فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب من قضي له بحق أخيه فلا يأخذه، فإن قضاء الحاكم لا يحل حراما ولا يحرم حلالا

( .

     قَوْلُهُ  بَابٌ بِالتَّنْوِينِ مَنْ قُضِيَ لَهُ)

بِضَمِّ أَوَّلِهِ بِحَقِّ أَخِيهِ أَيْ خَصْمِهِ فَهِيَ أُخُوَّةٌ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ وَهُوَ الْجِنْسُ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ وَالْمُعَاهَدَ وَالْمُرْتَدَّ فِي هَذَا الْحُكْمِ سَوَاءٌ فَهُوَ مُطَّرِدٌ فِي الْأَخِ مِنَ النَّسَبِ وَمِنَ الرَّضَاعِ وَفِي الدِّينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ الْأُخُوَّةِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَابِ التَّهْيِيجِ وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِقَوْلِهِ بِحَقِّ أَخِيهِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ الْخَبَرِ وَلِذَلِكَ قَالَ فَلَا يَأْخُذْهُ لِأَنَّهُ بَقِيَّةُ الْخَبَرِ وَهَذَا اللَّفْظُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْهُ .

     قَوْلُهُ  فَإِنَّ قَضَاءَ الْحَاكِمِ لَا يُحِلُّ حَرَامًا وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا هَذَا الْكَلَامُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ إِنَّمَا كُلِّفُوا الْقَضَاءَ عَلَى الظَّاهِرِ وَفِيهِ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي لَا يُحَرِّمُ حَلَالًا وَلَا يحل حَرَامًا



[ قــ :6797 ... غــ :7181] قَوْله عَن صَالح هُوَ بن كَيْسَانَ وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ .

     قَوْلُهُ  سَمِعَ خُصُومَةً فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ سَمِعَ جَلَبَةَ خِصَامٍ وَالْجَلَبَةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَاللَّامِ اخْتِلَاطُ الْأَصْوَاتِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُثَنَّى مُذَكَّرًا وَمُؤَنَّثًا وَيَجُوزُ جَمْعُهُ وَتَثْنِيَتُهُ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبَابِ خُصُومٌ وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هَذَانِ خصمان وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ هِشَامٍ لَجَبَةَ بِتَقْدِيمِ اللَّامِ عَلَى الْجِيمِ وَهِيَ لُغَةٌ فِيهَا فَأَمَّا الْخُصُومُ فَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِمْ وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمَا كَانَا اثْنَيْنِ فِي رِوَايَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَافِعٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَلَفْظُهُ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ.
وَأَمَّا الْخُصُومَةُ فَبَيَّنَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ أَنَّهَا كَانَتْ فِي مَوَارِيثَ لَهُمَا وَفِي لَفْظٍ عِنْدَهُ فِي مَوَارِيثَ وَأَشْيَاءَ قَدْ دَرَسَتْ .

     قَوْلُهُ  بِبَابِ حُجْرَتِهِ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ وَيُونُسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ عِنْدَ بَابِهِ وَالْحُجْرَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ مَنْزِلُ أُمِّ سَلَمَةَ وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ بِبَابِ أُمِّ سَلَمَةَ .

     قَوْلُهُ  إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ الْبَشَرُ الْخَلْقُ يُطْلَقُ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مِنْهُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مُشَارِكٌ لِلْبَشَرِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَلَوْ زَادَ عَلَيْهِمْ بِالْمَزَايَا الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَالْحَصْرُ هُنَا مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْعِلْمِ الْبَاطِنِ وَيُسَمَّى قصر قلب لِأَن أَتَى بِهِ رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَنْ كَانَ رَسُولًا فَإِنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ غَيْبٍ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْمَظْلُومُ .

     قَوْلُهُ  وَأَنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَمِثْلُهُ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ أَلْحَنَ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ .

     قَوْلُهُ  فَأَحْسَبُ أَنَّهُ صَادِقٌ هَذَا يُؤْذِنُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ كَاذِبٌ وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ فَأَظُنُّهُ صَادِقًا .

     قَوْلُهُ  فَأَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ فَأَقْضِي لَهُ عَلَيْهِ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ إِنِّي إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِرَأْيِي فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهِ .

     قَوْلُهُ  فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ وَمَعْمَرٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا وَكَأَنَّهُ ضَمَّنَ قَضَيْتُ مَعْنَى أَعْطَيْتُ وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَلَا يَأْخُذْهُ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِقَضِيَّةٍ أَرَاهَا يُقْطَعُ بِهَا قِطْعَةٌ ظُلْمًا فَإِنَّمَا يُقْطَعُ لَهُ بِهَا قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ إِسْطَامًا يَأْتِي بِهَا فِي عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْإِسْطَامُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ قِطْعَةٌ فَكَأَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ .

     قَوْلُهُ  فَإِنَّمَا هِيَ الضَّمِيرُ لِلْحَالَةِ أَوِ الْقِصَّةِ .

     قَوْلُهُ  قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ أَيْ الَّذِي قَضَيْتُ لَهُ بِهِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ إِذَا كَانَ فِي الْبَاطِنِ لَا يَسْتَحِقُّهُ فَهُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ يَئُولُ بِهِ إِلَى النَّارِ وَقَولُهُ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ تَمْثِيلٌ يُفْهَمُ مِنْهُ شِدَّةُ التَّعْذِيبِ عَلَى مَنْ يَتَعَاطَاهُ فَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بطونهم نَارا .

     قَوْلُهُ  فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا فِي رِوَايَةِ يُونُسَ فليحملها أَوْ لِيَذَرْهَا وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ هِشَامٌ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً لَكِنَّ الزُّهْرِيَّ أَحْفَظُ مِنْهُ وَحَكَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ.

قُلْتُ وَرِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ تَرْجِعُ إِلَى رِوَايَةِ هِشَامٍ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلتَّهْدِيدِ لَا لِحَقِيقَةِ التَّخْيِيرِ بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ فَمن شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر قَالَ بن التِّينِ هُوَ خِطَابٌ لِلْمُقْضَى لَهُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ هَلْ هُوَ مُحِقٌّ أَوْ مُبْطِلٌ فَإِنْ كَانَ مُحِقًّا فَلْيَأْخُذْ وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فَلْيَتْرُكْ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَنْقُلُ الْأَصْلَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ تَنْبِيهٌ زَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَافِعٍ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ فَبَكَى الرَّجُلَانِ.

     وَقَالَ  كُلُّ مِنْهُمَا حَقِّي لَكَ فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا إِذَا فَعَلْتُمَا فَاقْتَسِمَا وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ ثُمَّ اسْتَهِمَا ثُمَّ تَحَالَلَا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ إِثْمُ مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ حَتَّى اسْتَحَقَّ بِهِ فِي الظَّاهِرِ شَيْئًا هُوَ فِي الْبَاطِلِ حَرَامٌ عَلَيْهِ وَفِيهِ أَنَّ مَنِ ادَّعَى مَالًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَحَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِبَرَاءَةِ الْحَالِفِ أَنَّهُ لَا يُبَرَّأُ فِي الْبَاطِنِ وَأَنَّ الْمُدَّعِي لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بَعْدَ ذَلِكَ تُنَافِي دَعْوَاهُ سُمِعَتْ وَبَطَلَ الْحُكْمُ وَفِيهِ أَنَّ مَنِ احْتَالَ لِأَمْرٍ بَاطِلٍ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْحِيَلِ حَتَّى يَصِيرَ حَقًّا فِي الظَّاهِرِ وَيُحْكَمُ لَهُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْإِثْمُ بِالْحُكْمِ وَفِيهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ قَدْ يُخْطِئُ فَيُرَدُّ بِهِ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَفِيهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا أَخْطَأَ لَا يَلْحَقْهُ إِثْمٌ بَلْ يُؤْجَرُ كَمَا سَيَأْتِي وَفِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْضِي بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ قَوْمٌ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَصْرَحِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَيْهِمْ وَفِيهِ أَنَّهُ رُبَّمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَمْرٍ فَيَحْكُمُ بِهِ وَيَكُونُ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَكِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ لَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثُبُوتِ عِصْمَتِهِ وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ مُطْلَقًا بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ وُقُوعُ الْخَطَأِ فِي حُكْمِهِ لَلَزِمَ أَمْرَ الْمُكَلَّفِينَ بِالْخَطَأِ لِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ حَتَّى قَالَ تَعَالَى فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شجر بَينهم الْآيَةَ وَبِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مَعْصُومٌ مِنَ الْخَطَأِ فَالرَّسُولُ أَوْلَى بِذَلِكَ لِعُلُوِّ رُتْبَتِهِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا اسْتَلْزَمَ إِيقَاعَ الْخَطَأِ لَا مَحْذُورَ فِيهِ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْمُقَلِّدِينَ فَإِنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ وَلَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْخَطَأُ وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي أَنَّ الْمُلَازَمَةَ مَرْدُودَةٌ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ إِذَا فُرِضَ وُجُودُهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُسْتَنَدَهُمْ مَا جَاءَ عَنِ الرَّسُولِ فَرَجَعَ الِاتِّبَاعُ إِلَى الرَّسُولِ لَا إِلَى نَفْسِ الْإِجْمَاعِ وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِمَنْ أَثْبَتَ أَنَّهُ قَدْ يُحْكَمُ بِالشَّيْءِ فِي الظَّاهِرِ وَيَكُونُ الْأَمْرُ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِهِ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مُحَالٌ عَقْلًا وَلَا نَقْلًا وَأجَاب من منع بِأَنَّ الْحَدِيثَ يَتَعَلَّقُ بِالْحُكُومَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي فَصْلِ الْخُصُومَاتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ وَلَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ فِيهَا وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُقَرُّ عَلَى الْخَطَأِ وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعَةُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ الْخَطَأُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ أَمْرٍ بِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فِيهِ كَذَا وَيَكُونُ ذَلِكَ نَاشِئًا عَنِ اجْتِهَادِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى الْآيَةَ وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ كَمَا كَانَ وَمِنْ حُجَجِ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِ مَنْ تَلَفَّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَعْتَقِدُ خِلَافَ ذَلِكَ وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ اطِّلَاعُهُ بِالْوَحْيِ عَلَى كُلِّ حُكُومَةٍ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُشَرِّعًا كَانَ يَحْكُمُ بِمَا شَرَعَ لِلْمُكَلَّفِينَ وَيَعْتَمِدُهُ الْحُكَّامُ بَعْدَهُ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَيْ فِي الْحُكْمِ بِمِثْلِ مَا كُلِّفُوا بِهِ وَإِلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بإيراده حَدِيث عَائِشَة فِي قصَّة بن وَلِيدَةِ زَمْعَةَ حَيْثُ حَكَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَلَدِ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ وَأَلْحَقَهُ بِزَمْعَةَ ثُمَّ لَمَّا رَأَى شُبْهَةً بِعُتْبَةَ أَمَرَ سَوْدَةَ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُ احْتِيَاطًا وَمِثْلُهُ .

     قَوْلُهُ  فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَمَّا وَضَعَتِ الَّتِي لُوعِنَتْ وَلَدًا يُشْبِهُ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ فَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم فِي بن وَلِيدَةِ زَمْعَةَ بِالظَّاهِرِ وَلَوْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَيْسَ مِنْ زَمْعَةَ وَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ خَطَأٌ فِي الِاجْتِهَادِ وَلَا هُوَ مِنْ مَوَارِدِ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ قَالَ وَفِيهِ أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ يَقَعُ عَلَى مَا يُسْمَعُ مِنَ الْخَصْمَيْنِ بِمَا لَفَظُوا بِهِ وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي قُلُوبِهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَى أَحَدٍ بِغَيْرِ مَا لَفَظَ بِهِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ قَالَ وَمِثْلُ هَذَا قَضَاؤُهُ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ بِابْنِ الْوَلِيدَةِ فَلَمَّا رَأَى الشَّبَهَ بَيِّنًا بِعُتْبَةَ قَالَ احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ انْتَهَى وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي قَوْله انما أَنا بشر امْتِثَالُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى قُلْ إِنَّمَا أَنَا بشر مثلكُمْ أَيْ فِي إِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ فَأُمِرَ أَنْ يَحْكُمَ بِمِثْلِ مَا أُمِرُوا أَنْ يَحْكُمُوا بِهِ لِيَتِمَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَتَطِيبَ نُفُوسُ الْعِبَادِ لِلِانْقِيَادِ إِلَى الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْبَاطِنِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ هُنَا مَقَامَيْنِ أَحَدُهُمَا طَرِيقُ الْحُكْمِ وَهُوَ الَّذِي كُلِّفَ الْمُجْتَهِدُ بِالتَّبَصُّرِ فِيهِ وَبِهِ يَتَعَلَّقُ الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ وَفِيهِ الْبَحْثُ وَالْآخَرُ مَا يُبْطِنُهُ الْخَصْمُ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ وَمَنْ شَاءَ مِنْ رُسُلِهِ فَلَمْ يَقَعِ التَّكْلِيفُ بِهِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ بِتَمْلِيكِ مَالٍ أَوْ إِزَالَةِ مِلْكٍ أَوْ إِثْبَاتِ نِكَاحٍ أَوْ فُرْقَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ إِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ كَمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ نَفَذَ عَلَى مَا حَكَمَ بِهِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ عَلَى خِلَافِ مَا اسْتَنَدَ إِلَيْهِ الْحَاكِمُ مِنَ الشَّهَادَةِ أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ مُوجِبًا لِلتَّمْلِيكِ وَلَا الْإِزَالَةِ وَلَا النِّكَاحِ وَلَا الطَّلَاقِ وَلَا غَيْرِهَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمَعَهُمْ أَبُو يُوسُفَ وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ إِنْ كَانَ فِي مَالٍ وَكَانَ الْأَمْرُ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ مَا اسْتَنَدَ إِلَيْهِ الْحَاكِمُ مِنَ الظَّاهِرِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِحِلِّهِ لِلْمَحْكُومِ لَهُ وَإِنْ كَانَ فِي نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَحَمَلُوا حَدِيثَ الْبَابِ عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ وَهُوَ الْمَالُ وَاحْتَجُّوا لِمَا عَدَاهُ بِقِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ صَدَقَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ قَالَ فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ قَضَاءٍ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ أَنَّهُ عَلَى الظَّاهِرِ وَلَوْ كَانَ الْبَاطِنُ بِخِلَافِهِ وَأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يُحْدِثُ فِي ذَلِكَ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْفُرْقَةَ فِي اللِّعَانِ إِنَّمَا وَقَعَتْ عُقُوبَةً لِلْعِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ وَهُوَ أَصْلٌ بِرَأْسِهِ فَلَا يُقَاسَ عَلَيْهِ وَأَجَابَ غَيْرُهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِسَمَاعِ كَلَامِ الْخَصْمِ حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ هُنَاكَ وَلَا يَمِينَ وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَبِأَنَّ مَنْ فِي قَوْلِهِ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ شَرْطِيَّةٌ وَهِيَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْوُقُوعَ فَيَكُونُ مِنْ فَرْضِ مَا لَمْ يَقَعْ وَهُوَ جَائِزٌ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ غَرَضٌ وَهُوَ هُنَا مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ لِلتَّهْدِيدِ وَالزَّجْرِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِاللَّسَنِ وَالْإِبْلَاغِ فِي الْخُصُومَةِ وَهُوَ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَسْتَلْزِمَ عَدَمَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بَاطِنًا فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ لَكِنَّهُ لَمْ يُسَقْ لِذَلِكَ فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ مَنَعَ وَبِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَا قَضَى بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ إِلَّا إِذَا اسْتَمَرَّ الْخَطَأُ وَإِلَّا فَمَتَى فُرِضَ أَنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ الْحُكْمَ وَيَرُدَّ الْحَقَّ لِمُسْتَحِقِّهِ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُخَالِفُ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَسْقُطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَيُؤَوَّلَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَإِمَّا أَنْ يَسْتَلْزِمَ اسْتِمْرَارَ التَّقْرِيرِ عَلَى الْخَطَأِ وَهُوَ بَاطِلٌ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَكَذَا الثَّانِي وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ أَنَّ الْخَطَأَ الَّذِي لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي صَدَرَ عَنِ اجْتِهَادِهِ فِيمَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ فِيهِ وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْحُكْمِ الصَّادِرِ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى شَهَادَةِ زُورٍ أَوْ يَمِينٍ فَاجِرَةٍ فَلَا يُسَمَّى خَطَأً لِلِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ وَبِالْإِيمَانِ وَإِلَّا لَكَانَ الْكَثِيرُ مِنَ الْأَحْكَامِ يُسَمَّى خَطَأً وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحَدِيثِ إِنِّي لَمْ أُومَرْ بِالتَّنْقِيبِ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَعَلَى هَذَا فَالْحُجَّةُ مِنَ الْحَدِيثِ ظَاهِرَةٌ فِي شُمُولِ الْخَبَرِ الْأَمْوَالَ وَالْعُقُودَ وَالْفُسُوخَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ إِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي دَعْوَى حِلِّ الزَّوْجَةِ لِمَنْ أَقَامَ بِتَزْوِيجِهَا بِشَاهِدَيْ زُورٍ وَهُوَ يَعْلَمُ بِكَذِبِهِمَا وَبَيْنَ مَنِ ادَّعَى عَلَى حُرٍّ أَنَّهُ فِي مِلْكِهِ وَأَقَامَ بِذَلِكَ شَاهِدَيْ زُورٍ وَهُوَ يَعْلَمُ حُرِّيَّتَهُ فَإِذَا حَكَمَ لَهُ الْحَاكِمُ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُ بِالْإِجْمَاعِ قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يَحِلُّ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مُخَالِفٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَلِلْإِجْمَاعِ السَّابِقِ عَلَى قَائِلَةٍ وَلِقَاعِدَةٍ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهَا وَوَافَقَهُمُ الْقَائِلُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ أَنَّ الْأَبْضَاعَ أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ مِنَ الْأَمْوَالِ.

     وَقَالَ  بن الْعَرَبِيِّ إِنْ كَانَ حَاكِمًا نَفَذَ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُفْتِيًا لَمْ يَحِلَّ فَإِنْ كَانَ الْمُفْتَى لَهُ مُجْتَهِدًا يَرَى بِخِلَافِ مَا أَفْتَاهُ بِهِ لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا جَازَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ جَوَازُ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَجْهُولِ لِأَنَّ التَّوَخِّيَ لَا يَكُونُ فِي الْمَعْلُومِ.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيُّ شَنَّعُوا عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا لِمُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَلِأَنَّ فِيهِ صِيَانَةَ الْمَالِ وَابْتِذَالَ الْفُرُوجِ وَهِيَ أَحَقُّ أَنْ يُحْتَاطَ لَهَا وَتُصَانَ وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِمَا جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ امْرَأَةً فَأَبَتْ فَادَّعَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ إِنَّهُمَا شَهِدَا بِالزُّورِ فَزَوِّجْنِي أَنْتَ مِنْهُ فَقَدْ رَضِيتُ فَقَالَ شَاهِدَاك زَوَّجَاكِ وَأَمْضَى عَلَيْهَا النِّكَاحَ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ عَلِيٍّ وَاحْتَجَّ الْمَذْكُورُ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ بِأَنَّ الْحَاكِمَ قَضَى بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فِيمَا لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ فِيهِ فَجَعَلَ الْإِنْشَاءَ تَحَرُّزًا عَنِ الْحَرَامِ وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الْمَالِ وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَمْلِكُ دَفْعَ مَالِ زَيْدٍ إِلَى عَمْرٍو وَيَمْلِكُ إِنْشَاءَ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ بَيْعَ أَمَةِ زَيْدٍ مَثَلًا مِنْ عَمْرٍو حَالَ خَوْفِ الْهَلَاكِ لِلْحِفْظِ وَحَالَ الْغَيْبَةِ وَيَمْلِكُ إِنْشَاءَ النِّكَاحِ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْفُرْقَةِ على الْعنين فَيجْعَل الحكم إنْشَاء احْتِرَازًا عَن الْحَرَام وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْفُذْ بَاطِنًا فَلَوْ حَكَمَ بِالطَّلَاقِ لَبَقِيَتْ حَلَالًا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بَاطِنًا وَلِلثَّانِي ظَاهِرًا فَلَوِ ابْتُلِيَ الثَّانِي مِثْلُ مَا ابْتُلِيَ الْأَوَّلُ حَلَّتْ لِلثَّالِثِ وَهَكَذَا فَتَحِلُّ لِجَمْعٍ مُتَعَدِّدٍ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ وَلَا يَخْفَى فُحْشُهُ بِخِلَافِ مَا إِذَا قُلْنَا بِنَفَاذِهِ بَاطِنًا فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ إِلَّا لِوَاحِدٍ انْتَهَى وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْجُمْهُورَ إِنَّمَا قَالُوا فِي هَذَا تَحْرُمُ عَلَى الثَّانِي مَثَلًا إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ تَرَتَّبَ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ فَإِذَا اعْتَمَدَ الْحُكْمَ وَتَعَمَّدَ الدُّخُولَ بِهَا فَقَدِ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا كَمَا لَوْ كَانَ الْحُكْمُ بِالْمَالِ فَأَكَلَهُ وَلَوِ ابْتُلِيَ الثَّانِي كَانَ حُكْمُ الثَّالِثِ كَذَلِكَ وَالْفُحْشُ إِنَّمَا لَزِمَ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى تَعَاطِي الْمُحَرَّمِ فَكَانَ كَمَا لَوْ زنوا ظَاهرا وَاحِدًا بعد وَاحِد.

     وَقَالَ  بن السَّمْعَانِيِّ شَرْطُ صِحَّةِ الْحُكْمِ وُجُودُ الْحُجَّةِ وَإِصَابَةُ الْمَحَلِّ وَإِذَا كَانَتِ الْبَيِّنَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ شُهُودَ زُورٍ لَمْ تَحْصُلِ الْحُجَّةُ لِأَنَّ حُجَّةَ الْحُكْمِ هِيَ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الشَّهَادَةِ إِظْهَار الْحق وَحَقِيقَة الحكم انفاذ ذَلِك وَإِذا كَانَ الشُّهُودُ كَذَبَةً لَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُمْ حَقًّا قَالَ فَإِنِ احْتَجُّوا بِأَنَّ الْقَاضِيَ حَكَمَ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَهِيَ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ فِي عِلْمِهِ وَلَمْ يُكَلَّفْ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى صِدْقِهِمْ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ فَإِذَا حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ فَقَدِ امْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ فَلَوْ قُلْنَا لَا يَنْفُذُ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ لَلَزِمَ إِبْطَالُ مَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ لِأَنَّ صِيَانَةَ الْحُكْمِ عَنِ الْإِبْطَالِ مَطْلُوبَةٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ على مُجْتَهد لَا يعْتَقد ذَلِك وانه يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْتَقِدهُ صِيَانة للْحكم وَأجَاب بن السَّمْعَانِيُّ بِأَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ لِلنُّفُوذِ وَلِهَذَا لَا يَأْثَمُ الْقَاضِي وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ نُفُوذُ الْقَضَاءِ حَقِيقَةً فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ وَإِنَّمَا يَجِبُ صِيَانَةُ الْقَضَاءِ عَنِ الْإِبْطَالِ إِذَا صَادَفَ حُجَّةً صَحِيحَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَرْعٌ لَوْ كَانَ الْمَحْكُومُ لَهُ يَعْتَقِدُ خِلَافَ مَا حَكَمَ لَهُ بِهِ الْحَاكِمُ هَلْ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ مَا حَكَمَ لَهُ بِهِ أَوْ لَا كَمَنْ مَاتَ بن ابْنِهِ وَتَرَكَ أَخًا شَقِيقًا فَرَفَعَهُ لِقَاضٍ يَرَى فِي الْجَدِّ رأْيَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَحَكَمَ لَهُ بِجَمِيعِ الْإِرْثِ دُونَ الشَّقِيقِ وَكَانَ الْجَدُّ الْمَذْكُور يرى رَأْي الْجُمْهُور نقل بن الْمُنْذِرِ عَنِ الْأَكْثَرِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْجَدِّ أَنْ يُشَارِكَ الْأَخَ الشَّقِيقَ عَمَلًا بِمُعْتَقَدِهِ وَالْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ لِمَنْ قَالَ إِنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ بِدَلِيلِ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ إِنَّمَا أَقْضِي لَهُ بِمَا أَسْمَعُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ قَبْلُ وَفِيهِ إِنَّ التَّعَمُّقَ فِي الْبَلَاغَةِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ اقْتِدَارُ صَاحِبِهَا عَلَى تَزْيِينِ الْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ وَعَكْسُهُ مَذْمُومٌ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ أَبْلَغُ أَيْ أَكْثَرُ بَلَاغَةً وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي التَّوَصُّلِ إِلَى الْحَقِّ لَمْ يُذَمَّ وَإِنَّمَا يُذَمُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ فَالْبَلَاغَةُ إِذَنْ لَا تُذَمُّ لِذَاتِهَا وَإِنَّمَا تُذَمُّ بِحَسَبِ التَّعَلُّقِ الَّذِي يُمْدَحُ بِسَبَبِهِ وَهِيَ فِي حَدِّ ذَاتِهَا مَمْدُوحَةٌ وَهَذَا كَمَا يُذَمُّ صَاحِبُهَا إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ بِسَبَبِهَا الْإِعْجَابُ وَتَحْقِيرُ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَتِهِ وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْغَيْرُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ فَإِنَّ الْبَلَاغَةَ إِنَّمَا تُذَمُّ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ بِحَسَبِ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ عَنْهَا وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْبَلَاغَةِ وَغَيْرِهَا بَلْ كُلُّ فِتْنَةٍ تُوَصِّلُ إِلَى الْمَطْلُوبِ مَحْمُودَةٌ فِي حَدِّ ذَاتِهَا وَقَدْ تُذَمُّ أَوْ تُمْدَحُ بِحَسَبِ مُتَعَلَّقِهَا وَاخْتُلِفَ فِي تَعْرِيفِ الْبَلَاغَةِ فَقِيلَ أَنْ يُبَلِّغَ بِعِبَارَةِ لِسَانِهِ كُنْهَ مَا فِي قَلْبِهِ وَقِيلَ إِيصَالُ الْمَعْنَى إِلَى الْغَيْرِ بِأَحْسَنِ لَفْظٍ وَقِيلَ الْإِيجَازُ مَعَ الْإِفْهَامِ وَالتَّصَرُّفُ مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ وَقِيلَ قَلِيلٌ لَا يُبْهَمُ وَكَثِيرٌ لَا يُسْأَمُ وَقِيلَ إِجْمَالُ اللَّفْظِ وَاتِّسَاعُ الْمَعْنَى وَقِيلَ تَقْلِيلُ اللَّفْظِ وَتَكْثِيرُ الْمَعْنَى وَقِيلَ حُسْنُ الْإِيجَازِ مَعَ إِصَابَةِ الْمَعْنَى وَقِيلَ سُهُولَةُ اللَّفْظِ مَعَ الْبَدِيهَةِ وَقِيلَ لَمْحَةٌ دَالَّةٌ أَوْ كَلِمَةٌ تَكْشِفُ عَنِ الْبُغْيَةِ وَقِيلَ الْإِيجَازُ مِنْ غَيْرِ عَجْزٍ وَالْإِطْنَابُ مِنْ غَيْرِ خَطَأٍ وَقِيلَ النُّطْقُ فِي مَوْضِعِهِ وَالسُّكُوتُ فِي مَوْضِعِهِ وَقِيلَ مَعْرِفَةُ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ وَقِيلَ الْكَلَامُ الدَّالُّ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ وَعَكْسُهُ وَهَذَا كُلُّهُ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَعَرَّفَ أَهْلُ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ الْبَلَاغَةَ بِأَنَّهَا مُطَابَقَةُ الْكَلَامِ لِمُقْتَضَى الْحَالِ وَالْفَصَاحَةِ وَهِيَ خُلُوُّهُ عَنِ التَّعْقِيدِ وَقَالُوا الْمُرَادُ بِالْمُطَابَقَةِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْمَقَامَاتِ كَالتَّأْكِيدِ وَحَذْفِهِ وَالْحَذْفِ وَعَدَمِهِ أَوِ الْإِيجَازِ وَالْإِسْهَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ حَكَمَ بِمَا يَقَعُ فِي خَاطِرِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى أَمْرٍ خَارِجِيٍّ مِنْ بَيِّنَةٍ وَنَحْوِهَا وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الشَّاهِدَ الْمُتَّصِلَ بِهِ أَقْوَى مِنَ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ وَوَجْهُ الرَّدِّ عَلَيْهِ كَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ مُطْلَقًا وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ دَلَّ حَدِيثُهُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ فَلَوْ كَانَ الْمُدَّعَى صَحِيحًا لَكَانَ الرَّسُولُ أَحَقَّ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ أَعْلَمَ أَنَّهُ تَجْرِي الْأَحْكَامُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَلَوْ كَانَ يُمْكِنُ أَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُهُ عَلَى غَيْبِ كُلِّ قَضِيَّةٍ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ تَشْرِيعَ الْأَحْكَامِ وَاقِعٌ عَلَى يَدِهِ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ تَعْلِيمَ غَيْرِهِ مِنَ الْحُكَّامِ أَنْ يَعْتَمِدُوا ذَلِكَ نَعَمْ لَوْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ مَثَلًا بِخِلَافِ مَا يَعْلَمُهُ عِلْمًا حِسِّيًّا بِمُشَاهَدَةٍ أَوْ سَمَاعٍ يَقِينِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا رَاجِحًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ وَنَقَلَ بَعْضُهُمُ الِاتِّفَاقَ وَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي وِلَايَتِهِ الْقَضَاءَ وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا مَوْعِظَةُ الْإِمَامِ الْخُصُومَ لِيَعْتَمِدُوا الْحَقَّ وَالْعَمَلُ بِالنَّظَرِ الرَّاجِحِ وَبِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَمْرٌ إِجْمَاعِيٌّ للْحَاكِم والمفتي وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اعْلَم