فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول الله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} [الأنعام: 109]

(بابُُ قَوْلِ الله تَعَالَى: { وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم} (الْأَنْعَام: 901 غَيرهَا)

أَي: هَذَا بابُُ فِي قَول الله تَعَالَى: { وأقسموا} هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فِي الْأَنْعَام، وَبعدهَا: { لَئِن جَاءَتْهُم آيَة ليُؤْمِنن بهَا} (الْأَنْعَام: 901) الْآيَة وَفِي سُورَة النُّور { (24) وأقسموا بِاللَّه جهد.
.
أَمرتهم ليخرجن}
(النُّور: 35) الْآيَة.

وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: الْآيَة الأولى نزلت فِي قُرَيْش قَالُوا: يَا مُحَمَّد! تخبرنا عَن مُوسَى كَانَ مَعَه الْعَصَا يضْرب بهَا الْحجر فينفجر مِنْهُ اثْنَتَا عشرَة عينا، وتخبرنا عَن عِيسَى أَنه كَانَ يحيى الْمَوْتَى، وتخبرنا أَن ثَمُود كَانَت لَهُم نَاقَة، فاتنا بِشَيْء من الْآيَات حَتَّى نصدقك؟ الحَدِيث بِطُولِهِ فَأنْزل الله تَعَالَى: { وأقسموا بِاللَّه} أَي: حلفوا بِاللَّه { جهد أَيْمَانهم} أَي: يجْهد أَيْمَانهم يَعْنِي بِكُل مَا قدرُوا عَلَيْهِ من الْأَيْمَان، وأشدها { لَئِن جَاءَتْهُم آيَة} كَمَا جَاءَ من قبله من الْأُمَم { ليُؤْمِنن بهَا} الْآيَة وَالْآيَة الثَّانِيَة: نزلت فِي الْمُنَافِقين كَانُوا يَقُولُونَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيْنَمَا كنت نَكُنْ مَعَك، إِن أَقمت أَقَمْنَا، وَإِن خرجت خرجنَا، وَإِن جاهدت جاهدنا مَعَك، فَقَالَ الله تَعَالَى: { (24) قل لَهُم لَا تقسموا طَاعَة مَعْرُوفَة} (النُّور: 35) بالْقَوْل وَاللِّسَان دون الِاعْتِقَاد فَهِيَ مَعْرُوفَة مِنْكُم بِالْكَذِبِ أَنكُمْ تكذبون فِيهَا، قَالَه مُجَاهِد.
.

     وَقَالَ  الْمُهلب: قَوْله تَعَالَى: { وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم} دَلِيل على أَن الْحلف بِاللَّه أكبر الْأَيْمَان كلهَا لِأَن الْجهد شدَّة الْمَشَقَّة.

وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قَالَ أبُو بَكْر: فَوالله يَا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَتحَدِّثَنِّي بالّذِي أخْطأتُ فِي الرُّؤْيا، قَالَ: لَا تُقْسِمْ

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهَا إِنْكَار قسم الْمُنَافِقين لكذبهم فِي أَيْمَانهم، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس إِنْكَار الْقسم الَّذِي أقسم بِهِ أَبُو بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَكِن الْفرق ظَاهر بَين الْقسمَيْنِ.
وَهُوَ من حَدِيث مطول ذكره البُخَارِيّ مُسْندًا فِي كتاب التَّعْبِير فِي: بابُُ من لم ير الرُّؤْيَا الأول عَابِر.
قَوْله: (فِي الرُّؤْيَا) أَي: فِي تَعْبِير الرُّؤْيَا.
قَوْله: (لَا تقسم) نهي عَن الْقسم.
فَإِن قلت: أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بإبرار الْمقسم، كَمَا يَجِيء الْآن، فَلم مَا أبره؟ .

قلت: ذَلِك مَنْدُوب عِنْد عدم الْمَانِع، فَكَانَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَانع مِنْهُ.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: أَمر الشَّارِع بإبرار الْمقسم أَمر دنب لَا وجوب لِأَن الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أقسم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يبر قسمه وَلَو كَانَ وَاجِبا لَأَبَره.
.

     وَقَالَ  الْمُهلب: إبرار الْمقسم إِنَّمَا يسْتَحبّ إِذا لم يكن فِي ذَلِك ضَرَر على الْمَحْلُوف عَلَيْهِ، أَو على جمَاعَة أهل الدّين، لِأَن الَّذِي سكت عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بَيَان مَوضِع الْخَطَأ فِي تَعْبِير الصّديق هُوَ عَائِد على الْمُسلمين، وَسَيَجِيءُ إِيضَاح ذَلِك فِي التَّعْبِير فِي الْبابُُ الْمَذْكُور.



[ قــ :6306 ... غــ :6654 ]
- حدّثنا قَبيصَةُ حدّثنا سُفْيانُ عنْ أشْعَثَ عنْ مُعاوَيَةَ بنِ سُوَيْدِ بنِ مُقَرِّنٍ عنِ البَرَاءِ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

(ح) وحدّثني مُحَمَّد بنُ بَشَّار حدّثنا غُنْدَرٌ حدّثنا شُعْبَةُ عنْ أشْعَثَ عنْ مُعاوِيَةَ بنِ سُوَيْدِ بنِ مقَرَنٍ عنِ البَرَاءِ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: أمَرَنا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بإبْرَارِ المقْسِمِ.

طابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ وجود الْمقسم فِيهَا.
وَأما التَّعَارُض الظَّاهِر الَّذِي بَين حَدِيث ابْن عَبَّاس وَحَدِيث الْبَراء هَذَا فَجَوَابه يفهم مَا ذَكرْنَاهُ الْآن عَن ابْن الْمُنْذر والمهلب.

وَأخرج حَدِيث الْبَراء من طَرِيقين: الأول: عَن قبيصَة بن عقبَة العامري الْكُوفِي عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أَشْعَث بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة وبالثاء الْمُثَلَّثَة ابْن أَب الشعْثَاء سليم بن الْأسود الْكُوفِي عَن مُعَاوِيَة بن سُوَيْد بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الوو ابْن مقرن بِضَم الْمِيم وَفتح الْقَاف وَتَشْديد الرَّاء الْمَكْسُورَة وبالنون الْكُوفِي عَن الْبَراء بن عَازِب الطَّرِيق الثَّانِي: عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَهُوَ لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة عَن أَشْعَث.
.
إِلَى آخِره.

والْحَدِيث الَّذِي فِيهِ إبرار الْمقسم مطولا ومختصراً قد مضى فِي مَوَاضِع كَثِيرَة: فِي الْجَنَائِز ولمظلم واللباس والطب وَالنُّذُور وَالْأَدب وَالنِّكَاح والاستئذان والأشربة.

قَوْله: (الْمقسم) رُوِيَ بِفَتْح السِّين، فوجهه أَن يكون مصدرا بِمَعْنى الإقسام، وَقد يَجِيء الْمصدر على لفظ الْمَفْعُول كَمَا فِي قَوْله: أدخلته مدخلًا.
بِمَعْنى الإدخال، وأخرجته مخرجا بِمَعْنى إخراجاً.





[ قــ :6307 ... غــ :6655 ]
- حدّثنا حفْصُ بنُ عُمَرَ حَدثنَا شُعْبَةُ أخبرنَا عاصِمٌ الأحْوَلُ سَمِعْتُ أَبَا عُثْمانَ يُحَدِّثُ عنْ أُسامَةَ أنَّ ابْنَةً لِرَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْسَلَتْ إلَيْهِ، ومَع رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُسامَة بنُ زَيْدٍ وسَعْدٌ وأُبَيٌّ، أنَّ ابْنِي قَدِ احْتُضِرَ فاشْهَدْنا، فأرْسَلَ يَقْرَأ السّلامَ ويَقُولُ: ( إنَّ لله مَا أخَذَ وَمَا أعْطَى وكُلُّ شَيءٍ عِنْدَهُ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وتَحْتَسِبْ) فأرْسَلَتْ إلَيْه تقْسِمُ عَلَيْهِ، فقامَ وقمْنا مَعَهُ، فَلَمَّا قَعَدَ رُفِعَ إلَيْهِ فأقْعَدَهُ فِي حَجْرِهِ ونَفْسُ الصَّبِيِّ تَقَعْقَعُ، فَفاضَتْ عَيْنا رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ سَعْدٌ: مَا هاذَا يَا رسولَ الله؟ قَالَ: ( هاذَا رَحْمَةٌ يَضَعُها الله فِي قُلُوبِ مَنْ يشاءُ مِنْ عِباِهِ، وإنَّما يَرْحَمَ الله مِنْ عِبادِهِ الرُّحَماءَ) .

طابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( تقسم عَلَيْهِ) وَهُوَ أَيْضا يُنَاسب الحَدِيث السَّابِق من حَيْثُ إِن فِي كل مِنْهُمَا إبرار الْمقسم.
وَأَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن النَّهْدِيّ.

والْحَدِيث مضى فِي الْجَنَائِز عَن عَبْدَانِ، وَفِي الطِّبّ عَن حجاج، وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيد عَن أبي النُّعْمَان وَمضى الْكَلَام فِيهِ.

وَأُسَامَة هُوَ ابْن زيد بن حَارِثَة الْكَلْبِيّ، وَسعد هُوَ ابْن عبَادَة الخزرجي، وَأبي بِضَم الْهمزَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة هُوَ ابْن كَعْب الْأنْصَارِيّ ويروى: أَو أبي، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْبَاء بِالْإِضَافَة إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم، يَعْنِي: مَعَه سعد وَأبي كِلَاهُمَا أَو أَحدهمَا، شكّ الرَّاوِي فِي قَول أُسَامَة، وَفِي أول كتاب الْقدر: أبي بن كَعْب جزما بِلَا شكّ.

قَوْله: ( قد احْتضرَ) بِالضَّمِّ أَي: حَضَره الْمَوْت، قَوْله: ( فَلَمَّا قعد) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( فأقعده) .
أَي: فَأقْعدَ الصَّبِي ( فِي حجره) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسرهَا.
قَوْله: ( وَنَفس الصَّبِي) الْوَاو فِيهِ للْحَال.
قَوْله: ( تقَعْقع) فعل مضارع من التقعقع وَهُوَ حِكَايَة صَوت صَدره من شدَّة النزع.
قَوْله: ( مَا هَذَا؟) اسْتِفْهَام على سَبِيل الاستفسار وَلَيْسَ بعتب على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَعَلَّه سَمعه ينْهَى عَن الْبكاء الَّذِي فِيهِ الصياح أَو العويل فَظن أَنه نهى عَن الْبكاء كُله.
قَوْله: ( هَذَا) إِشَارَة إِلَى الْبكاء من غير صَوت.





[ قــ :6308 ... غــ :6656 ]
- حدّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ: حدّثني مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنِ ابنِ المُسَيَّبِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( لَا يَمُوتُ لأحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ ثَلاَثَةٌ مِنَ الوَلَدِ تَمَسُّهُ النَّارُ إلاّ تَحِلّةَ القَسَمِ) .
( انْظُر الحَدِيث 151) .


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي آخر الحَدِيث.
وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ يروي عَن سعيد بن الْمسيب.

والْحَدِيث مضى فِي الْجَنَائِز فِي: بابُُ فضل من مَاتَ لَهُ ولد فاحتسب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ ... إِلَى آخِره، وَأخرجه فِي الْأَدَب عَن يحيى بن يحيى.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ كِلَاهُمَا عَن قُتَيْبَة.

قَوْله: ( إلاَّ تَحِلَّة الْقسم) أَي: تحليلها، وَالْمرَاد من الْقسم مَا هُوَ مُقَدّر فِي قَوْله تَعَالَى: { وَإِن مِنْكُم إلاَّ واردها} ( مَرْيَم: 17) أَي وَالله مَا مِنْكُم إلاَّ واردها، والمستثنى مِنْهُ هُوَ قَوْله: ( تمسه النَّار) ، لِأَنَّهُ فِي حكم الْبَدَل من قَوْله: لَا يَمُوت، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تمس النَّار من يَمُوت لَهُ ثَلَاثَة إلاَّ بِقدر الْوُرُود.





[ قــ :6309 ... غــ :6657 ]
- حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى حدّثني غنْدَرٌ حدّثنا شُعْبَةُ عنْ مَعْبَدِ بنِ خالِدٍ سَمِعْتُ حارِثَةَ بنَ وهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: ( ألاَ أدُلُّكُمْ عَلى أهْلِ الجَنةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَصَعِّفٍ لوْ أقْسَمَ على الله لأبَرَّهُ، وأهْلِ النّارِ كُلُّ جَوَّاظٍ عُتُلٍّ مُسْتَكْبِرٍ) .
( انْظُر الحَدِيث 8194 وطرفه) .


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: ( لَو أقسم على الله) .

وغندر هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر، ومعبد بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالدال الْمُهْملَة ابْن خَالِد، وحارثة بن وهب الْخُزَاعِيّ.

والْحَدِيث مضى فِي تَفْسِير سُورَة نون والقلم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي نعيم عَن سُفْيَان عَن معبد بن خَالِد ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.

قَوْله: ( متضعف) بتَشْديد الْعين الْمَفْتُوحَة أَي: الَّذِي يستضعفه النَّاس وَيَحْتَقِرُونَهُ لضعف حَاله فِي الدُّنْيَا، وبكسر الْعين أَيْضا المتواضع الخامل المتذلل.
قَوْله: ( لَو أقسم) أَي: لَو حلف يَمِينا طَمَعا فِي كرم الله بإبراره.
( لَأَبَره) وَقيل: مَعْنَاهُ لَو دَعَاهُ لأجابه.
قَوْله: ( جواظ) بِفَتْح الْجِيم وَتَشْديد الْوَاو بالضاء الْمُعْجَمَة وَهُوَ الجموع الْمَمْنُوع وَقيل الْكثير اللَّحْم المختال فِي الْمَشْي بقال جاظ يجوظ جوضا وَفِي ( الْعين) : الجواظ الأكول.
وَيُقَال: الْفَاجِر،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: الْكثير اللَّحْم الغليظ الرَّقَبَة، وَقيل: الْقصير البطين.
قَوْله: ( مستكبر) أَي: عَن الْحق وَالْمرَاد أَن أغلب أهل الْجنَّة هَؤُلَاءِ كَمَا أَن أهل النَّار هَؤُلَاءِ، وَلَيْسَ المُرَاد الِاسْتِيعَاب فِي الطَّرفَيْنِ، وَحَاصِله أَن كل ضَعِيف من أهل الْجنَّة، وَلَا يلْزم الْعَكْس وَكَذَلِكَ أهل النَّار.