الْكَوْن للْمُبَالَغَة فِيهِ، ولبيان أَنه لم يكن من شَأْنه ذَلِك.
قَوْله: (قطّ) ، أَصله: قطط، فأدغمت الطَّاء فى الطَّاء وَمِنْهُم من يَقُول: قطّ، بِضَم الْقَاف تبعا لضم الطَّاء وَمِنْهُم من يخففه.
قَوْله: (كَفَّارَة الْيَمين) أَي: آيتها وَهِي الْمَذْكُورَة فِي أول الْبابُُ.
قَوْله: (لَا أَحْلف على يَمِين) إِلَى آخِره قَالُوا: إِنَّمَا قَالَ أَبُو بكر هَذَا لما حلف أَنه لَا يبرأ مسطحًا لما تكلم فِي قصَّة الْإِفْك، وَأنزل الله تَعَالَى: {أَلا يحبونَ أَن يغْفر الله لكم} (النُّور: 22) قَالَ: بلَى يَا رب {إِنَّا لنحب ذَلِك، ثمَّ عَاد إِلَى بره كَمَا كَانَ أَولا.
قَوْله: (غَيرهَا) الضَّمِير يرجع إِلَى الْيَمين بِاعْتِبَار أَن الْمَقْصُود مِنْهَا الْمَحْلُوف عَلَيْهِ مثل الْخصْلَة المفعولة، أَو المتروكة، إِذْ لَا معنى لقَوْله: (لَا أَحْلف) على الْحق.





[ قــ :676 ... غــ :66 ]
- حدّثنا أبُو النُّعْمانِ مُحَمدُ بنُ الفَضْلِ حدّثنا جَرِيرُ بنُ حازِمٍ حدّثنا الحَسَنُ حدّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ سَمرَةَ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( يَا عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ سَمُرَةَ} لَا تَسْألِ الإمارَةَ، فإنّكَ إنْ أوتِيتَها عنْ مَسْألَةٍ وُكِلْتَ إلَيْها، وإنْ أُوتِيتَها مِنْ غَيْرِ مَسْألَةٍ أعنْتَ عَلَيْها، وَإِذا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأيْتَ غَيْرَها خَيْراً مِنْها فَكَفِّرْ عنْ يَمِينَكَ وَأْتِ الّذِي هُوَ خَيْرٌ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فَكفر عَن يَمِينك) وَالْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة بن حبيب وَهُوَ من مسلمة الْفَتْح وَقد شهد فتوح الْعرَاق وَكَانَ فتح سجستان على يَدَيْهِ، أرْسلهُ عبد الله بن عَامر أَمِير الْبَصْرَة وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَحْكَام عَن حجاج بن منهال وَفِي الْكَفَّارَات عَن مُحَمَّد بن عبد الله.
وَأخرجه مُسلم فِي الْأَيْمَان عَن شَيبَان بن فروخ وَغَيره، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْخراج عَن مُحَمَّد بن الصَّباح وَغَيره.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَيْمَان عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى.
وَأخرج النَّسَائِيّ قصَّة الْإِمَارَة فِي الْقَضَاء وَفِي السّير عَن مُجَاهِد بن مُوسَى، وقصة الْيَمين فِي الْأَيْمَان عَن جمَاعَة آخَرين.

قَوْله: ( الْإِمَارَة) بِكَسْر الْهمزَة أَي: لَا تسْأَل أَن تعْمل أَمِيرا أَي: حَاكما.
قَوْله: ( أوتيتها) على صِيغَة الْمَجْهُول بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف.
قَوْله: ( أعنت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا.

وَفِيه: كَرَاهَة سُؤال مَا يتَعَلَّق بالحكومة نَحْو الْقَضَاء والحسبة وَنَحْوهمَا، وَإِن من سَأَلَ لَا يكون مَعَه إِعَانَة من الله تَعَالَى، فَلَا يكون لَهُ كِفَايَة لذَلِك الْعَمَل فَيَنْبَغِي أَن لَا يولي.

قلت: إِذا كَانَ عَن مُجَرّد السُّؤَال، فَمَا يكون حَال من يسْأَل بالرشوة ويجتهد فِيهِ؟ خُصُوصا فِي غَالب قُضَاة مصر فَلَا يتولون إلاَّ بالبراطيل والرشى؟ وَلَا يخَاف من اسْتِحْقَاق اللَّعْنَة من الله تَعَالَى فِي ذَلِك، وَقد روى عبد الله بن عَمْرو عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لعن الله الراشي والمرتشي والرائش.
وَفِيه: إِن من حلف على فعل أَو ترك وَكَانَ الْحِنْث خيرا من التَّمَادِي عَلَيْهِ اسْتحبَّ لَهُ الْحِنْث، بل يجب، نظرا لظَاهِر الْأَمر.
وَفِيه: جَوَاز التَّكْفِير قبل الْحِنْث، وَبِه أَخذ الشَّافِعِي وَمَالك فِي رِوَايَة، وَلَا يجوز عِنْد الْحَنَفِيَّة لِأَن الْكَفَّارَة لستر الْجِنَايَة وَلَا جِنَايَة قبل الْحِنْث، فَلَا يجوز.

وَحكم الحَدِيث أَنه تعارضه رِوَايَة مُسلم أخرجه عَن أبي هُرَيْرَة: من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليأت الَّذِي هُوَ خير وليكفر عَن يَمِينه، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة، غير أَن البُخَارِيّ انْفَرد بِتَقْدِيم الْحِنْث قبل الْكَفَّارَة، وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد فِي ( سنَنه) تَقْدِيم الْكَفَّارَة قبل الْحِنْث، وَجَاء تَقْدِيم الْحِنْث على الْكَفَّارَة فِي حَدِيث أبي مُوسَى الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم، وَفِي لفظ لَهما تَقْدِيم الْكَفَّارَة فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فالأخذ بِرِوَايَة تَقْدِيم الْحِنْث على الْكَفَّارَة أولى لما ذكرنَا.





[ قــ :677 ... غــ :663 ]
- حدّثنا أبُو النُّعْمانِ حدّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ غَيْلانَ بنِ جَرِيرٍ عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبِيهِ قَالَ: أتَيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رَهْطٍ مِنَ الأشْعَرِيِّينَ أسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ: ( وَالله لَا أحْمِلُكمْ، وَمَا عِنْدِي مَا أحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) .
قَالَ: ثُمَّ لَبِثْنا مَا شاءَ الله أنْ نَلْبَثَ، ثُمَّ أُتِيَ بِثَلاثِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرى فَحَمَلَنا عَلَيْها، فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قُلْنا أوْ قالَ بَعْضُنا: وَالله لَا يُبارَكَ لَنا، أتَيْنا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَسْتَحْمِلُهُ فَحَلَفَ أنْ لَا يَحْمِلَنا ثُمَّ حَمَلَنَا، فارْجِعُوا بِنا إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنُذَكِّرَهُ، فأتَيْناهُ فَقَالَ: ( مَا أَنا حَمَلْتُكُمْ، بَلِ الله حَمَلَكمْ وإنِّي وَالله إِن شاءَ الله لَا أحْلِفُ عَلى يَمِينٍ فَأرى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْها إلاّ كَفَّرْتُ عنْ يَمِينِي وأتَيْتُ الّذِي هُوَ خَيْرٌ، أوْ أتَيْتُ الّذِي هُوَ خَيْرٌ وكَفَّرْتُ عنْ يَمِينِي) .

مطابقته للتَّرْجَمَة تفهم من معنى الحَدِيث.
وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد كَمَا مر، وغيلان بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف ابْن جرير بِفَتْح الْجِيم الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ، وَأَبُو بردة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء، قيل: اسْمه الْحَارِث وَقيل: عَامر يروي عَن أَبِيه أبي مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي كَفَّارَات الْأَيْمَان عَن قُتَيْبَة، وَأخرجه أَيْضا مطولا فِي كتاب الْخمس فِي: بابُُ وَمن الدَّلِيل على أَن الْخمس لنوائب الْمُسلمين، فَلْينْظر فِيهِ.
وَأخرجه مُسلم فِي الْأَيْمَان عَن خلف بن هِشَام وَغَيره.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَيْمَان عَن سُلَيْمَان بن حَرْب.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْأَيْمَان عَن قُتَيْبَة.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْكَفَّارَات عَن أَحْمد بن عَبدة.

قَوْله: ( فِي رَهْط) قد ذكرنَا غير مرّة أَن الرَّهْط مَا دون الْعشْرَة من الرِّجَال لَا يكون فيهم امْرَأَة وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه.
قَوْله: ( من الْأَشْعَرِيين) جمع أشعري نِسْبَة إِلَى الْأَشْعر، واسْمه: نبت بن ادد بن يشخب بن عريب بن زيد بن كهلان، وَإِنَّمَا قيل لَهُ الْأَشْعر لِأَن أمه وَلدته أشعر قَوْله: ( استحمله) أَي: أطلب مِنْهُ مَا يحملنا من الْإِبِل وَيحمل أثقالنا، وَذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَة تَبُوك.
قَالَ الله تَعَالَى: { وَلَا على الَّذين إِذا مَا أتوك لتحملهم} ( التَّوْبَة: 9) الْآيَة.
قَوْله: ( ثمَّ أُتِي) على صِيغَة الْمَجْهُول أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( بِثَلَاث ذود) بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو وبالدال الْمُهْملَة: وَهُوَ الْإِبِل من الثَّلَاث إِلَى الْعشْرَة، وَهِي مُؤَنّثَة لَيْسَ لَهَا وَاحِد من لَفظهَا، وَالْكثير أذواد، وَقيل: الذود الْوَاحِد من الْإِبِل بِدَلِيل قَوْله: ( لَيْسَ فِيمَا دون خمس ذود صَدَقَة) ،.

     وَقَالَ  الْقَزاز: الْعَرَب تَقول: الذود من الثَّلَاثَة إِلَى التِّسْعَة،.

     وَقَالَ  أَبُو عبيد: هِيَ من الْإِنَاث، فَلذَلِك قَالَ: بِثَلَاث ذود، وَلم يقل: بِثَلَاثَة.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: قيل: هُوَ من بابُُ إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه.
قَوْله: ( غر الذرى) ، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء وَهُوَ جمع الْأَغَر وَهُوَ الْأَبْيَض الْحسن، والذرى بِضَم الذَّال الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَكسرهَا جمع ذرْوَة بِالْكَسْرِ وَالضَّم، وذروة كل شَيْء أَعْلَاهُ، وَالْمرَاد هُنَا الأسنمة، وَقد تقدم فِي كتاب الْجِهَاد فِي: بابُُ الْخمس فِي غَزْوَة تَبُوك، أَنه سِتَّة أَبْعِرَة، وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا، إِذْ لَيْسَ فِي ذكر الثَّلَاث نفي السِّتَّة.
قَوْله: ( فحملنا) بِفَتْح اللَّام أَي: حملنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَلِكَ: ثمَّ حملنَا، بِفَتْح اللَّام.
قَوْله: ( بل الله حملكم) يَعْنِي: لَا معطي إلاَّ الله، وَالْمعْنَى: إِنَّمَا أَعطيتكُم من مَال الله، أَو: بِأَمْر الله لِأَنَّهُ كَانَ يُعْطي بِالْوَحْي.
قَوْله: ( وَإِنِّي) اسْم: إِن، يَاء الْإِضَافَة، وخبرها قَوْله: ( لَا أَحْلف) .
.
إِلَى آخِره، والجملتان معترضتان بَين اسْم إِن وخبرها.
قَوْله: ( أَو أتيت) إِمَّا شكّ من الرَّاوِي فِي تَقْدِيم: أتيت، على تَقْدِيم: كفرت، وَالْعَكْس، وَإِمَّا تنويع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِشَارَة إِلَى جَوَاز تَقْدِيم الْكَفَّارَة على الْحِنْث وتأخيرها.





[ قــ :678 ... غــ :664 ]
- حدّثنا إسْحاق بنُ إبْرَاهِيمَ أخبَرنا عبْدُ الرَّزَّاقِ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنْ هَمَّامٍ بنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هاذَا مَا حدّثنا بِهِ أبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْم القِيامَةِ) .
فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( وَالله لأنْ يَلَجَّ أحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أهْلِهِ آثَمُ لهُ عِنْدَ الله مِنْ أنْ يُعْطِىَ كَفّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ الله عَلَيْهِ) .
( الحَدِيث 566 طرفه فِي: 666) .


مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: ( لِأَن يلج)
إِلَى آخِره.
وَأما وَجه إِدْخَال قَوْله: ( نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ يَوْم الْقِيَامَة) ، فَهُوَ أَن هَذَا أول حَدِيث فِي صحيفَة همام عَن أبي هُرَيْرَة وَكَانَ همام إِذا روى الصَّحِيفَة استفتح بِذكرِهِ ثمَّ سرد الْأَحَادِيث فَذكره الرَّاوِي أَيْضا كَذَلِك،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَجه ذَلِك أَنه يُمكن أَن يكون سمع أَبَا هُرَيْرَة كَذَلِك من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي نسق وَاحِد فَحدث بهما جَمِيعًا كَمَا سمعهما، وَيُمكن أَن الرَّاوِي فعل ذَلِك لِأَنَّهُ سمع من أبي هُرَيْرَة أَحَادِيث.
أَولهَا: ذَلِك فَذكرهَا على التَّرْتِيب الَّذِي ذكره.

وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم يحْتَمل أَن يكون ابْن رَاهَوَيْه، وَيحْتَمل أَن يكون إِسْحَاق بن نصر لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا روى عَن عبد الرَّزَّاق وَمعمر بِفَتْح الميمين ابْن رَاشد.

والْحَدِيث أخرجه ابْن مَاجَه فِي الْكَفَّارَات عَن سُفْيَان من قَوْله: إِذا استلج.

قَوْله: ( نَحن الْآخرُونَ) أَي: آخر الْأُمَم ( السَّابِقُونَ) يَوْم الْقِيَامَة فِي الْحساب وَدخُول الْجنَّة.

قَوْله: ( فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِالْفَاءِ فِي رِوَايَة الْكشميهني بِالْوَاو.
قَوْله: ( لِأَن يلج) من الإلجاج بالجيمين يَعْنِي: أَقَامَ على يَمِينه وَلَا يكفرهَا فيحللها وَيَزْعُم أَنه صَادِق، وَقيل: هُوَ أَن يحلف وَيرى أَن غَيرهَا خير مِنْهَا، فيقيم على ترك الْكَفَّارَة، وَذَلِكَ إِثْم وَفِي ( الصِّحَاح) : لججت، بِالْكَسْرِ يلج لجاجاً ولجاجة، ولججت بِالْفَتْح لُغَة.
قَوْله: ( بِيَمِينِهِ فِي أَهله) يَعْنِي: إِذا حلف يَمِينا يتَعَلَّق بأَهْله ويتضررون بِعَدَمِ حنثه وَلَا يكون فِي الْحِنْث مَعْصِيّة يَنْبَغِي لَهُ أَن يَحْنَث وَيكفر، فَإِن قَالَ: لَا أحنث وأخاف الْإِثْم، فَهُوَ مخطىء.
قَوْله: ( آثم لَهُ) بِمد الْهمزَة وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة على وزن لفظ أفعل التَّفْضِيل وَهُوَ خير.
قَوْله: ( لِأَن يلج) لِأَن: أَن مَصْدَرِيَّة وَاللَّام للتَّأْكِيد.
تَقْدِيره: لجاجه باستمراره فِي يَمِينه أَشد إِثْمًا من أَن يعْطى ... إِلَى آخِره.
وَيجوز كسر إِن.
فَقَوله: ( آثم) بِالْمدِّ، أَي: أَكثر إِثْمًا قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا يشْعر بِأَن إِعْطَاء الْكَفَّارَة فِيهِ إِثْم لِأَن الصِّيغَة تَقْتَضِي الِاشْتِرَاك، ثمَّ أجَاب بِأَن نفس الْحِنْث فِيهِ إِثْم لِأَنَّهُ يسلتزم عدم تَعْظِيم اسْم الله تَعَالَى، وَبَين إِعْطَاء الْكَفَّارَة وَبَينه مُلَازمَة عَادَة.



[ قــ :680 ... غــ :666 ]
- حدّثني إسْحاقُ يَعْني ابْن إبْرَاهِيمَ حَدثنَا يَحْيَاى بنُ صالِحٍ حَدثنَا مُعاوَيَةُ عنْ يَحْيَاى عنْ عِكْرِمَةَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( مَنِ اسْتَلَجَّ فِي أهْلِهِ بِيَمِينٍ فَهْوَ أعْظَمُ إثْماً لِيَبَرَّ) يَعْني: الكَفَّارَةَ.
( انْظُر الحَدِيث 566) .


هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة السَّابِق أخرجه عَن إِسْحَاق ثمَّ بَينه بقوله: ابْن إِبْرَاهِيم،.

     وَقَالَ  الغساني: إِسْحَاق يشبه أَن يكون ابْن مَنْصُور، فَالظَّاهِر أَنه هُوَ الصَّوَاب لِأَن فِي كثير من النّسخ ذكر إِسْحَاق مُجَردا حَتَّى قَالَ جَامع ( رجال الصَّحِيحَيْنِ) فِي تَرْجَمَة يحيى بن صَالح الْحِمصِي، روى عَنهُ إِسْحَاق، غير مَنْسُوب وَهُوَ ابْن مَنْصُور.
وَأما النُّسْخَة الَّتِي فِيهَا يَعْنِي: ابْن إِبْرَاهِيم مَا أزالت الْإِبْهَام لِأَن فِي مَشَايِخ البُخَارِيّ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الصَّواف، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، وَيحيى بن صَالح روى عَنهُ البُخَارِيّ أَيْضا بِلَا وَاسِطَة فِي الصَّلَاة، وَمُعَاوِيَة هُوَ ابْن سَلام بِالتَّشْدِيدِ الحبشي الْأسود، وَيحيى هُوَ ابْن كثير ضد الْقَلِيل.

قَوْله: ( من استلج) من بابُُ الاستفعال، وَالسِّين فِيهِ للتَّأْكِيد، وَذكر ابْن الْأَثِير أَنه وَقع فِي رِوَايَة: من استلجج، بفك الْإِدْغَام.
قَوْله: ( ليبر) بِلَفْظ أَمر الْغَائِب من الْبر أَو الإبرار يَعْنِي: ليفعل الْبر أَي: الْخَيْر بترك اللجاج، يَعْنِي: ليعط الْكَفَّارَة، وَإِنَّمَا فسره بذلك لِئَلَّا يظنّ أَن الْبر هُوَ الْبَقَاء على الْيَمين.
وَقَوله: ( ليبر) هَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن السكن، وَلأبي ذَر عَن الكشمينهي.
قَوْله: ( يَعْنِي) بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر النُّون تَفْسِير: ليبر، ويروى: لَيْسَ تغني الْكَفَّارَة، وَهَذِه الرِّوَايَة أولى إِذْ هُوَ تَفْسِير لاستلج بِمَعْنى الاستلجاج وَهُوَ عدم عناية الْكَفَّارَة وإرادتها، وَأما الْمفضل عَلَيْهِ فمحذوف، يَعْنِي: أعظم من الْحِنْث، وَالْجُمْلَة اسْتِئْنَاف أَو صفة للإثم يَعْنِي: إِثْمًا لَا يُغني عَنهُ كَفَّارَة.