فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب ما يكره من التبتل والخصاء

( قَولُهُ بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ)
الْمُرَادُ بِالتَّبَتُّلِ هُنَا الِانْقِطَاعُ عَنِ النِّكَاحِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْمَلَاذِّ إِلَى الْعِبَادَةِ.
وَأَمَّا الْمَأْمُورُ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى وتبتل إِلَيْهِ تبتيلا فَقَدْ فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ فَقَالَ أَخْلِصْ لَهُ إِخْلَاصًا وَهُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى وَإِلَّا فَأَصْلُ التَّبَتُّلِ الِانْقِطَاعُ وَالْمَعْنَى انْقَطِعْ إِلَيْهِ انْقِطَاعًا لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ حَقِيقَةُ الِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ إِنَّمَا تَقَعُ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ فَسَّرَهَا بِذَلِكَ وَمِنْهُ صَدَقَةٌ بَتْلَةٌ أَيْ مُنْقَطِعَةٌ عَنِ الْمِلْكِ وَمَرْيَمُ الْبَتُولُ لِانْقِطَاعِهَا عَنِ التَّزْوِيجِ إِلَى الْعِبَادَةِ وَقِيلَ لِفَاطِمَةَ الْبَتُولُ إِمَّا لِانْقِطَاعِهَا عَنِ الْأَزْوَاجِ غَيْرَ عَلِيٍّ أَوْ لِانْقِطَاعِهَا عَنْ نُظَرَائِهَا فِي الْحُسْنِ وَالشَّرَفِ .

     قَوْلُهُ  وَالْخِصَاءِ هُوَ الشَّقُّ عَلَى الْأُنْثَيَيْنِ وَانْتِزَاعُهُمَا وَإِنَّمَا قَالَ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ وَالْخِصَاءِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الَّذِي يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ هُوَ الَّذِي يُفْضِي إِلَى التَّنَطُّعِ وَتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَيْسَ التَّبَتُّلُ مِنْ أَصْلِهِ مَكْرُوهًا وَعَطَفَ الْخِصَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ بَعْضَهُ يَجُوزُ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ أَحَدُهَا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي قِصَّةِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ إِلَى بن شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ وَقَدْ أَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عقيل عَن بن شِهَابٍ بِلَفْظِ أَرَادَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أَنْ يَتَبَتَّلَ فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ أَنَّ مَعْنَى



[ قــ :4803 ... غــ :5073] قَوْلِهِ رَدَّ عَلَى عُثْمَانَ أَيْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بَلْ نَهَاهُ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ نَفْسِهِ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ يَشُقُّ عَلَيَّ الْعُزُوبَةُ فَأْذَنْ لِي فِي الْخِصَاءِ قَالَ لَا وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ الْحَدِيثَ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي الِاخْتِصَاءِ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَنَا بِالرَّهْبَانِيَّةِ الْحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي طَلَبَهُ عُثْمَانُ هُوَ الِاخْتِصَاءُ حَقِيقَةً فَعَبَّرَ عَنْهُ الرَّاوِي بِالتَّبَتُّلِ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْهُ فَلِذَلِكَ قَالَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا وَيَحْتَمِلُ عَكْسَهَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ سَعْدٍ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا لَفَعَلْنَا فِعْلَ مَنْ يَخْتَصِي وَهُوَ الِانْقِطَاعُ عَنِ النِّسَاءِ قَالَ الطَّبَرِيُّ التَّبَتُّلُ الَّذِي أَرَادَهُ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ تَحْرِيمُ النِّسَاءِ وَالطِّيبِ وَكُلِّ مَا يُلْتَذُّ بِهِ فَلِهَذَا أَنْزَلَ فِي حَقِّهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ تَسْمِيَةُ مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَمَنْ وَافَقَهُ وَكَانَ عُثْمَانُ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ مَعَ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ فِي كِتَابِ الْمَبْعَثِ وَتَقَدَّمَتْ قِصَّةُ وَفَاتِهِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ وَكَانَتْ فِي ذِي الْحَجَّةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ أَوَّلُ مِنْ دُفِنَ بِالْبَقِيعِ.

     وَقَالَ  الطِّيبِيُّ قَولُهُ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَتَبَتَّلْنَا لَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ إِلَى قَولِهِ لَاخْتَصَيْنَا لِإِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ أَيْ لَبَالَغْنَا فِي التَّبَتُّلِ حَتَّى يُفْضِيَ بِنَا الْأَمْرُ إِلَى الِاخْتِصَاءِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ الِاخْتِصَاءِ لِأَنَّهُ حَرَامٌ وَقِيلَ بَلْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ النَّهْيِ عَنِ الِاخْتِصَاءِ وَيُؤَيِّدُهُ تَوَارُدُ اسْتِئْذَانِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ كَأبي هُرَيْرَة وبن مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا وَإِنَّمَا كَانَ التَّعْبِيرُ بِالْخِصَاءِ أَبْلَغَ من التَّعْبِير بالتبل لِأَنَّ وُجُودَ الْآلَةِ يَقْتَضِي اسْتِمْرَارَ وُجُودِ الشَّهْوَةِ مَوْجُود الشَّهْوَةِ يُنَافِي الْمُرَادَ مِنَ التَّبَتُّلِ فَيَتَعَيَّنُ الْخِصَاءُ طَرِيقًا إِلَى تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ وَغَايَتُهُ أَنَّ فِيهِ أَلَمًا عَظِيمًا فِي الْعَاجِلِ يُغْتَفَرُ فِي جَنْبِ مَا ينْدَفع بِهِ فِي الْآجِلُ فَهُوَ كَقَطْعِ الْإِصْبَعِ إِذَا وَقَعَتْ فِي الْيَدِ الْأَكِلَةُ صِيَانَةً لِبَقِيَّةِ الْيَدِ وَلَيْسَ الْهَلَاكُ بِالْخِصَاءِ مُحَقَّقًا بَلْ هُوَ نَادِرٌ وَيَشْهَدُ لَهُ كَثْرَةُ وُجُودِهِ فِي الْبَهَائِمِ مَعَ بَقَائِهَا وَعَلَى هَذَا فَلَعَلَّ الرَّاوِيَ عَبَّرَ بِالْخِصَاءِ عَنِ الْجَبِّ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ وَالْحِكْمَةُ فِي مَنْعِهِمْ مِنَ الِاخْتِصَاءِ إِرَادَةُ تَكْثِيرِ النَّسْلِ لِيَسْتَمِرَّ جِهَادُ الْكُفَّارِ وَإِلَّا لَوْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ لَأَوْشَكَ تَوَارُدُهُمْ عَلَيْهِ فَيَنْقَطِعُ النَّسْلُ فَيَقِلُّ الْمُسْلِمُونَ بِانْقِطَاعِهِ وَيَكْثُرُ الْكُفَّارُ فَهُوَ خِلَافُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْبعْثَة المحمدية الحَدِيث الثَّانِي





[ قــ :4804 ... غــ :5075] قَوْله جرير هُوَ بن عبد الحميد وَإِسْمَاعِيل هُوَ بن أبي خَالِد وَقيس هُوَ بن أبي حَازِم وَعبد الله هُوَ بن مَسْعُودٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلُ بِبَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخر عَن إِسْمَاعِيل بِلَفْظ عَن بن مَسْعُودٍ وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ جَرِيرٍ بِلَفْظِ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ .

     قَوْلُهُ  أَلَا نَسْتَخْصِي أَيْ أَلَا نستدعي من يفعل بِنَا الْخِصَاءَ أَوْ نُعَالِجُ ذَلِكَ بأَنْفُسِنَا وَقَولُهُ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ هُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ بِلَا خِلَافٍ فِي بَنِي آدَمَ لِمَا تَقَدَّمَ وَفِيهِ أَيْضًا مِنَ الْمَفَاسِدِ تَعْذِيبِ النَّفْسِ وَالتَّشْوِيهِ مَعَ إِدْخَالِ الضَّرَرِ الَّذِي قَدْ يُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ وَفِيهِ إِبْطَالُ مَعْنَى الرُّجُولِيَّةِ وَتَغْيِيرُ خَلْقِ اللَّهِ وَكُفْرُ النِّعْمَةِ لِأَنَّ خَلْقَ الشَّخْصِ رَجُلًا مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ فَإِذَا أَزَالَ ذَلِكَ فَقَدْ تَشَبَّهَ بِالْمَرْأَةِ وَاخْتَارَ النَّقْصَ عَلَى الْكَمَالِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ الْخِصَاءُ فِي غَيْرِ بَنِي آدَمَ مَمْنُوعٌ فِي الْحَيَوَانِ إِلَّا لِمَنْفَعَةٍ حَاصِلَةٍ فِي ذَلِكَ كَتَطْيِيبِ اللَّحْمِ أَوْ قَطْعِ ضَرَرٍ عَنْهُ.

     وَقَالَ  النَّوَوِيُّ يَحْرُمُ خِصَاءُ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ مُطْلَقًا.
وَأَمَّا الْمَأْكُولُ فَيَجُوزُ فِي صَغِيرِهِ دُونَ كَبِيرِهِ وَمَا أَظُنُّهُ يَدْفَعُ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ إِبَاحَةِ ذَلِكَ فِي الْحَيَوَانِ الْكَبِيرِ عِنْدَ إِزَالَةِ الضَّرَرِ .

     قَوْلُهُ  ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ .

     قَوْلُهُ  أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ أَيْ إِلَى أَجَلٍ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ .

     قَوْلُهُ  ثُمَّ قَرَأَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ لكم الْآيَةَ سَاقَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى قَوْلِهِ الْمُعْتَدِينَ وَظَاهِرُ استشهاد بن مَسْعُودٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُنَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ يَرَى بِجَوَازِ الْمُتْعَةِ فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ لَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ بَلَغَهُ النَّاسِخُ ثُمَّ بَلَغَهُ فَرَجَعَ بَعْدُ.

قُلْتُ يُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ فَفَعَلَهُ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ قَالَ وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ ثُمَّ جَاءَ تَحْرِيمُهَا بَعْدُ وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ ثُمَّ نُسِخَ وَسَيَأْتِي مَزِيدُ الْبَحْثِ فِي حُكْمِ الْمُتْعَةِ بَعْدَ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ بَابًا الْحَدِيثُ الثَالِثُ





[ قــ :4804 ... غــ :5076] .

     قَوْلُهُ  وقَال أَصْبَغُ كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا وَكَلَامُ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ حَدِيثًا وَقَدْ وَصَلَهُ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ وَالْجَوْزَقِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَصْبَغَ وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ من طَرِيق حَرْمَلَة عَن بن وَهْبٍ وَذَكَرَ مُغَلْطَايْ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَصْبَغَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ غَلَطٌ هُوَ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ لَيْسَ فِي آبَائِهِ مُحَمَّدٌ .

     قَوْلُهُ  إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ وَأَنَا أَخَافُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَإِنِّي أَخَافُ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ .

     قَوْلُهُ  الْعَنَتُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ هُوَ الزِّنَا هُنَا وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْفُجُورِ وَالْأَمْرِ الشَّاقِّ وَالْمَكْرُوهِ.

     وَقَالَ  بن الْأَنْبَارِيِّ أَصْلُ الْعَنَتِ الشِّدَّةُ .

     قَوْلُهُ  وَلَا أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَسَكَتَ عَنِّي كَذَا وَقَعَ وَفِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ وَلَا أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَائْذَنْ لِي أَخْتَصِي وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ عَنْ مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ .

     قَوْلُهُ  جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ أَيْ نَفَذَ الْمَقْدُورُ بِمَا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَبَقِيَ الْقَلَمُ الَّذِي كتب بِهِ جافا لامداد فِيهِ لِفَرَاغِ مَا كُتِبَ بِهِ قَالَ عِيَاضٌ كِتَابَةُ اللَّهِ وَلَوْحُهُ وَقَلَمُهُ مِنْ غَيْبِ عِلْمِهِ الَّذِي نُؤْمِنُ بِهِ وَنَكِلُ عِلْمَهُ إِلَيْهِ .

     قَوْلُهُ  فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ وَحَكَاهَا الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ وَوَقَعَتْ فِي الْمَصَابِيحِ فَاقْتَصَرْ عَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ قَالَ الطِّيبِيُّ مَعْنَاهُ اقْتَصِرْ عَلَى الَّذِي أَمَرْتُكَ بِهِ أَوِ اتْرُكْهُ وَافْعَلْ مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْخِصَاءِ اه.
وَأَمَّا اللَّفْظُ الَّذِي وَقَعَ فِي الْأَصْلِ فَمَعْنَاهُ فَافْعَلْ مَا ذَكَرْتُ أَوِ اتْرُكْهُ وَاتَّبِعْ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ وَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ لِطَلَبِ الْفِعْلِ بَلْ هُوَ لِلتَّهْدِيدِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر وَالْمَعْنَى إِنْ فَعَلْتَ أَوْ لَمْ تَفْعَلْ فَلَا بُدَّ مِنْ نُفُوذِ الْقَدَرِ وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِحُكْمِ الْخِصَاءِ وَمُحَصِّلُ الْجَوَابِ أَنَّ جَمِيعَ الْأُمُورِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ فَالْخِصَاءُ وَتَرْكُهُ سَوَاءٌ فَإِن الَّذِي قُدِّرَ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ وَقَولُهُ عَلَى ذَلِكَ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمُقَدَّرٍ أَيِ اخْتُصَّ حَالُ اسْتِعْلَائِكَ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَلَيْسَ إِذْنًا فِي الْخِصَاءِ بَلْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ كَأَنَّهُ قَالَ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الِاخْتِصَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ لَمَّا اسْتَأْذَنَهُ فِي ذَلِكَ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ قَبْلَ هِجْرَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمُدَّةٍ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث بن عَبَّاسٍ قَالَ شَكَا رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُزُوبَةَ فَقَالَ أَلَا أَخْتَصِي قَالَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَصَى أَوِ اخْتَصَى وَفِي الْحَدِيثِ ذَمُّ الِاخْتِصَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ وَأَنَّ الْقَدَرَ إِذَا نَفَذَ لَا تَنْفَعُ الْحِيَلُ وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ شَكْوَى الشَّخْصِ مَا يَقَعُ لَهُ لِلْكَبِيرِ وَلَوْ كَانَ مِمَّا يُسْتَهْجَنُ وَيُسْتَقْبَحُ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدِ الصَّدَاقَ لَا يَتَعَرَّضُ لِلتَّزْوِيجِ وَفِيهِ جَوَازُ تَكْرَارِ الشَّكْوَى إِلَى ثَلَاثٍ وَالْجَوَابُ لِمَنْ لَا يَقْنَعُ بِالسُّكُوتِ وَجَوَازُ السُّكُوتِ عَنِ الْجَوَابِ لِمَنْ يَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ يَفْهَمُ الْمُرَادَ مِنْ مُجَرَّدِ السُّكُوتِ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ أَنْ يُقَدِّمَ طَالِبُ الْحَاجَةِ بَيْنَ يَدَيْ حَاجَتِهِ عُذْرَهُ فِي السُّؤَالِ.

     وَقَالَ  الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمْرَةَ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَهْمَا أَمْكَنَ الْمُكَلَّفَ فِعْلُ شَيْءٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ لَا يَتَوَكَّلُ إِلَّا بَعْدَ عَمَلِهَا لِئَلَّا يُخَالِفَ الْحِكْمَةَ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ وَطَّنَ نَفْسَهَ عَلَى الرِّضَا بِمَا قَدَّرَهُ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ وَلَا يَتَكَلَّفُ مِنَ الْأَسْبَابِ مَا لَا طَاقَةَ بِهِ لَهُ وَفِيهِ أَنَّ الْأَسْبَابَ إِذَا لَمْ تُصَادِفِ الْقَدَرَ لَا تُجْدِي فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ يُؤْمَرْ أَبُو هُرَيْرَةَ بِالصِّيَامِ لِكَسْرِ شَهْوَتِهِ كَمَا أُمِرَ غَيْرُهُ فَالْجَوَابُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ مُلَازَمَةَ الصِّيَامِ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ.

قُلْتُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعَ يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ الْحَدِيثَ لَكِنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فِي حَالِ الْغَزْوِ كَمَا وَقَعَ لِابْنِ مَسْعُودٍ وَكَانُوا فِي حَالِ الْغَزْوِ يُؤْثِرُونَ الْفِطْرَ عَلَى الصِّيَامِ لِلتَّقَوِّي عَلَى الْقِتَالِ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى حَسْمِ مَادَّةِ الشَّهْوَةِ بِالِاخْتِصَاءِ كَمَا ظَهَرَ لِعُثْمَانَ فَمَنَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا لَمْ يُرْشِدْهُ إِلَى الْمُتْعَةِ الَّتِي رَخَّصَ فِيهَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ شَيْئًا وَمَنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا أَصْلًا لَا ثَوْبًا وَلَا غَيْرَهُ فَكَيْفَ يَسْتَمْتِعُ وَالَّتِي يَسْتَمْتِعُ بِهَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ شَيْء