فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب البول في الماء الدائم

( قَولُهُ بَابُ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ)
أَيْ السَّاكِنِ يُقَالُ دَوَّمَ الطَّائِرُ تَدْوِيمًا إِذَا صَفَّ جَنَاحَيْهِ فِي الْهَوَاءِ فَلَمْ يُحَرِّكْهُمَا وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بَابُ لَا تَبُولُوا فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهِيَ بِالْمَعْنَى



[ قــ :235 ... غــ :238] .

     قَوْلُهُ  الْأَعْرَجُ كَذَا رَوَاهُ شُعَيْبٌ وَوَافَقَهُ بن عُيَيْنَةَ فِيمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَرَوَاهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ بن عُيَيْنَةَ عَنْهُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيِّ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ والطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ وَالطَّرِيقَانِ مَعًا صَحِيحَانِ وَلِأَبِي الزِّنَادِ فِيهِ شَيْخَانِ وَلَفْظُهُمَا فِي سِيَاقِ الْمَتْنِ مُخْتَلِفٌ كَمَا سَنُشِيرُ إِلَيْهِ .

     قَوْلُهُ  نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ اخْتُلِفَ فِي الْحِكْمَةِ فِي تَقْدِيمِ هَذِه الْجُمْلَة على الحَدِيث الْمَقْصُود فَقَالَ بن بَطَّالٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا بَعْدَهُ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ فَحَدَّثَ بِهِمَا جَمِيعًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَمَّامٌ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ سَمِعَهُمَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مُنَاسَبَةٌ لِلتَّرْجَمَةِ.

قُلْتُ جَزَمَ بن التِّينِ بِالْأَوَّلِ وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَدِيثًا وَاحِدًا مَا فَصَّلَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَبِإِسْنَادِهِ وَأَيْضًا فَ.

     قَوْلُهُ  نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ مَشْهُورٍ فِي ذِكْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَوْ رَاعَى الْبُخَارِيُّ مَا ادَّعَاهُ لَسَاقَ الْمَتْنَ بِتَمَامِهِ وَأَيْضًا فَحَدِيثُ الْبَابِ مَرْوِيٌّ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي دَوَاوِينِ الْأَئِمَّةِ وَلَيْسَ فِي طَرِيقٍ مِنْهَا فِي أَوَّلِهِ نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْيَمَانِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ بِدُونِ هَذِه الْجُمْلَة وَقَول بن بطال وَيحْتَمل أَن يكون همام وهم تبعه عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ وَلَيْسَ لِهَمَّامٍ ذِكْرٌ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ وَقَولُهُ إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مُنَاسَبَةٌ لِلتَّرْجَمَةِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ تَكَلَّفَ فَأَبْدَى بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةً كَمَا سَنَذْكُرُهُ وَالصَّوَابُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ فِي الْغَالِبِ يَذْكُرُ الشَّيْءَ كَمَا سَمِعَهُ جُمْلَةً لِتَضَمُّنِهِ مَوْضِعَ الدَّلَالَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَاقِيهِ مَقْصُودًا كَمَا صَنَعَ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ فِي شِرَاءِ الشَّاةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْجِهَادِ وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ كَثِيرَةٌ وَقَدْ وَقَعَ لِمَالِكٍ نَحْوُ هَذَا فِي الْمُوَطَّأِ إِذْ أَخْرَجَ فِي بَابِ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَتَمَةِ مُتُونًا بِسَنَدٍ وَاحِدٍ أَوَّلُهَا مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَوْكٍ وَآخِرُهَا لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصُّبْحِ وَالْعَتَمَةِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا وَلَيْسَ غَرَضُهُ مِنْهَا إِلَّا الْحَدِيثَ الْأَخِيرَ لَكِنَّهُ أَدَّاهَا عَلَى الْوَجْه الَّذِي سَمعه قَالَ بن الْعَرَبِيِّ فِي الْقَبَسِ نَرَى الْجُهَّالَ يَتْعَبُونَ فِي تَأْوِيلِهَا وَلَا تَعَلُّقَ لِلْأَوَّلِ مِنْهَا بِالْبَابِ أَصْلًا.

     وَقَالَ  غَيْرُهُ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ آخِرُ مَنْ يُدْفَنُ مِنَ الْأُمَمِ فِي الْأَرْضِ وَأَوَّلُ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا لِأَنَّ الْوِعَاءَ آخِرُ مَا يُوضَعُ فِيهِ أَوَّلُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ فَكَذَلِكَ الْمَاءُ الرَّاكِدُ آخِرُ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْبَوْلِ أَوَّلُ مَا يُصَادِفُ أَعْضَاءَ الْمُتَطَهِّرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ ذَلِكَ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ وَقِيلَ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِنْ سَبَقُوا فِي الزَّمَانِ لَكِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَبَقَتْهُمْ بِاجْتِنَابِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ إِذَا وَقَعَ الْبَوْلُ فِيهِ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا لَا يَجْتَنِبُونَهُ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا أَشَدَّ مُبَالَغَةً فِي اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ بِحَيْثُ كَانَتِ النَّجَاسَةُ إِذَا أَصَابَتْ جِلْدَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِمُ التَّسَاهُلُ فِي هَذَا وَهُوَ اسْتِبْعَادٌ لَا يَسْتَلْزِمُ رَفْعَ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ وَمَا قَرَّرْنَاهُ أَوْلَى وَقَدْ وَقَعَ البُخَارِيّ فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ فِي حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُ هَذَا صَدَّرَهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ قَالَ وَبِإِسْنَادِهِ وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمُنَاسَبَةُ الْمَذْكُورَةُ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ التَّكَلُّفِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ نُسْخَةَ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَنُسْخَةِ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْهُ وَلِهَذَا قَلَّ حَدِيثٌ يُوجَدُ فِي هَذِهِ إِلَّا وَهُوَ فِي الْأُخْرَى وَقَدِ اشْتَمَلَتَا عَلَى أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ غَالِبَهَا وَابْتِدَاءُ كُلِّ نُسْخَةٍ مِنْهُمَا حَدِيثُ نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ فَلِهَذَا صَدَّرَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِيمَا أَخْرَجَهُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَسَلَكَ مُسْلِمٌ فِي نُسْخَةِ هَمَّامٍ طَرِيقًا أُخْرَى فَيَقُولُ فِي كُلِّ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مِنْهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا.

     وَقَالَ  رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَذْكُرُ الْحَدِيثَ الَّذِي يُرِيدُهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ مِنْ أَثْنَاءِ النُّسْخَةِ لَا أَوَّلِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  الَّذِي لَا يَجْرِي قِيلَ هُوَ تَفْسِيرٌ لِلدَّائِمِ وَإِيضَاحٌ لِمَعْنَاهُ وَقِيلَ احْتَرَزَ بِهِ عَنْ رَاكِدٍ يَجْرِي بَعْضُهُ كَالْبِرَكِ وَقِيلَ احْتَرَزَ بِهِ عَنِ الْمَاءِ الدَّائِمِ لِأَنَّهُ جَارٍ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ سَاكِنٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقَيْدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّتِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا حَيْثُ جَاءَ فِيهَا بِلَفْظِ الرَّاكِدِ بَدَلَ الدَّائِمِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.

     وَقَالَ  بن الْأَنْبَارِيِّ الدَّائِمُ مِنْ حُرُوفِ الْأَضْدَادِ يُقَالُ لِلسَّاكِنِ وَالدَّائِرِ وَمِنْهُ أَصَابَ الرَّأْسَ دُوَامٌ أَيْ دُوَارٌ وَعَلَى هَذَا فَ.

     قَوْلُهُ  الَّذِي لَا يَجْرِي صِفَةٌ مخصصة لأحد معني الْمُشْتَرَكِ وَقِيلَ الدَّائِمُ وَالرَّاكِدُ مُقَابِلَانِ لِلْجَارِي لَكِنِ الدَّائِم الَّذِي لَهُ نَبْعٌ وَالرَّاكِدُ الَّذِي لَا نَبْعَ لَهُ .

     قَوْلُهُ  ثُمَّ يَغْتَسِلُ بِضَمِّ اللَّامِ عَلَى الْمَشْهُور.

     وَقَالَ  بن مَالِكٍ يَجُوزُ الْجَزْمُ عَطْفًا عَلَى يَبُولَنَّ لِأَنَّهُ مَجْزُومُ الْمَوْضِعِ بِلَا النَّاهِيَةِ وَلَكِنَّهُ بُنِيَ عَلَى الْفَتْحِ لِتَوْكِيدِهِ بِالنُّونِ وَمَنَعَ ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ فَقَالَ لَوْ أَرَادَ النَّهْيَ لَقَالَ ثُمَّ لَا يَغْتَسِلَنَّ فَحِينَئِذٍ يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ فِي النَّهْيِ عَنْهُمَا لِأَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي تَوَارَدَا عَلَيْهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمَاءُ قَالَ فَعُدُولُهُ عَنْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْعَطْفَ بَلْ نَبَّهَ عَلَى مَآلِ الْحَالِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا بَالَ فِيهِ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَضْرِبَنَّ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْأَمَةِ ثُمَّ يُضَاجِعُهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ بِالْجَزْمِ لِأَنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنِ الضَّرْبِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي مَآلِ حَالِهِ إِلَى مُضَاجَعَتِهَا فَتَمْتَنِعُ لِإِسَاءَتِهِ إِلَيْهَا فَلَا يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُهُ وَتَقْدِيرُ اللَّفْظِ ثُمَّ هُوَ يُضَاجِعُهَا وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ ثُمَّ هُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهُ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْكِيدِ النَّهْيِ أَن لايعطف عَلَيْهِ نَهْيٌ آخَرُ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِلتَّأْكِيدِ فِي أَحَدِهِمَا مَعْنًى لَيْسَ لِلْآخَرِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَلَا يَجُوزُ النَّصْبُ إِذْ لَا تضمر أَن بعد ثمَّ وَأَجَازَهُ بن مَالِكٍ بِإِعْطَاءِ ثُمَّ حُكْمَ الْوَاوِ.
وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ دُونَ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا وَضَعَّفَهُ بن دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْأَحْكَامِ الْمُتَعَدِّدَةِ لَفْظٌ وَاحِدٌ فَيُؤْخَذُ النَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ إِنْ ثَبَتَتْ رِوَايَةُ النَّصْبِ وَيُؤْخَذُ النَّهْيُ عَنِ الْإِفْرَادِ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ.

قُلْتُ وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي السَّائِبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ لَا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ وَرَوَى أَبُو دَاوُد النَّهْيَ عَنْهُمَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ وَلَفْظُهُ لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ لِأَنَّ الْبَوْلَ يُنَجِّسُ الْمَاءَ فَكَذَلِكَ الِاغْتِسَالُ وَقَدْ نَهَى عَنْهُمَا مَعًا وَهُوَ لِلتَّحْرِيمِ فَيَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ فِيهِمَا وَرُدَّ بِأَنَّهَا دَلَالَةُ اقْتِرَانٍ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهَا فَلَا يَلْزَمُ التَّسْوِيَةُ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنَ الْبَوْلِ لِئَلَّا يُنَجِّسَهُ وَعَنِ الِاغْتِسَالِ فِيهِ لِئَلَّا يَسْلُبَهُ الطَّهُورِيَّةَ وَيَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا .

     قَوْلُهُ  فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الِانْغِمَاسِ فِيهِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُسْتَعْمَلًا فَيَمْتَنِعُ عَلَى الْغَيْرِ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَالصَّحَابِيُّ أَعْلَمُ بِمَوَارِدِ الْخِطَابِ مِنْ غَيْرِهِ وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ غَيْرُ طَهُورٍ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَدِلَّة عَلَى طَهَارَتِهِ وَلَا فَرْقَ فِي الْمَاءِ الَّذِي لَا يَجْرِي فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بَيْنَ بَوْلِ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ وَلَا بَيْنَ أَنْ يَبُولَ فِي الْمَاءِ أَوْ يَبُولَ فِي إِنَاءٍ ثُمَّ يَصُبَّهُ فِيهِ خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَاءِ الْقَلِيلِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي حَدِّ الْقَلِيلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ إِلَّا التَّغَيُّرَ وَعَدَمَهُ وَهُوَ قَوِيٌّ لَكِنَّ الْفَصْلَ بِالْقُلَّتَيْنِ أَقْوَى لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ فِيهِ وَقَدِ اعْتَرَفَ الطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِذَلِكَ لَكِنَّهُ اعْتَذَرَ عَنِ الْقَوْلِ بِهِ بِأَنَّ الْقُلَّةَ فِي الْعُرْفِ تُطْلَقُ عَلَى الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ كَالْجَرَّةِ وَلَمْ يَثْبُتْ مِنَ الْحَدِيثِ تَقْدِيرُهُمَا فَيكون مُجملا فَلَا يعْمل بِهِ وَقواهُ بن دَقِيقِ الْعِيدِ لَكِنِ اسْتَدَلَّ لَهُ غَيْرُهُمَا فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ الْمُرَادُ الْقُلَّةُ الْكَبِيرَةُ إِذْ لَوْ أَرَادَ الصَّغِيرَةَ لَمْ يَحْتَجْ لِذِكْرِ الْعَدَدِ فَإِنَّ الصَّغِيرَتَيْنِ قَدْرُ وَاحِدَةٍ كَبِيرَةٍ وَيُرْجَعُ فِي الْكَبِيرَةِ إِلَى الْعُرْفِ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّارِعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَرَكَ تَحْدِيدَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْسِعَةِ وَالْعِلْمُ مُحِيطٌ بِأَنَّهُ مَا خَاطَبَ الصَّحَابَةَ إِلَّا بِمَا يَفْهَمُونَ فَانْتَفَى الْإِجْمَالُ لَكِنْ لِعَدَمِ التَّحْدِيدِ وَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي مِقْدَارِهِمَا عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ حَكَاهَا بن الْمُنْذِرِ ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ تَحْدِيدُهُمَا بِالْأَرْطَالِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ فِيمَا لَا يَتَغَيَّرُ وَهُوَ قَوْلُ الْبَاقِينَ فِي الْكَثِيرِ.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيُّ يُمكن حمله علىالتحريم مُطْلَقًا عَلَى قَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ .

     قَوْلُهُ  ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ كَذَا هُنَا وَفِي رِوَايَة بن عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ وَكَذَا لمُسلم من طَرِيق بن سِيرِينَ وَكُلٌّ مِنَ اللَّفْظَيْنِ يُفِيدُ حُكْمًا بِالنَّصِّ وَحكما بالاستنباط قَالَه بن دَقِيقِ الْعِيدِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِلَفْظِ فِيهِ تَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الِانْغِمَاسِ بِالنَّصِّ وَعَلَى مَنْعِ التَّنَاوُلِ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالرِّوَايَةَ بِلَفْظِ مِنْهُ بِعَكْسِ ذَلِكَ وَكُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَة وَالله أعلم