فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب الرياء والسمعة

( قَولُهُ بَابُ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ)
الرِّيَاءُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمَدِّ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ إِظْهَارُ الْعِبَادَةِ لِقَصْدِ رُؤْيَةِ النَّاسِ لَهَا فَيَحْمَدُوا صَاحِبَهَا وَالسُّمْعَةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ مُشْتَقَّةٌ مِنْ سَمِعَ وَالْمُرَادُ بِهَا نَحْوُ مَا فِي الرِّيَاءِ لَكِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ وَالرِّيَاءُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ.

     وَقَالَ  الْغَزَالِيُّ الْمَعْنَى طَلَبُ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ بِأَنْ يُرِيَهِمُ الْخِصَالَ المحمودة والمرائي هُوَ الْعَامِل.

     وَقَالَ  بن عَبْدِ السَّلَامِ الرِّيَاءُ أَنْ يَعْمَلَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَالسُّمْعَةُ أَنْ يُخْفِيَ عَمَلَهُ لِلَّهِ ثُمَّ يُحَدِّثَ بِهِ النَّاس



[ قــ :6161 ... غــ :6499] قَوْله يحيى هُوَ بن سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَسُفْيَانُ فِي الطَّرِيقَيْنِ هُوَ الثَّوْرِيُّ وَالسَّنَدُ الثَّانِي أَعْلَى مِنَ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَكْتَفِ بِهِ مَعَ عُلُوِّهُ لِأَنَّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَزَايَا وَهِيَ جَلَالَةُ الْقَطَّانِ وَمَا وَقَعَ فِي سِيَاقِهِ مِنْ تَصْرِيحِ سُفْيَانَ بِالتَّحْدِيثِ وَنِسْبَةُ سَلَمَةَ شَيْخِ الثَّوْرِيِّ وَهُوَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ بِالتَّصْغِيرِ بن حُصَيْنٍ الْحَضْرَمِيِّ وَالسَّنَدُ الثَّانِي كُلُّهُ كُوفِيُّونَ .

     قَوْلُهُ  وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَهُ وَثَبَتَ كَذَلِكَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ وَقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ وَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ حَدِيثًا مُسْنَدًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ جُنْدُبٍ وَهُوَ بن عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ وَهُوَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ.

     وَقَالَ  الْكِرْمَانِيُّ مُرَادُهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ.

قُلْتُ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ عَمَّنْ كَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ مَوْجُودًا إِذْ ذَاكَ بِغَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ جُنْدَبٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ جُنْدَبًا كَانَ بِالْكُوفَةِ إِلَى أَنْ مَاتَ وَكَانَ بِهَا فِي حَيَاةِ جُنْدَبٍ أَبُو جُحَيْفَةَ السَّوَائِيُّ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ جُنْدَبٍ بِسِتِّ سِنِينَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ جُنْدَبٍ بِعِشْرِينَ سَنَةً وَقَدْ رَوَى سَلَمَةُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمَا وَلَا مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَا مِنْ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ كَانَ مَوْجُودًا مِنَ الصَّحَابَةِ بِغَيْرِ الْكُوفَةِ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ مِنْ جُنْدَبٍ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا .

     قَوْلُهُ  مَنْ سَمَّعَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ الثَّقِيلَةِ وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا وَقَولُهُ وَمَنْ يُرَائِي بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَالْمَدِّ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا وَقَدْ ثَبَتَتِ الْيَاءُ فِي آخِرِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَمَّا الْأُولَى فَلِلْإِشْبَاعِ.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَكَذَلِكَ أَوِ التَّقْدِيرُ فَإِنَّهُ يُرَائِي بِهِ اللَّهَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَنْ يُسَمِّعْ يسمع الله بِهِ وَمن يرائي يرائي اللَّهُ بِهِ وَلِابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ مِنْ حَدِيث بن مَسْعُودٍ مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ راأى رأى اللَّهُ بِهِ وَمَنْ تَطَاوَلَ تَعَاظُمًا خَفَضَهُ اللَّهُ وَمَنْ تَوَاضَعَ تَخَشُّعًا رَفَعَهُ اللَّهُ وَفِي حَدِيثِ بن عَبَّاس عِنْد بَيَاض فِي الأَصْل من سمع سمع الله بِهِ وَمن رأى رأى اللَّهُ بِهِ وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ جَابِرٍ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَنْ كَانَ ذَا لِسَانَيْنِ فِي الدُّنْيَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ لِسَانَيْنِ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا عَلَى غَيْرِ إِخْلَاصٍ وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ وَيَسْمَعُوهُ جُوزِيَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يُشَهِّرَهُ اللَّهُ وَيَفْضَحَهُ وَيُظْهِرَ مَا كَانَ يُبْطِنُهُ وَقِيلَ مَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ الجاه والمنزلة عندالناس وَلَمْ يُرِدْ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُهُ حَدِيثًا عِنْدَ النَّاسِ الَّذِينَ أَرَادَ نَيْلَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ وَلَا ثَوَابَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَمَعْنَى يُرَائِي يُطْلِعُهُمْ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لَهُمْ لَا لِوَجْهِهِ وَمِنْهُ .

     قَوْلُهُ  تَعَالَى مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نوف إِلَيْهِم اعمالهم فِيهَا إِلَى قَوْله مَا كَانُوا يعْملُونَ وَقِيلَ الْمُرَادُ مَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ أَنْ يَسْمَعَهُ النَّاسُ وَيَرَوْهُ لِيُعَظِّمُوهُ وَتَعْلُوَ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُمْ حَصَلَ لَهُ مَا قَصَدَ وَكَانَ ذَلِكَ جَزَاءَهُ عَلَى عَمَلِهِ وَلَا يُثَابُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ وَقِيلَ الْمَعْنَى مَنْ سَمَّعَ بِعُيُوبِ النَّاسِ وَأَذَاعَهَا أَظْهَرَ اللَّهُ عُيُوبَهُ وَسَمَّعَهُ الْمَكْرُوهَ وَقِيلَ الْمَعْنَى مَنْ نَسَبَ إِلَى نَفْسِهِ عَمَلًا صَالِحًا لَمْ يَفْعَلْهُ وَادَّعَى خَيْرًا لَمْ يَصْنَعْهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَفْضَحُهُ وَيظْهر كذبه وَقيل الْمَعْنى من يرائي النَّاسَ بِعَمَلِهِ أَرَاهُ اللَّهُ ثَوَابَ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَحرمه إِيَّاه وَقيل مَعْنَى سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ شَهَّرَهُ أَوْ مَلَأَ أَسْمَاعَ النَّاسِ بِسُوءِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْقِيَامَةِ بِمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنْ خُبْثِ السَّرِيرَةِ.

قُلْتُ وَرَدَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ التَّصْرِيحُ بِوُقُوعِ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فَعِنْدَ أَحْمَدَ وَالدَّارِمِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هِنْدٍ الدَّارِيِّ رَفَعَهُ مَنْ قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ رأى اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسَمَّعَ بِهِ وَلِلطَّبَرَانِيِّ من حَدِيث عَوْف بن مَالك نَحوه وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُومُ فِي الدُّنْيَا مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ الا سمع الله بِهِ على رُؤُوس الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ إِخْفَاءِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لَكِنْ قَدْ يُسْتَحَبُّ إِظْهَارُهُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ عَلَى إِرَادَتِهِ الِاقْتِدَاءَ بِهِ وَيُقَدَّرُ ذَلِك بِقدر الْحَاجة قَالَ بن عَبْدِ السَّلَامِ يُسْتَثْنَى مِنِ اسْتِحْبَابِ إِخْفَاءِ الْعَمَلِ مَنْ يُظْهِرُهُ لِيُقْتَدَى بِهِ أَوْ لِيُنْتَفَعَ بِهِ كَكِتَابَةِ الْعِلْمِ وَمِنْهُ حَدِيثُ سَهْلٍ الْمَاضِي فِي الْجُمُعَةِ لِتَأْتَمُّوا بِي وَلْتَعْلَمُوا صَلَاتِي قَالَ الطَّبَرِيُّ كَانَ بن عمر وبن مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ يَتَهَجَّدُونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَيَتَظَاهَرُونَ بِمَحَاسِنِ أَعْمَالِهِمْ لِيُقْتَدَى بِهِمْ قَالَ فَمَنْ كَانَ إِمَامًا يُسْتَنُّ بِعَمَلِهِ عَالِمًا بِمَا لِلَّهِ عَلَيْهِ قَاهِرًا لِشَيْطَانِهِ اسْتَوَى مَا ظَهَرَ مِنْ عَمَلِهِ وَمَا خَفِيَ لِصِحَّةِ قَصْدِهِ وَمَنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَالْإِخْفَاءُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى عَمَلُ السَّلَفِ فَمِنَ الْأَوَّلِ حَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ سَلِمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقْرَأُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالذِّكْرِ فَقَالَ إِنَّهُ أَوَّابٌ قَالَ فَإِذَا هُوَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَمِنَ الثَّانِي حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَامَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُسْمِعْنِي وَأَسْمِعْ رَبك أخرجه احْمَد وبن أبي خَيْثَمَة وَسَنَده حسن