فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب {منه آيات محكمات} [آل عمران: 7]

( .

     قَوْلُهُ  مِنْهُ آيَات محكمات)

قَالَ مُجَاهِد الْحَلَال وَالْحرَام وَأخر متشابهات يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَقَوْلِهِ وَمَا يُضِلُّ بِهِ الا الْفَاسِقين وَكَقَوْلِهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَكَقَوْلِهِ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ هَكَذَا وَقَعَ فِيهِ وَفِيهِ تَغْيِيرٌ وَبِتَحْرِيرِهِ يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ قَرِيبًا إِلَى مُجَاهِدٍ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى مِنْهُ آيَات محكمات قَالَ مَا فِيهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْهُ مُتَشَابِهٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ .

     قَوْلُهُ  زَيْغٌ شَكٌّ فيتبعون مَا تشابه مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة الْمُشْتَبِهَاتُ هُوَ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ أَيْضًا وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ كَذَلِكَ وَلَفْظُهُ.
وَأَمَّا الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ قَالَ شَكٌّ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَة الْمُشْتَبِهَاتُ الْبَابُ الَّذِي ضَلُّوا مِنْهُ وَبِهِ هَلَكُوا قَوْله والراسخون فِي الْعلم يعلمُونَ وَيَقُولُونَ آمنا بِهِ الْآيَةَ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنَ الطَّرِيقِ الْمَذْكُورِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ قَالَ الرَّاسِخُونَ كَمَا يَسْمَعُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا الْمُتَشَابِهُ وَالْمُحْكَمُ فَآمَنُوا بِمُتَشَابِهِهِ وَعَمِلُوا بِمُحْكَمِهِ فَأَصَابُوا وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَن تكون الْوَاو فِي وَالرَّاسِخُونَ عَاطِفَةً عَلَى مَعْمُولِ الِاسْتِثْنَاءِ وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ بن عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ آمَنَّا بِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلِاسْتِئْنَافِ لِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ بِهَا الْقِرَاءَةُ لَكِنْ أَقَلَّ دَرَجَاتِهَا أَنْ تَكُونَ خَبَرًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى تُرْجَمَانِ الْقُرْآنِ فَيُقَدَّمُ كَلَامُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَنْ دُونَهُ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى ذَمِّ مُتَّبِعِي الْمُتَشَابِهِ لِوَصْفِهِمْ بِالزَّيْغِ وَابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ وَصَرَّحَ بِوَفْقِ ذَلِكَ حَدِيثُ الْبَابِ وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى مَدْحِ الَّذِينَ فَوَّضُوا الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ كَمَا مَدَحَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مِثْلَ ذَلِكَ أَعْنِي وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ آمَنَّا بِهِ تَنْبِيهٌ سَقَطَ جَمِيعُ هَذِهِ الْآثَارِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا لِأَبِي ذَرٍّ عَنِ السَّرَخْسِيِّ وَثَبَتَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ عَنْ شَيْخِهِ قَبْلَ قَوْلِهِ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ بَابٌ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ آثَارٌ أُخْرَى فَفِي أَوَّلِ السُّورَةِ .

     قَوْلُهُ  تُقَاةٌ وَتَقِيَّةٌ وَاحِدٌ هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْ أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقَدْ قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تَقِيَّةً



[ قــ :4296 ... غــ :4547] .

     قَوْلُهُ  التُّسْتَرِيُّ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ .

     قَوْلُهُ  عَن بن أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَة قد سمع بن أَبِي مُلَيْكَةَ مِنْ عَائِشَةَ كَثِيرًا وَكَثِيرًا أَيْضًا مَا يَدْخُلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ وَاسِطَةٌ وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيق أبي عَامر الجزار عَن بن أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَمِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ كَمَا فِي الْبَابِ بِزِيَادَةِ الْقَاسِمِ ثُمَّ قَالَ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَن بن أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْقَاسِمَ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ انْتَهَى وَقَدْ أخرجه بن أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ جَمِيعًا عَن بن أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ الْقَاسِمِ فَلَمْ يَنْفَرِدْ يَزِيدُ بِزِيَادَة الْقَاسِم وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَن بن أَبِي مُلَيْكَةَ بِغَيْرِ ذِكْرِ الْقَاسِمِ أَيُّوبُ أَخْرَجَهُ بن ماجة من طَرِيقه وَنَافِع بن عمر وبن جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمَا .

     قَوْلُهُ  تَلَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ محكمات هن أم الْكتاب وَآخر متشابهات قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ أَصْلُ الْمُتَشَابِهِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْأَشْيَاءُ الْمُتَشَابِهَةُ كَانَ كُلٌّ مِنْهَا مُشَابِهًا لِلْآخَرِ فَصَحَّ وَصْفُهَا بِأَنَّهَا مُتَشَابِهَةٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْآيَةَ وَحْدَهَا مُتَشَابِهَةٌ فِي نَفْسِهَا وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْوَصْفِ فِي الْجَمْعِ صِحَّةُ انْبِسَاطِ مُفْرَدَاتِ الْأَوْصَافِ عَلَى مُفْرَدَاتِ الْمَوْصُوفَاتِ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ ذَلِكَ .

     قَوْلُهُ  فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ قَالَ الطَّبَرِيُّ قِيلَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ جَادَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ عِيسَى وَقِيلَ فِي أَمْرِ مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ أَمْرَ عِيسَى قَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ فَهُوَ مَعْلُومٌ لِأُمَّتِهِ بِخِلَافِ أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ عِلْمَهُ خَفِيٌّ عَنِ الْعِبَادِ.

     وَقَالَ  غَيْرُهُ الْمُحْكَمُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا وَضَحَ مَعْنَاهُ وَالْمُتَشَابِهُ نَقِيضُهُ وَسُمِّيَ الْمُحْكَمُ بِذَلِكَ لِوُضُوحِ مُفْرَدَاتِ كَلَامِهِ وَإِتْقَانِ تَرْكِيبِهِ بِخِلَافِ الْمُتَشَابِهِ وَقِيلَ الْمُحْكَمُ مَا عُرِفَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِمَّا بِالظُّهُورِ وَإِمَّا بِالتَّأْوِيلِ وَالْمُتَشَابِهُ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ كَقِيَامِ السَّاعَةِ وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ وَالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ أَقْوَالٌ أُخْرَى غَيْرُ هَذِهِ نَحْوُ الْعَشَرَةِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا وَمَا ذَكَرْتُهُ أَشْهَرُهَا وَأَقْرَبُهَا إِلَى الصَّوَاب وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ الْأَخِيرَ هُوَ الصَّحِيح عندنَا وبن السَّمْعَانِيّ أَنَّهُ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَالْمُخْتَارُ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ جَرَى الْمُتَأَخِّرُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

     وَقَالَ  الطِّيبِيُّ الْمُرَادُ بِالْمُحْكَمِ مَا اتَّضَحَ مَعْنَاهُ وَالْمُتَشَابِهُ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَقْبَلُ مَعْنًى إِمَّا أَنْ يَقْبَلَ غَيْرَهُ أَوْ لَا الثَّانِي النَّصُّ وَالْأَوَّلُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى رَاجِحَةً أَوْ لَا وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ وَالثَّانِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيهِ أَوْ لَا وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُجْمَلُ وَالثَّانِي المؤول فَالْمُشْتَرَكُ هُوَ النَّصُّ وَالظَّاهِرُ هُوَ الْمُحْكَمُ وَالْمُشْتَرَكُ بَين الْمُجْمل والمؤول هُوَ الْمُتَشَابِهُ وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّقْسِيمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْقَعَ الْمُحْكَمَ مُقَابِلًا لِلْمُتَشَابِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُفَسَّرَ الْمُحْكَمُ بِمَا يُقَابِلَهُ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أُسْلُوبُ الْآيَةِ وَهُوَ الْجَمْعُ مَعَ التَّقْسِيمِ لِأَنَّهُ تَعَالَى فَرَّقَ مَا جَمَعَ فِي مَعْنَى الْكِتَابِ بِأَنْ قَالَ مِنْهُ آيَات محكمات وَآخر متشابهات أَرَادَ أَنْ يُضِيفَ إِلَى كُلِّ مِنْهُمَا مَا شَاءَ مِنْهُمَا مِنَ الْحُكْمِ فَقَالَ أَوَّلًا فَأَمَّا الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ إلىان قَالَ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ.
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمُ اسْتِقَامَةٌ فَيَتَّبِعُونَ الْمُحْكَمَ لَكِنَّهُ وَضَعَ مَوْضِعَ ذَلِكَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لِإِتْيَانِ لَفْظِ الرُّسُوخِ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ التَّتَبُّعِ التَّامِّ وَالِاجْتِهَادِ الْبَلِيغِ فَإِذَا اسْتَقَامَ الْقَلْبُ عَلَى طَرِيقِ الرَّشَادِ وَرَسَخَ الْقَدَمُ فِي الْعِلْمِ أَفْصَحَ صَاحِبُهُ النُّطْقَ بِالْقَوْلِ الْحَقِّ وَكَفَى بِدُعَاءِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هديتنا إِلَخْ شَاهِدًا عَلَى أَنَّ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ وَفِيهِ إِشَارَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ إِلَّا اللَّهُ تَامٌّ وَإِلَى أَنَّ عِلْمَ بَعْضِ الْمُتَشَابِهِ مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ مَنْ حَاوَلَ مَعْرِفَتَهُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ فَاحْذَرُوهُمْ.

     وَقَالَ  بَعْضُهُمُ الْعَقْلُ مُبْتَلًى بِاعْتِقَادِ حَقِيقَةِ الْمُتَشَابِهِ كَابْتِلَاءِ الْبَدَنِ بِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ كَالْحَكِيمِ إِذَا صَنَّفَ كِتَابًا أَجْمَلَ فِيهِ أَحْيَانَا لِيَكُونَ مَوْضِعَ خُضُوعِ الْمُتَعَلِّمِ لِأُسْتَاذِهِ وَكَالْمَلِكِ يَتَّخِذُ عَلَامَةً يَمْتَازُ بِهَا مَنْ يُطْلِعُهُ عَلَى سِرٍّ وَقِيلَ لَوْ لَمْ يَقْبَلِ الْعَقْلُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْبَدَنِ لَاسْتَمَرَّ الْعَالِمُ فِي أُبَّهَةِ الْعِلْمِ عَلَى التَّمَرُّدِ فَبِذَلِكَ يَسْتَأْنِسُ إِلَى التَّذَلُّلِ بِعِزِّ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ مَوْضِعُ خُضُوعِ الْعُقُولِ لِبَارِيهَا اسْتِسْلَامًا وَاعْتِرَافًا بِقُصُورِهَا وَفِي خَتْمِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا يذكر الا أولو الْأَلْبَاب تَعْرِيضٌ بِالزَّائِغِينَ وَمَدْحٌ لِلرَّاسِخَيْنِ يَعْنِي مَنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَيَتَّعِظْ وَيُخَالِفْ هَوَاهُ فَلَيْسَ مِنْ أُولِي الْعُقُولِ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الرَّاسِخُونَ رَبَّنَا لَا تزغ قُلُوبنَا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَخَضَعُوا لِبَارِيهِمْ لِاشْتِرَاكِ الْعِلْمِ اللَّدُنِّي بَعْدَ أَنِ اسْتَعَاذُوا بِهِ مِنَ الزَّيْغِ النَّفْسَانِيِّ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقِ.

     وَقَالَ  غَيْرُهُ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ مُحْكَمٌ وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهٌ وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ .

     قَوْلُهُ  أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ وَلَا قَوْله كتابا متشابها مثانى حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ كُلَّهُ مُحْكَمٌ وَعَكَسَ آخَرُونَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْكَامِ فِي قَوْلِهِ أُحْكِمَتْ الْإِتْقَانُ فِي النَّظْمِ وَأَنَّ كُلَّهَا حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَالْمُرَادُ بِالْمُتَشَابِهِ كَوْنُهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي حُسْنِ السِّيَاقِ وَالنَّظْمِ أَيْضًا وَلَيْسَ الْمُرَادُ اشْتِبَاهَ مَعْنَاهُ عَلَى سَامِعِهِ وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمُحْكَمَ وَرَدَ بِإِزَاءِ مَعْنَيَيْنِ وَالْمُتَشَابِهَ وَرَدَ بِإِزَاءِ مَعْنَيَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  فَهُمُ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَاحْذَرْهُمْ بِالْإِفْرَادِ وَالْأولَى أولى وَالْمرَاد التحذير من الاصغاء إِلَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَوَّلُ مَا ظَهَرَ ذَلِكَ مِنَ الْيَهُودِ كَمَا ذَكَرَهُ بن إِسْحَاقَ فِي تَأْوِيلِهِمُ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ وَأَنَّ عَدَدَهَا بِالْجُمَّلِ مِقْدَارُ مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ثُمَّ أَوَّلَ مَا ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْخَوَارِجِ حَتَّى جَاءَ عَن بن عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ بِهِمُ الْآيَةَ وَقِصَّةُ عُمَرَ فِي إِنْكَارِهِ عَلَى ضُبَيْعٍ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ الْمُتَشَابِهَ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى أَدْمَاهُ أَخْرَجَهَا الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ.

     وَقَالَ  الْخَطَّابِيُّ الْمُتَشَابِهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا إِذَا رُدَّ إِلَى الْمُحْكَمِ وَاعْتُبِرَ بِهِ عُرِفَ مَعْنَاهُ وَالْآخَرُ مَا لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ الَّذِي يَتَّبِعُهُ أَهْلُ الزَّيْغِ فَيَطْلُبُونَ تَأْوِيلَهُ وَلَا يَبْلُغُونَ كُنْهَهُ فَيَرْتَابُونَ فِيهِ فَيُفْتَنُونَ وَاللَّهُ أعلم