فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم

( بابُُ حُكْمِ المرْتَدِّ والمُرْتَدَّةِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الرجل الْمُرْتَد، وَحكم الْمَرْأَة الْمُرْتَدَّة: هَل حكمهمَا سَوَاء أم لَا.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ والزُّهْرِيُّ وإبْرَاهِيمُ: تُقْتَلُ المُرْتَدَّةُ.

أَي: قَالَ عبد الله بن عمر وَمُحَمّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: تقتل الْمَرْأَة الْمُرْتَدَّة، فعلى هَذَا لَا فرق بَين الْمُرْتَد والمرتدة بل حكمهمَا سَوَاء.
وَأثر ابْن عمر أخرجه ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَن عبد الْكَرِيم عَمَّن سمع ابْن عمر،.

     وَقَالَ  صَاحب التَّلْوِيح ينظر فِي جزم البُخَارِيّ بِهِ على قَول من قَالَ: المجزوم صَحِيح.
وَأثر الزُّهْرِيّ وَصله عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ فِي الْمَرْأَة تكفر بعد إسْلَامهَا قَالَ: تستتاب فَإِن تابت وإلّا قتلت.
وَأثر إِبْرَاهِيم أخرجه عبد الرَّزَّاق أَيْضا عَن معمر عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن أبي معشر عَن إِبْرَاهِيم مثله.
وَاخْتلف النقلَة عَن إِبْرَاهِيم.
فَإِن قلت: أخرج ابْن أبي شيبَة عَن حَفْص عَن عُبَيْدَة عَن إِبْرَاهِيم: لَا تقتل.
قلت: عُبَيْدَة ضَعِيف فَالْأول أولى، وروى أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن عَاصِم عَن أبي ذَر عَن ابْن عَبَّاس: لَا تقتل النِّسَاء إِذا هن ارتددن.

واسْتِتابَتِهمْ.

كَذَا ذكره بعد ذكر الْآثَار الْمَذْكُورَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر ذكره قبلهَا، وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: واستتابتهما بالتثنية على الأَصْل لِأَن الْمَذْكُور اثْنَان: الْمُرْتَد والمرتدة، وَأما وَجه الذّكر بِالْجمعِ فَقَالَ بَعضهم جمع على إِرَادَة الْجِنْس.
قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء، بل هُوَ على من يرى إِطْلَاق الْجمع على التَّثْنِيَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { إِن تَتُوبَا إِلَى الله فقد صغت قُلُوبكُمَا وَإِن تظاهرا عَلَيْهِ فَإِن الله هُوَ مَوْلَاهُ وجيريل وَصَالح الْمُؤمنِينَ والملاكة بعد ذَلِك طهير} وَالْمرَاد قلباكما.

وَقَالَ الله تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الاَْرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَاءِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}
آل عمرَان: 86 90
هَذِه خمس آيَات مُتَوَالِيَات من سُورَة آل عمرَان فِي رِوَايَة أبي ذَر.
قَالَ الله تَعَالَى:

إِلَى آخرهَا وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ بعد قَوْله: حق إِلَى قَوْله: { إِن تقبل تَوْبَته وؤولئك هم الظَّالِمُونَ} وسَاق فِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي مَا حذف من الْآيَة لأبي ذَر.
.

     وَقَالَ  ابْن جرير بِإِسْنَادِهِ إِلَى عِكْرِمَة: عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ رجل من الْأَنْصَار أسلم ثمَّ ارْتَدَّ وأخفى الشّرك ثمَّ نَدم، فَأرْسل إِلَى قومه: أرْسلُوا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل لي من تَوْبَة؟ قَالَ: فَنزلت إِلَى قَوْله: { غَفُور رَحِيم} فَأرْسل إِلَيْهِ قومه فَأسلم، وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَالْحَاكِم من طَرِيق دَاوُد بن أبي هِنْد بِهِ،.

     وَقَالَ  الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ.
قَوْله: { وجاءهم الْبَينَات} أَي: قَامَت عَلَيْهِم الْحجَج والبراهين على مَا جَاءَهُم بِهِ الرَّسُول ووضح لَهُم الْأَمر ثمَّ ارْتَدُّوا إِلَى ظلمَة الشّرك، فَكيف يسْتَحق هَؤُلَاءِ الْهِدَايَة بعد مَا تلبسوا بِهِ من العماية؟ وَلِهَذَا قَالَ: { وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} قَوْله: { خَالِدين فِيهَا} أَي: فِي اللَّعْنَة.
قَوْله: { إِلَّا الَّذين تَابُوا} الْآيَة هَذَا من لطفه وَرَحمته ورأفته على خلقه أَنه من تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ.
قَوْله: { إِن الَّذين كفرُوا} الْآيَة توعد من الله وتهدد لمن كفر بعد إيمَانه.
قَوْله: { ثمَّ ازدادوا كفرُوا} يَعْنِي: استمروا عَلَيْهِ إِلَى الْمَمَات لَا تقبل لَهُم تَوْبَة عِنْد مماتهم.
قَوْله: { وَأُولَئِكَ هم الظَّالِمُونَ} : الخارجون عَن مَنْهَج الْحق إِلَى طَرِيق الغي.

وَقَالَ: { يااأيها الَّذين ءامنوا إِن تطيعوا فريقاً من الَّذين أُوتُوا الْكتاب يردوكم بعد إيمَانكُمْ كَافِرين} هَذِه الْآيَة فِي سُورَة آل عمرَان أَيْضا، يحذر الله تَعَالَى عباده الْمُؤمنِينَ عَن أَن يطيعوا فريقاً، أَي: طَائِفَة من الَّذين أُوتُوا الْكتاب الَّذين يحسدون الْمُؤمنِينَ على مَا آتَاهُم الله من فَضله وَمَا منحهم بِهِ من إرْسَال رَسُوله،.

     وَقَالَ  عِكْرِمَة: هَذِه الْآيَة نزلت فِي شماس بن قيس الْيَهُودِيّ، دس على الْأَنْصَار من ذكرهم بالحروب الَّتِي كَانَت بَينهم فكادوا يقتتلون، فَأَتَاهُم النَّبِي فَذكرهمْ فعرفوا أَنَّهَا من الشَّيْطَان، فتعانق بَعضهم بَعْضًا ثمَّ انصرفوا سَامِعين مُطِيعِينَ، فَنزلت.
وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَوْصُولا.

وَقَالَ: الَّذين ءامنوا ثمَّ كفرُوا ثمَّ ءامنوا ثمَّ كفرُوا ثمَّ ازدادوا كفرالم يكن الله ليغفر لَهُم وَلَا ليهديهم سَبِيلا.

هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فِي سُورَة النِّسَاء، وسيقت هَذِه الْآيَة كلهَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر هَكَذَا: { إِن الَّذين آمنُوا ثمَّ كفرُوا} إِلَى سَبِيلا وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ { ثمَّ كفرُوا ثمَّ آمنُوا ثمَّ كفرُوا ثمَّ ازدادوا} الْآيَة أخبر الله تَعَالَى عَمَّن دخل فِي الْإِيمَان ثمَّ رَجَعَ وَاسْتمرّ على ضلالته وازداد حَتَّى مَاتَ بِأَنَّهُ لَا يغْفر الله لَهُ وَلَا يَجْعَل لَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ فرجا وَلَا مخرجا وَلَا طَرِيقا إِلَى الْهدى، وَلِهَذَا قَالَ: { لم يكن الله ليغفر لَهُم} وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق جَابر الْمُعَلَّى عَن عَامر الشّعبِيّ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: يُسْتَتَاب الْمُرْتَد ثَلَاثًا، ثمَّ تلى هَذِه الْآيَة: { إِن الَّذين آمنُوا} الْآيَة.

وَقَالَ: { ياأيها الَّذين ءامنوا من يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم ذَلِك فضل الله يؤتيه لمن يَشَاء وَالله وَاسع عليم}
هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فِي الْمَائِدَة سَاقهَا بِتَمَامِهَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة وأولها: { يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا من يرْتَد} الْآيَة وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: من يرتدد، بفك الْإِدْغَام وَهِي قِرَاءَة ابْن عَامر وَنَافِع، وَيُقَال: إِن الْإِدْغَام لُغَة تَمِيم والإظهار لُغَة الْحجاز.
.

     وَقَالَ  مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: نزلت فِي الْوُلَاة من قُرَيْش،.

     وَقَالَ  الْحسن الْبَصْرِيّ: نزلت فِي أهل الرِّدَّة أَيَّام أبي بكر الصّديق.
قَوْله: { بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قَالَ الْحسن: هُوَ وَالله أَبُو بكر وَأَصْحَابه رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم.
.

     وَقَالَ  أَبُو بكر بن أبي شيبَة: سَمِعت أَبَا بكر بن عَيَّاش يَقُول: هم أهل الْقَادِسِيَّة، وَعَن مُجَاهِد: هم قوم من سبأ،.

     وَقَالَ  ابْن أبي حَاتِم بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس قَالَ: نَاس من أهل الْيمن ثمَّ من كِنْدَة ثمَّ من السّكُون.
قَوْله: { أَذِلَّة} جمع ذليل وَضمن الذل معنى الحنو والعطف فَلذَلِك قيل: { أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ} كَأَنَّهُ قيل: عاطفين عَلَيْهِم على وَجه التذلل والتواضع، وقرىء: أَذِلَّة وأعزة، بِالنّصب على الْحَال.

وقالَ: { من كفر بِاللَّه بعد إيمَانه إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا فَعَلَيْهِم غضب من الله وَلَهُم عَذَاب عَظِيم}
هَذِه الْآيَات كلهَا فِي سُورَة النَّحْل مُتَوَالِيَة سيقت كلهَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر { من شرح بالْكفْر} إِلَى قَوْله: { وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا} أَي: طَابَ بِهِ نفسا فاعتقده.
قَوْله: { ذَلِك} إِشَارَة إِلَى الْوَعيد وَأَن العضب وَالْعَذَاب يلحقانهم بِسَبَب استحبابُهم الدُّنْيَا على الْآخِرَة.
قَوْله: { وَأُولَئِكَ هم الغافلون} الكاملون فِي الْغَفْلَة الَّذين لَا أحد أغفل مِنْهُم.
قَوْله: { لَا جرم} بِمَعْنى حَقًا.
وجرم فعل عِنْد الْبَصرِيين وَاسم عِنْد الْكُوفِيّين بِمَعْنى حقّاً، وَتدْخل اللَّام فِي جَوَابه نَحْو: لَا جرم لآتينك،.

     وَقَالَ  تَعَالَى: { ويجعلون لله مَا يكْرهُونَ وتصف ألسنتهم الْكَذِب أَن لَهُم الْحسنى لَا جرم أَن لَهُم النَّار وَأَنَّهُمْ مفرطون} فعلى قَول الْبَصرِيين: لَا رد لقَوْل الْكفَّار، وجرم مَعْنَاهُ عِنْدهم: كسب، أَي كسب كفرهم النَّار لَهُم.
{ يَا أَيهَا النَّاس اعبدوا ربكُم الَّذِي خَلقكُم والذينمن قبلكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} .

هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فِي سُورَة الْبَقَرَة سبق كلهَا هَكَذَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: { وَلَا يزالزن يقاتلونكم حَتَّى يردوكم عَن دينكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا} إِلَى قَوْله: { وَأُولَئِكَ هم أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ} قَوْله: { حَتَّى يردوكم} يَعْنِي: مُشْركي مَكَّة.
قَوْله: يَعْنِي: حَتَّى يصرفوكم.
قَوْله: مجزوم لِأَنَّهُ مَعْطُوف على مَا قبله، وَلَو كَانَ جَوَابا لَكَانَ مَنْصُوبًا.
قَوْله: أَي: بطلت أَعْمَالهم أَي حسناتهم.
وَفِي هَذِه الْآيَة تَقْيِيد مُطلق مَا فِي قَوْله: الْآيَة أَي: شَرط حَبط الْأَعْمَال عِنْد الارتداد أَن يَمُوت وَهُوَ كَافِر.



[ قــ :6557 ... غــ :6922 ]
- حدّثنا أبُو النُّعْمان مُحَمَّدُ بنُ الفَضْلِ، حدّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، عنْ أيُّوبَ، عنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أُتِيَ عَلِيُّ، رَضِي الله عَنهُ، بِزَنادِقَةٍ فأحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذالِكَ ابنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنا لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رسولِ الله لَا تُعَذِّبُوا بِعَذابِ الله ولَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رسولِ الله مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فاقْتُلُوهُ.

انْظُر الحَدِيث 3017
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ وَالَّذِي يُبدل دينه هُوَ الْمُرْتَد.

وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَعِكْرِمَة مولى عبد الله بن عَبَّاس.

والْحَدِيث مضى فِي الْجِهَاد عَن عَليّ بن عبد الله، وَمر الْكَلَام فِيهِ.

قَوْله: أُتِي على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: بزنادقة جمع زنديق بِكَسْر الزَّاي فَارسي مُعرب،.

     وَقَالَ  سِيبَوَيْهٍ: الْهَاء فِي زنادقة بدل من يَاء زنديق.
وَقد تزندق وَالِاسْم الزندقة، وَاخْتلف فِي تَفْسِيره فَقيل: هُوَ المبطن للكفر الْمظهر لِلْإِسْلَامِ كالمنافق، وَقيل: قوم من الثنوية الْقَائِلين بالخالقين، وَقيل: من لَا دين لَهُ، وَقيل: هُوَ من تبع كتاب زردشت الْمُسَمّى بالزند، وَقيل: هم طَائِفَة من الروافض تدعى السبائية، ادعوا أَن عليّاً، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إلاه وَكَانَ رئيسهم عبد الله بن سبأ.
بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَكَانَ أَصله يَهُودِيّا.
قَوْله: فأحرقهم قد مضى فِي كتاب الْجِهَاد فِي: بابُُ لَا يعذب بِعَذَاب الله، من طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن أَيُّوب بِهَذَا السَّنَد: أَن عليّاً، رَضِي الله عَنهُ، حرق قوما، وروى الْحميدِي عَن سُفْيَان بِلَفْظ: حرق الْمُرْتَدين، وروى ابْن أبي شيبَة: كَانَ أنَاس يعْبدُونَ الْأَصْنَام فِي السِّرّ، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط من طَرِيق سُوَيْد بن غَفلَة: أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بلغه أَن قوما ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام فَبعث إِلَيْهِم فأطعمهم ثمَّ دعاهم إِلَى الْإِسْلَام فَأَبَوا فَحَفَرُوا حفيرة ثمَّ أَتَى بهم فَضرب أَعْنَاقهم وَرَمَاهُمْ فِيهَا ثمَّ ألْقى عَلَيْهِم الْحَطب فأحرقهم ثمَّ قَالَ: صدق الله، وَرَسُوله، وروى الْإِسْمَاعِيلِيّ حَدِيث عِكْرِمَة، وَلَفظه: أَن عليّاً أُتِي بِقوم قد ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام، أَو قَالَ: بزنادقة وَمَعَهُمْ كتب لَهُم، فَأمر بِنَار فانضجت وَرَمَاهُمْ فِيهَا، وَرُوِيَ عَن قَتَادَة أَن عليّاً أُتِي بناس من الزط يعْبدُونَ وثناً فأحرقهم، فَقَالَ ابْن عَبَّاس ... الحَدِيث.
قَوْله: فَبلغ ذَلِك ابْن عَبَّاس أَي: بلغ مَا فعله عَليّ من الإحراق بالنَّار، وَكَانَ ابْن عَبَّاس حينئذٍ أَمِيرا على الْبَصْرَة من قبل عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: لنهي رَسُول الله لَا تعذبوا بِعَذَاب الله أَي: لنَهْيه عَن الْقَتْل بالنَّار.
بقوله: لَا تعذبوا وَهَذَا يحْتَمل أَن يكون ابْن عَبَّاس قد سَمعه من النَّبِي وَيحْتَمل أَن يكون قد سَمعه من بعض الصَّحَابَة.
وَاخْتلف فِي الزنديق: هَل يُسْتَتَاب؟ فَقَالَ مَالك وَاللَّيْث وَأحمد وَإِسْحَاق: يقتل وَلَا تقبل تَوْبَته.
وَقَول أَبُو حنيفَة وَأبي يُوسُف مُخْتَلف فِيهِ، فَمرَّة قَالَا: بالاستتابة، وَمرَّة قَالَا: لَا.
قلت: رُوِيَ عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ: إِن أتيت بزنديق أستتيبه، فَإِن تَابَ وإلاَّ قتلته.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: يُسْتَتَاب كالمرتد، وَهُوَ قَول عبد الله بن الْحسن، وَذكر ابْن الْمُنْذر عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
مثله، وَقيل لمَالِك: لم تقتله، وَرَسُول الله لم يقتل الْمُنَافِقين وَقد عرفهم فَقَالَ: لِأَن تَوْبَته لَا تعرف.
.

     وَقَالَ  ابْن الطلاع فِي أَحْكَامه لم يَقع فِي شَيْء من المصنفات الْمَشْهُورَة أَنه قتل مُرْتَدا وَلَا زنديقاً، وَقتل الصّديق امْرَأَة يُقَال لَهَا: أم قرفة ارْتَدَّت بعد إسْلَامهَا.


حدّثنا مُسَدَّدٌ، حدّثنا يَحْياى، عنْ قُرَّةَ بنِ خالِدٍ قَالَ: حدّثني حُمَيْدُ بنُ هلالٍ، حدّثنا أَبُو بُرْدَةَ عنْ أبي مُوساى قَالَ: أقْبَلْتُ إِلَى النَّبيِّ ومَعِي رَجُلانِ مِنَ الأشْعَرِيِّينَ أحَدُهُما عنْ يَمِينِي والآخرُ عنْ يَسارِي، ورسولُ الله يَسْتاكُ فَكِلاهُما سَأل، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوساى أوْ: يَا عَبْدَ الله بنَ قَيْسٍ قَالَ: قُلْتُ: والّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ مَا أطْلعانِي عَلى مَا فِي أنْفُسِهِما وَمَا شَعَرْتُ أنَّهُما يَطْلُبان العَمَل، فَكأنِّي أنْظُرُ إِلَى سِواكِه تَحْتَ شَفَتِهِ قَلَصَتْ، فَقَالَ: لَنْ أوْ لَا نَسْتَعْمِلُ عَلى عَمَلِنا مِنْ أرَادَهُ، ولَكِنِ اذْهَبْ أنْتَ يَا أَبَا مُوساى، أوْ: يَا عَبْدَ الله بنَ قَيْسٍ إِلَى اليَمَنِ ثُمَّ اتْبَعَهُ مُعاذَ بنُ جَبَلٍ فَلمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ ألْقَى لهُ وِسادَةً، قَالَ: انْزِلْ، وإذَا رجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ.
قَالَ: مَا هاذا؟ قَالَ: كانَ يَهُودِيّاً فأسْلَمَ، ثُمَّ تَهَوَّدَ، قَالَ: اجْلِسْ.
قَالَ: لَا أجْلِسُ حتَّى يُقْتَلَ، قَضاءُ الله ورسُولِه، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فأمَرَ بِهِ فَقُتِلَ، ثُمَّ تَذَاكَرَا قِيامَ اللَّيْلِ فَقَالَ أحَدُهُما: أمَّا أَنا فأقُومُ وأنامُ وأرْجُو فِي نَوْمَتي مَا أرْجُو فِي قَوْمَتي.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: فَأمر بِهِ فَقتل
وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وقرة، بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الرَّاء، ابْن خَالِد السدُوسِي، وَأَبُو بردة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة اسْمه: عَامر، وَقيل: الْحَارِث، وَاسم أبي مُوسَى: عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ.

والْحَدِيث مضى مُخْتَصرا وَمُطَولًا فِي الْإِجَارَة، وَسَيَجِيءُ فِي الْأَحْكَام، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.

قَوْله: وَمَعِي رجلَانِ لم يدر اسمهما، وَفِي مُسلم رجلَانِ من بني عمي، وَكِلَاهُمَا أَي: كلا الرجلَيْن الْمَذْكُورين سَأَلَ، كَذَا بِحَذْف المسؤول، وَبَينه أَحْمد فِي رِوَايَته: سَأَلَ الْعَمَل، يَعْنِي: الْولَايَة.
قَوْله: أَو: يَا عبد الله بن قيس شكّ من الرَّاوِي بِأَيِّهِمَا خاطبه، قَوْله: قلصت أَي: انزوت، وَيُقَال: قاص، أَي: ارْتَفع.
قَوْله: فَقَالَ: لن أَو لَا شكّ من الرَّاوِي أَي: لن نستعمل على عَملنَا من أَرَادَهُ، أَو: لَا نستعمل من أَرَادَهُ، أَي: من أَرَادَ الْعَمَل، وَفِي رِوَايَة أبي العميس: من سَأَلنَا، بِفَتْح اللَّام.
قَوْله: أَو يَا عبد الله شكّ من الرَّاوِي.
قَوْله: ثمَّ اتبعهُ بِسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق.
قَوْله: معَاذ بن جبل بِالنّصب أَي: ثمَّ اتبع رَسُول الله أَبَا مُوسَى معَاذ بن جبل، أَي: بَعثه بعده، ويروى: ثمَّ أتبعه بتَشْديد التَّاء، فعلى هَذَا يكون معَاذ مَرْفُوعا على الفاعلية.
وَتقدم فِي الْمَغَازِي بِلَفْظ: بعث النَّبِي أَبَا مُوسَى وَمعَاذًا إِلَى الْيمن، فَقَالَ: يسرا وَلَا تعسرا، وَيحمل على أَنه أضَاف معَاذًا إِلَى أبي مُوسَى بعد سبق ولَايَته، لَكِن قبل توجهه وصاه.
قَوْله: فَلَمَّا قدم عَلَيْهِ مضى فِي الْمَغَازِي: أَن كلاًّ مِنْهُمَا كَانَ على عمل مُسْتَقل، وَأَن كلاًّ مِنْهُمَا إِذا سَار فِي أرضه فَقرب من صَاحبه أحدث بِهِ عهدا، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى هُنَاكَ: فَجعلَا يتزاوران، فزار معَاذ أَبَا مُوسَى.
قَوْله: ألْقى لَهُ وسَادَة بِكَسْر الْوَاو وَهِي المخدة.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَمعنى ألْقى وسَادَة فرشها لَهُ.
قلت: هَذَا غير صَحِيح، والوسادة لَا تفرش وَإِنَّمَا الْمَعْنى: وضع الوسادة تَحْتَهُ ليجلس عَلَيْهَا، وَكَانَت عَادَتهم وضع الوسادة تَحت من أَرَادوا إكرامه مُبَالغَة فِيهِ.
قَوْله: انْزِلْ أَي: فاجلس على الوسادة.
قَوْله: فَإِذا رجل كلمة: إِذا، للمفاجأة.
قَوْله: موثق أَي: مربوط بِقَيْد، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ: فَإِذا عِنْده رجل موثق بالحديد، فَقَالَ: يَا أخي أبعثت تعذب النَّاس؟ إِنَّمَا بعثنَا نعلمهُمْ دينهم ونأمرهم بِمَا يَنْفَعهُمْ، فَقَالَ: إِنَّه أسلم ثمَّ كفر، فَقَالَ: وَالَّذِي بعث مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَا أَبْرَح حَتَّى أحرقه بالنَّار.
قَوْله: قَضَاء الله بِالرَّفْع خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هَذَا قَضَاء الله، أَي: حكم الله،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَيجوز النصب وَلم يبين وَجهه.
قَوْله: ثَلَاث مَرَّات أَي: كررا هَذَا الْكَلَام ثَلَاث مَرَّات، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: أَنَّهُمَا كررا القَوْل، فَأَبُو مُوسَى يَقُول: اجْلِسْ، ومعاذ يَقُول: لَا أَجْلِس، فعلى هَذَا قَوْله: ثَلَاث مَرَّات من كَلَام الرَّاوِي لَا تَتِمَّة كَلَام معَاذ.
قَوْله: فَأمر بِهِ فَقتل وَفِي رِوَايَة أَيُّوب: فَقَالَ: وَالله لَا أقعد حَتَّى تضرب عُنُقه، فَضرب عُنُقه.
وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ الَّتِي مَضَت الْآن: فَأتى بحطب فألهب فِيهِ النَّار فكتفه وَطَرحه فِيهَا، وَيُمكن الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّهُ ضرب عُنُقه ثمَّ أَلْقَاهُ فِي النَّار، وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَن معَاذًا وَأَبا مُوسَى كَانَا يريان جَوَاز التعذيب بالنَّار وإحراق الْمُرْتَد بالنَّار ومبالغة فِي إهانته وترهيباً من الِاقْتِدَاء بِهِ، وَقد مر أَن عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أحرق الزَّنَادِقَة بالنَّار،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: إحراق عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الزَّنَادِقَة لَيْسَ بخطأ، لِأَنَّهُ قَالَ لقوم: إِن لَقِيتُم فلَانا وَفُلَانًا فأحرقوهم بالنَّار، ثمَّ قَالَ: إِن لقيتموهما فاقتلوهما فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَن يعذب بِعَذَاب الله، وَلم يكن، يَقُول فِي الْغَضَب وَالرِّضَا إلاَّ حقّاً، قَالَ الله تَعَالَى: { وَمَا ينْطق عَن الْهوى} قَوْله: فأرجو فِي نومتي بالنُّون أَي نومي مَا أَرْجُو فِي قومتي بِالْقَافِ أَي: فِي قيامي بِاللَّيْلِ، وَفِي رِوَايَة سعيد: وأحتسب فِي نومتي مَا أحتسب فِي قومتي، كَمَا مر فِي الْمَغَازِي، وَحَاصِله أَن يَرْجُو الْأجر فِي ترويح نَفسه بِالنَّوْمِ ليَكُون أنشط لَهُ فِي الْقيام.