فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من أدرك من الفجر ركعة


[ قــ :563 ... غــ :579]
- حدَّثنا أبُو نَعِيمٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عنْ أبي سَلَمَةَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَدْرَكَ أحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ العَصْرِ قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلاَتَهُ وَإِذَا أدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أنْ تَطْلَعُ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلاَتَهُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (إِذا أدْرك أحدكُم سَجْدَة من صَلَاة الْعَصْر) .
(فَإِن قلت: الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة رَكْعَة، وَفِي الحَدِيث: سَجْدَة، والترجمة فِي الْإِدْرَاك من الْعَصْر، والْحَدِيث فِي: الْعَصْر وَالصُّبْح، فَلَا تطابق؟ قلت: المُرَاد من السَّجْدَة الرَّكْعَة على مَا يَجِيء إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَترك الصُّبْح فِيهَا من بابُُ الِاكْتِفَاء.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وشيبان بن عبد الرَّحْمَن التَّمِيمِي، وَيحيى بن أبي كثير، وَأَبُو سَلمَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري ومدني.

ذكر الِاخْتِلَاف فِي أَلْفَاظ الحَدِيث الْمَذْكُور: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك الصُّبْح، وَمن أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فقد أدْرك الْعَصْر) .
أخرجه فِي بابُُ من أدْرك من الْفجْر رَكْعَة، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ (إِذا أدْرك أحدكُم أول السَّجْدَة من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته) .
وَكَذَا أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) ، وَرَوَاهُ أَحْمد بن منيع وَلَفظه: (من أدْرك مِنْكُم أول رَكْعَة من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته، وَمن أدْرك رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك) .
وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (إِذا أدْرك أحدكُم أول السَّجْدَة من صَلَاة الْعَصْر) وَعند السراج: (من صلى بِسَجْدَة وَاحِدَة من الْعَصْر قبل غرُوب الشَّمْس ثمَّ صلى مَا بَقِي بعد غرُوب الشَّمْس فَلم يفته الْعَصْر، وَمن صلى سَجْدَة وَاحِدَة من الصُّبْح قبل طُلُوع الشَّمْس ثمَّ صلى مَا بَقِي بعد طُلُوعهَا فَلم يفته الصُّبْح) .
وَفِي لفظ: (من أدْرك رَكْعَة من الْفجْر قبل أَن تطلع الشَّمْس وركعة بعد مَا تطلع فقد أدْرك) .
وَفِي لفظ: (من صلى رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح ثمَّ طلعت الشَّمْس فليتم صلَاته) .
وَفِي لفظ: (من أدْرك رَكْعَة من الْجُمُعَة فَليصل إِلَيْهَا أُخْرَى) .
وَفِي لفظ: (من صلى سَجْدَة وَاحِدَة من الْعَصْر قبل غرُوب الشَّمْس، ثمَّ صلى مَا بَقِي بعد الْغُرُوب فَلم يفته الْعَصْر) .
وَفِي لفظ: (من أدْرك قبل طُلُوع الشَّمْس سَجْدَة فقد أدْرك الصَّلَاة، وَمن أدْرك قبل غرُوب الشَّمْس سَجْدَة فقد أدْرك الصَّلَاة) .
وَفِي لفظ: (من أدْرك رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ من صَلَاة الْعَصْر) ، وَفِي لفظ: (رَكْعَتَيْنِ) ، من غير تردد.
غير أَنه مَوْقُوف، وَهُوَ عِنْد ابْن خُزَيْمَة مَرْفُوع بِزِيَادَة: (أَو رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح) وَهُوَ عِنْد الطَّيَالِسِيّ: (من أدْرك من الْعَصْر رَكْعَتَيْنِ أَو رَكْعَة الشَّك من أبي بشر قبل أَن تغيب الشَّمْس فقد أدْرك، وَمن أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك) .
وَعند أَحْمد: (من أدْرك رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك، وَمن أدْرك رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فقد أدْرك) .
وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (من أدْرك من صَلَاة رَكْعَة فقد أدْرك) .
وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: (قبل أَن يُقيم الإِمَام صلبه فقد أدْركهَا) ، وَعِنْده أَيْضا: (فقد أدْرك الْفَضِيلَة وَيتم مَا بَقِي) ، وَضَعفه وَفِي (سنَن) الكبحي: (من أدْرك من صَلَاة رَكْعَة فقد أدْركهَا) ، وَفِي (الصَّلَاة) لأبي نعيم: (وَمن أدْرك رَكْعَتَيْنِ قبل أَن تغرب الشَّمْس، وَرَكْعَتَيْنِ بعد أَن غَابَتْ الشَّمْس فَلم تفته الْعَصْر) .
وَعند مُسلم: (من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة مَعَ الإِمَام فقد أدْرك الصَّلَاة) .
وَعند النَّسَائِيّ بِسَنَد صَحِيح: (من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة فقد أدْرك الصَّلَاة كلهَا إلاَّ أَنه يقْضِي مَا فَاتَهُ) ، وَعند الطَّحَاوِيّ: (من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة فقد أدْرك الصَّلَاة وفضلها) .
قَالَ: وَأكْثر الروَاة لَا يذكرُونَ: فَضلهَا، قَالَ: وَهُوَ الْأَظْهر.
وَعند الطَّحَاوِيّ: من حَدِيث عَائِشَة نَحْو حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا أدْرك) كلمة: إِذا، تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط، فَلذَلِك دخلت: الْفَاء، فِي جوابها، وَهُوَ قَوْله: (فليتم صلَاته) .
قَوْله: (سَجْدَة) أَي: رَكْعَة، يدل عَلَيْهِ الرِّوَايَة الْأُخْرَى للْبُخَارِيّ: (من أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة) .
وَكَذَلِكَ فَسرهَا فِي رِوَايَة مُسلم: حَدثنِي أَبُو الطَّاهِر وحرملة، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب، والسياق لحرملة، قَالَ: أَخْبرنِي يُونُس عَن ابْن شهَاب أَن عُرْوَة بن الزبير حَدثهُ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أدْرك من الْعَصْر سَجْدَة قبل أَن تغرب الشَّمْس، أَو من الصُّبْح قبل أَن تطلع، فقد أدْركهَا) .
والسجدة إِنَّمَا هِيَ الرَّكْعَة، وفسرها حَرْمَلَة، وَكَذَا فسر فِي (الْأُم) أَنه يعبر بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا عَن الآخر، وأيا مَا كَانَ، فَالْمُرَاد: بعض الصَّلَاة، وَإِدْرَاك شَيْء مِنْهَا، وَهُوَ يُطلق على الرَّكْعَة والسجدة وَمَا دونهَا، مثل: تَكْبِيرَة الْإِحْرَام.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ؛ قَوْله: (سَجْدَة) ، مَعْنَاهَا: الرَّكْعَة بركوعها وسجودها، والركعة إِنَّمَا يكون تَمامهَا بسجودها، فسميت على هَذَا الْمَعْنى سَجْدَة: فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين قَوْله: (من أدْرك من الصُّبْح سَجْدَة؟) وَبَين قَوْله: (من أدْرك سَجْدَة من الصُّبْح؟) قلت: رِوَايَة تقدم السَّجْدَة هِيَ السَّبَب الَّذِي بِهِ الْإِدْرَاك، وَمن قدم الصُّبْح أَو الْعَصْر قبل الرَّكْعَة فَلِأَن هذَيْن الإسمين هما اللَّذَان يدلان على هَاتين الصَّلَاتَيْنِ دلَالَة خَاصَّة تتَنَاوَل جَمِيع أوصافها، بِخِلَاف السَّجْدَة فَإِنَّهَا تدل على بعض أَوْصَاف الصَّلَاة، فَقدم اللَّفْظ الْأَعَمّ الْجَامِع.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا صَرِيحًا فِي أَن من صلى رَكْعَة من الْعَصْر، ثمَّ خرج الْوَقْت قبل سَلَامه لَا تبطل صلَاته، بل يُتمهَا، وَهَذَا بِالْإِجْمَاع.
وَأما فِي الصُّبْح فَكَذَلِك عِنْد الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد.
وَعند أبي حنيفَة: تبطل صَلَاة الصُّبْح بِطُلُوع الشَّمْس فِيهَا، وَقَالُوا: الحَدِيث حجَّة على أبي حنيفَة.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: قَالَ أَبُو حنيفَة: تبطل صَلَاة الصُّبْح بِطُلُوع الشَّمْس فِيهَا، لِأَنَّهُ دخل وَقت النَّهْي عَن الصَّلَاة، بِخِلَاف الْغُرُوب، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ.
قلت: من وقف على مَا أسس عَلَيْهِ أَبُو حنيفَة عرف أَن الحَدِيث لَيْسَ بِحجَّة عَلَيْهِ، وَعرف أَن غير هَذَا الحَدِيث من الْأَحَادِيث حجَّة عَلَيْهِم، فَنَقُول: لَا شكّ أَن الْوَقْت سَبَب للصَّلَاة وظرف لَهَا، وَلَكِن لَا يُمكن أَن يكون كل الْوَقْت سَببا، لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك يلْزم تَأْخِير الْأَدَاء عَن الْوَقْت، فَتعين أَن يَجْعَل بعض الْوَقْت سَببا، وَهُوَ الْجُزْء الأول لسلامته عَن المزاحم، فَإِن اتَّصل بِهِ الْأَدَاء تقررت السَّبَبِيَّة وإلاَّ تنْتَقل إِلَى الْجُزْء الثَّانِي وَالثَّالِث وَالرَّابِع وَمَا بعده إِلَى أَن يتَمَكَّن فِيهِ من عقد التَّحْرِيمَة إِلَى آخر جُزْء من أَجزَاء الْوَقْت، ثمَّ هَذَا الْجُزْء إِن كَانَ صَحِيحا، بِحَيْثُ لم ينْسب إِلَى الشَّيْطَان وَلم يُوصف بِالْكَرَاهَةِ كَمَا فِي الْفجْر، وَجب عَلَيْهِ كَامِلا، حَتَّى لَو اعْترض الْفساد فِي الْوَقْت بِطُلُوع الشَّمْس فِي خلال الصَّلَاة فَسدتْ، خلافًا لَهُم، لِأَن مَا وَجب كَامِلا لَا يتَأَدَّى بالناقص، كَالصَّوْمِ الْمَنْذُور الْمُطلق وَصَوْم الْقَضَاء لَا يتَأَدَّى فِي أَيَّام النَّحْر والتشريق، وَإِذا كَانَ هَذَا الْجُزْء نَاقِصا كَانَ مَنْسُوبا إِلَى الشَّيْطَان: كالعصر وَقت الاحمرار وَجب نَاقِصا، لِأَن نُقْصَان السَّبَب مُؤثر فِي نُقْصَان الْمُسَبّب، فيتأدى بِصفة النُّقْصَان لِأَنَّهُ أدّى كَمَا لزم، كَمَا إِذا أنذر صَوْم النَّحْر وَأَدَّاهُ فِيهِ، فَإِذا غربت الشَّمْس فِي أثْنَاء الصَّلَاة لم تفْسد الْعَصْر، لِأَن مَا بعد الْغُرُوب كَامِل فيتأدى فِيهِ، لِأَن مَا وَجب نَاقِصا يتَأَدَّى كَامِلا بِالطَّرِيقِ الأولى.
فَإِن قلت: يلْزم أَن تفْسد الْعَصْر إِذا شرع فِيهِ فِي الْجُزْء الصَّحِيح ومدها إِلَى أَن غربت.
قلت: لما كَانَ الْوَقْت متسعا جَازَ لَهُ شغل كل الْوَقْت، فيعفى الْفساد الَّذِي يتَّصل بِهِ بِالْبِنَاءِ، لِأَن الِاحْتِرَاز عَنهُ مَعَ الإقبال على الصَّلَاة مُتَعَذر، وَأما الْجَواب عَن الحَدِيث الْمَذْكُور فَهُوَ مَا ذكره الإِمَام الْحَافِظ أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، وَهُوَ: أَنه يحْتَمل أَن يكون معنى الْإِدْرَاك فِي الصّبيان الَّذين يدركون، يَعْنِي يبلغون قبل طُلُوع الشَّمْس، وَالْحيض اللَّاتِي يطهرن، وَالنَّصَارَى الَّذين يسلمُونَ، لِأَنَّهُ لما ذكر فِي هَذَا الْإِدْرَاك وَلم يذكر الصَّلَاة فَيكون هَؤُلَاءِ الَّذين سميناهم وَمن أشبههم مدركين لهَذِهِ الصَّلَاة، فَيجب عَلَيْهِم قَضَاؤُهَا، وَإِن كَانَ الَّذِي بَقِي عَلَيْهِم من وَقتهَا أقل من الْمِقْدَار الَّذِي يصلونها فِيهِ.
فَإِن قلت: فَمَا تَقول فِيمَا رَوَاهُ أَبُو سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أدْرك أحدكُم سَجْدَة من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته، وَإِذا أدْرك سَجْدَة من صَلَاة الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس فليتم صلَاته) .
رَوَاهُ البُخَارِيّ والطَّحَاوِي أَيْضا فَإِنَّهُ صَرِيح فِي ذكر الْبناء بعد طُلُوع الشَّمْس؟ قلت: قد تَوَاتَرَتْ الْآثَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّهْي عَن الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس مَا لم تتواتر بِإِبَاحَة الصَّلَاة عِنْد ذَلِك، فَدلَّ ذَلِك على أَن مَا كَانَ فِيهِ الْإِبَاحَة كَانَ مَنْسُوخا بِمَا كَانَ فِيهِ التَّوَاتُر بِالنَّهْي.
فَإِن قلت: مَا حَقِيقَة النّسخ فِي هَذَا وَالَّذِي تذكره احْتِمَال؟ وَهل يثبت النّسخ بِالِاحْتِمَالِ؟ قلت: حَقِيقَة النّسخ هُنَا أَنه اجْتمع فِي هَذَا الْموضع محرم ومبيح، وَقد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار والْآثَار فِي بابُُ الْمحرم مَا لم تتواتر فِي بابُُ الْمُبِيح، وَقد عرف من الْقَاعِدَة أَن الْمحرم والمبيح إِذا اجْتمعَا يكون الْعَمَل للْمحرمِ، وَيكون الْمُبِيح مَنْسُوخا، وَذَلِكَ لِأَن النَّاسِخ هُوَ الْمُتَأَخر، وَلَا شكّ أَن الْحُرْمَة مُتَأَخِّرَة عَن الْإِبَاحَة لِأَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة، وَالتَّحْرِيم عَارض، وَلَا يجوز الْعَكْس لِأَنَّهُ يلْزم النّسخ مرَّتَيْنِ.
فَافْهَم.
فَإِنَّهُ كَلَام دَقِيق قد لَاحَ لي من الْأَنْوَار الإلهية.
فان قلت إِنَّمَا ورد النَّهْي الْمَذْكُور عَن الصَّلَاة فِي التَّطَوُّع خَاصَّة وَلَيْسَ بنهي عَن قَضَاء الْفَرَائِض قلت: دلّ حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا على أَن الصَّلَاة الْفَائِتَة قد دخلت فِي النَّهْي عَن الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَعند غُرُوبهَا، وَعَن عمرَان أَنه قَالَ: (سرينا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة، أَو قَالَ: فِي سَرِيَّة، فَلَمَّا كَانَ آخر السحر عرسنا، فَمَا استيقظنا حَتَّى أيقظنا حر الشَّمْس) الحَدِيث، وَفِيه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخر صَلَاة الصُّبْح حَتَّى فَاتَت عَنْهُم إِلَى أَن ارْتَفَعت الشَّمْس، وَلم يصلها قبل الإرتفاع، فَدلَّ ذَلِك أَن النَّهْي عَام يَشْمَل الْفَرَائِض والنوافل، والتخصيص بالتطوع تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح.

وَمِنْهَا: أَي: من الْأَحْكَام: أَن أَبَا حنيفَة وَمن تبعه استدلوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور أَن آخر وَقت الْعَصْر هُوَ غرُوب الشَّمْس، لِأَن من أدْرك مِنْهُ رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ مدرك لَهُ، فَإِذا كَانَ مدْركا يكون ذَلِك الْوَقْت من وَقت الْعَصْر لِأَن معنى قَوْله: (فقد أدْرك) ، أدْرك وُجُوبهَا، حَتَّى إِذا أدْرك الصَّبِي قبل غرُوب الشَّمْس أَو أسلم الْكَافِر أَو أَفَاق الْمَجْنُون أَو طهرت الْحَائِض تجب عَلَيْهِ صَلَاة الْعَصْر، وَلَو كَانَ الْوَقْت الَّذِي أدْركهُ جزأ يَسِيرا لَا يسع فِيهِ الْأَدَاء، وَكَذَلِكَ الحكم قبل طُلُوع الشَّمْس.
.

     وَقَالَ  زفر: لَا يجب مَا لم يجد وقتا يسع الْأَدَاء، وَكَذَلِكَ الحكم قبل طُلُوع الشَّمْس.
.

     وَقَالَ  زفر: لَا يجب مَا لم يجد وقتا يسع الْأَدَاء فِيهِ حَقِيقَة، وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ فِيمَا إِذا أدْرك دون رَكْعَة كتكبيرة مثلا: أَحدهمَا:، لَا يلْزمه، وَالْآخر: يلْزمه، وَهُوَ أصَحهمَا.

وَمِنْهَا: أَنهم اخْتلفُوا فِي معنى الْإِدْرَاك.
هَل هُوَ للْحكم أَو للفضل أَو للْوَقْت فِي أقل من رَكْعَة؟ فَذهب مَالك وَجُمْهُور الْأَئِمَّة، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي: إِلَى أَنه لَا يدْرك شَيْئا من ذَلِك بِأَقَلّ من رَكْعَة، مُتَمَسِّكِينَ بِلَفْظ الرَّكْعَة، وَبِمَا فِي (صَحِيح) ابْن حبَان عَن أبي هُرَيْرَة: (إِذا جئْتُمْ إِلَى الصَّلَاة وَنحن سُجُود فاسجدوها وَلَا تعدوها شَيْئا، وَمن أدْرك الرَّكْعَة فقد أدْرك الصَّلَاة) .
وَذهب أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ فِي قَول: إِلَى أَنه يكون مدْركا لحكم الصَّلَاة.
فَإِن قلت: قيد فِي الحَدِيث بِرَكْعَة فَيَنْبَغِي أَن لَا يعْتَبر أقل مِنْهَا؟ قلت: قيد الرَّكْعَة فِيهِ خرج مخرج الْغَالِب، فَإِن غَالب مَا يُمكن معرفَة الْإِدْرَاك بِهِ رَكْعَة أَو نَحْوهَا، حَتَّى قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: إِنَّمَا أَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذكر الرَّكْعَة الْبَعْض من الصَّلَاة، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنهُ: (من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر) و: (من أدْرك رَكْعَتَيْنِ من الْعَصْر) ، (وَمن أدْرك سَجْدَة من الْعَصْر) ، فَأَشَارَ إِلَى بعض الصَّلَاة مرّة: بِرَكْعَة، وَمرَّة: بِرَكْعَتَيْنِ، وَمرَّة بِسَجْدَة.
وَالتَّكْبِيرَة فِي حكم الرَّكْعَة لِأَنَّهَا بعض الصَّلَاة، فَمن أدْركهَا فَكَأَنَّهُ أدْرك رَكْعَة.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: وَاتفقَ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي أَبَا حنيفَة وَأَبا يُوسُف وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، على إدراكهم الْعَصْر بتكبيرة قبل الْغُرُوب، وَاخْتلفُوا فِي الظّهْر، فَعِنْدَ الشَّافِعِي فِي قَول: هُوَ مدرك بتكبيرة لَهَا لاشْتِرَاكهمَا فِي الْوَقْت، وَعنهُ أَنه بِتمَام الْقيام لِلظهْرِ يكون قَاضِيا لَهَا بعد، وَاخْتلفُوا فِي الْجُمُعَة، فَذهب مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَزفر وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد إِلَى أَن: من أدْرك مِنْهَا رَكْعَة أضَاف إِلَيْهَا أُخْرَى.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف: إِذا أحرم فِي الْجُمُعَة قبل سَلام الإِمَام صلى رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالْحكم وَحَمَّاد، وَأغْرب عَطاء وَمَكْحُول وطاووس وَمُجاهد فَقَالُوا: إِن من فَاتَتْهُ الْخطْبَة يَوْم الْجُمُعَة يُصَلِّي أَرْبعا، لِأَن الْجُمُعَة إِنَّمَا قصرت من أجل الْخطْبَة: وَحمل أَصْحَاب مَالك قَوْله: (من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر) على أَصْحَاب الْأَعْذَار: كالحائض والمغمى عَلَيْهِ وشبههما، ثمَّ هَذِه الرَّكْعَة الَّتِي يدركون بهَا الْوَقْت هِيَ بِقدر مَا يكبر فِيهَا للْإِحْرَام وَيقْرَأ أم الْقُرْآن قِرَاءَة معتدلة ويركع وَيسْجد سَجْدَتَيْنِ يفصل بَينهمَا ويطمئن فِي كل ذَلِك، على قَول من أوجب الطُّمَأْنِينَة، وعَلى قَول من لَا يُوجب قِرَاءَة أم الْقُرْآن فِي كل رَكْعَة، يَكْفِيهِ تَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَالْوُقُوف لَهَا.
وَأَشْهَب لَا يُرَاعِي إِدْرَاك السَّجْدَة بعد الرَّكْعَة، وَسبب الْخلاف: هَل الْمَفْهُوم من اسْم الرَّكْعَة الشَّرْعِيَّة أَو اللُّغَوِيَّة؟
وَأما الَّتِي يدْرك بهَا فَضِيلَة الْجَمَاعَة فَحكمهَا بِأَن يكبر لإحرامها ثمَّ يرْكَع، وَيُمكن يَدَيْهِ من رُكْبَتَيْهِ قبل رفع الإِمَام رَأسه، وَهَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور، وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه: لَا يعْتد بالركعة مَا لم يدْرك الإِمَام قَائِما قبل أَن يرْكَع، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَن أَشهب، وَرُوِيَ عَن جمَاعَة من السّلف أَنه: مَتى أحرم وَالْإِمَام رَاكِع أَجزَأَهُ، وَإِن لم يدْرك الرُّكُوع وَركع بعد الإِمَام.
وَقيل: يجْزِيه وَإِن رفع الإِمَام رَأسه مَا لم يرفع النَّاس، وَنَقله ابْن بزيزة عَن الشّعبِيّ، قَالَ: وَإِذا انْتهى إِلَى الصَّفّ الآخر وَلم يرفعوا رؤوسهم، أَو بَقِي مِنْهُم وَاحِد لم يرفع رَأسه، وَقد رفع الإِمَام رَأسه فَإِنَّهُ يرْكَع وَقد أدْرك الصَّلَاة، لِأَن الصَّفّ الَّذِي هُوَ فِيهِ إِمَامه،.

     وَقَالَ  ابْن أبي ليلى وَزفر وَالثَّوْري: إِذا كبر قبل أَن يرفع الإِمَام رَأسه فقد أدْرك، وَإِن رفع الإِمَام قبل أَن يضع يَدَيْهِ على رُكْبَتَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يعْتد بهَا.
.

     وَقَالَ  ابْن سِيرِين: إِذا أدْرك تَكْبِيرَة يدْخل بهَا فِي الصَّلَاة وَتَكْبِيرَة للرُّكُوع فقد أدْرك تِلْكَ الرَّكْعَة.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: وَقيل: يجْزِيه إِن أحرم قبل سُجُود الإِمَام.
.

     وَقَالَ  ابْن بزيزة: قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: إِذا جَاءَ وهم سُجُود يسْجد مَعَهم، فَإِذا سلم الإِمَام قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَة وَلَا يسْجد، ويعتد بِتِلْكَ الرَّكْعَة.
وَعَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ إِذا جَاءَ وَالْقَوْم سُجُود سجد مَعَهم، فَإِذا رفعوا رؤوسهم سجد أُخْرَى، وَلَا يعْتد بهَا.
.

     وَقَالَ  ابْن مَسْعُود: إِذا ركع ثمَّ مَشى فَدخل فِي الصَّفّ قبل أَن يرفعوا رؤوسهم اعْتد بهَا، وَإِن رفعوا رؤوسهم قبل أَن يصل إِلَى الصَّفّ فَلَا يعْتد بهَا.

وَأما حكم هَذِه الصَّلَاة: فَالصَّحِيح أَنَّهَا كلهَا أَدَاء، قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: كلهَا قَضَاء،.

     وَقَالَ  بَعضهم: تِلْكَ الرَّكْعَة أَدَاء، وَمَا بعْدهَا قَضَاء، وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِي مُسَافر نوى الْعَصْر وَصلى رَكْعَة فِي الْوَقْت، فَإِن قُلْنَا: الْجَمِيع أَدَاء، فَلهُ قصرهَا.
وَإِن قُلْنَا: كلهَا قَضَاء، أَو: بَعْضهَا، وَجب إِتْمَامهَا أَرْبعا إِن قُلْنَا: إِن فَائِتَة السّفر إِذا قَضَاهَا فِي السّفر يجب إِتْمَامهَا، وَهَذَا كُله إِذا أدْرك رَكْعَة فِي الْوَقْت، فَإِن كَانَ دون رَكْعَة، فَقَالَ الْجُمْهُور: كلهَا قَضَاء.



( بابُُ منْ أدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الفَجْرِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم من أدْرك رَكْعَة من صَلَاة الْفجْر، وَقد أشبعنا الْكَلَام فِيهِ فِي بابُُ من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر، فَليرْجع إِلَيْهِ.



[ قــ :563 ... غــ :579]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ وعَنْ بُسْرِ بنِ سَعِيدٍ وعَنِ الأعْرَجِ يُحَدِّثُونَهُ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ أدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ ومَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ العَصْر قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أدْرَكَ العَصْرَ ( انْظُر الحَدِيث 556 وطرفه) .


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَبسر، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وبالراء.
والأعرج: هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
قَوْله: ( يحدثونه) ، أَي: يحدثُونَ زيد بن أسلم، وَرِجَال الْإِسْنَاد كلهم مدنيون.
قَوْله: ( من الصُّبْح) .
أَي: من وَقت الصُّبْح، أَو: من نفس صَلَاة الصُّبْح.
قَوْله: ( رَكْعَة) أَي: قدر رَكْعَة، والإدراك: الْوُصُول إِلَى الشَّيْء، وَقد ذكرنَا مَا المُرَاد من الْإِدْرَاك فِي بابُُ من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر، واستوفينا الْكَلَام فِيهِ فِي هَذَا الْبابُُ.