فهرس الكتاب

شرح النووى على مسلم - بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ

باب الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ
[ سـ :3177 ... بـ :1628]
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَنِي مَا تَرَى مِنْ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لَا قَالَ قُلْتُ أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ قَالَ لَا الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يُنْفَعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ قَالَ رَثَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ح وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ وَحَرْمَلَةُ قَالَا أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ ح وَحَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ كُلُّهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ وَحَدَّثَنِي إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ قَالَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ يَعُودُنِي فَذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا

قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ( عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ ، وَأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ لِلْإِمَامِ كَاسْتِحْبَابِهَا لِآحَادِ النَّاسِ ، وَمَعْنَى ( أَشْفَيْتُ عَلَى الْمَوْتِ ) أَيْ : قَرَبْتُهُ وَأَشْرَفْتُ عَلَيْهِ ، يُقَالُ : أَشْفَى عَلَيْهِ وَأَشَافَ ، قَالَهُ الْهَرَوِيُّ وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : لَا يُقَالُ أَشْفَى إِلَّا فِي الشَّرِّ ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ : الْوَجَعُ اسْمٌ لِكُلِّ مَرَضٍ . وَفِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْمَرِيضِ مَا يَجِدُهُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ مِنْ مُدَاوَاةٍ أَوْ دُعَاءِ صَالِحٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوِ اسْتِفْتَاءٍ عَنْ حَالِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّسَخُّطِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ قَادِحٌ فِي أَجْرِ مَرَضِهِ .

قَوْلُهُ : ( وَأَنَا ذُو مَالٍ ) دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ جَمْعِ الْمَالِ ، لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ إِلَّا لِمَالٍ كَثِيرٍ .

قَوْلُهُ : ( وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي ) أَيْ : وَلَا يَرِثُنِي مِنَ الْوَلَدِ وَخَوَاصِّ الْوَرَثَةِ ، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ لَهُ عَصَبَةٌ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ : لَا يَرِثُنِي مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ .

قَوْلُهُ : ( أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ : لَا . قُلْتُ : أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ . قَالَ : لَا . الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ) بِالْمُثَلَّثَةِ وَفِي بَعْضٍ بِالْمُوَحَّدَةِ ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ ، قَالَ الْقَاضِي : يَجُوزُ نَصْبُ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ وَرَفْعُهُ ، أَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى الْإِغْرَاءِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ ، أَيْ : أَعْطِ الثُّلُثَ ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ ، أَيْ : يَكْفِيكَ الثُّلُثُ ، أَوْ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَحُذِفَ خَبَرُهُ ، أَوْ خَبَرٌ مَحْذُوفُ الْمُبْتَدَأِ .

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُرَاعَاةُ الْعَدْلِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْوَصِيَّةِ ، قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ : إِنْ كَانَتِ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ اسْتُحِبَّ أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ تَبَرُّعًا ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ اسْتُحِبَّ أَنْ يُنْقِصَ مِنَ الثُّلُثِ . وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ وَارِثٌ لَا تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ إِلَّا بِإِجَازَتِهِ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى نُفُوذِهَا بِإِجَازَتِهِ فِي جَمِيعِ الْمَالِ . وَأَمَّا مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ فَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .

وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ ) يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالصَّدَقَةِ : الْوَصِيَّةَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الصَّدَقَةَ الْمُنَجَّزَةَ ، وَهُمَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً سَوَاءٌ ، لَا يَنْفُذُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إِلَّا بِرِضَا الْوَارِثِ ، وَخَالَفَ أَهْلُ الظَّاهِرِ فَقَالُوا لِلْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالِهِ وَيَتَبَرَّعُ بِهِ كَالصَّحِيحِ ، وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ ظَاهِرُ حَدِيثِ : ( الثُّلُثُ كَثِيرٌ ) مَعَ حَدِيثِ : ( الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ فِي مَرَضِهِ فَأَعْتَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً ) .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ الْعَالَةُ : الْفُقَرَاءُ . وَيَتَكَفَّفُونَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ فِي أَكُفِّهِمْ . قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - رُوِّينَا قَوْلُهُ : ( إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ .

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ : حَثٌّ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ ، وَأَنَّ صِلَةَ الْقَرِيبِ الْأَقْرَبِ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَبْعَدِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى تَرْجِيحِ الْغَنِيِّ عَلَى الْفَقِيرِ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا ، حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِيِ امْرَأَتِكَ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ . وَفِيهِ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُثَابُ عَلَى عَمَلِهِ بِنِيَّتِهِ ، وَفِيهِ أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْعِيَالِ يُثَابُ عَلَيْهِ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى . وَفِيهِ أَنَّ الْمُبَاحَ إِذَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى صَارَ طَاعَةً ، وَيُثَابُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ نَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِيِ امْرَأَتِكَ لِأَنَّ زَوْجَةَ الْإِنْسَانِ هِيَ مِنْ أَخَصِّ حُظُوظِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَشَهَوَاتِهِ وَمَلَاذِّهِ الْمُبَاحَةِ ، وَإِذَا وَضَعَ اللُّقْمَةَ فِي فِيهَا فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالتَّلَذُّذِ بِالْمُبَاحِ ، فَهَذِهِ الْحَالَةُ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنِ الطَّاعَةِ وَأُمُورِ الْآخِرَةِ ، وَمَعَ هَذَا فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ بِهَذِهِ اللُّقْمَةِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى ، حَصَلَ لَهُ الْأَجْرُ بِذَلِكَ ، فَغَيْرُ هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْلَى بِحُصُولِ الْأَجْرِ إِذَا أَرَادَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَعَلَ شَيْئًا أَصْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، وَقَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى يُثَابُ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ كَالْأَكْلِ بِنِيَّةِ التَّقَوِّي عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالنَّوْمِ لِلِاسْتِرَاحَةِ لِيَقُومَ إِلَى الْعِبَادَةِ نَشِيطًا ، وَالِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ وَجَارِيَتِهِ لِيَكُفَّ نَفْسَهُ وَبَصَرَهُ وَنَحْوِهِمَا عَنِ الْحَرَامِ ، وَلِيَقْضِيَ حَقَّهَا ، لِيُحَصِّلَ وَلَدًا صَالِحًا ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ : ( قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ : إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً ) فَقَالَ الْقَاضِي : مَعْنَاهُ : أُخَلَّفُ بِمَكَّةَ بَعْدَ أَصْحَابِي ؟ فَقَالَهُ إِمَّا إِشْفَاقًا مِنْ مَوْتِهِ بِمَكَّةَ ; لِكَوْنِهِ هَاجَرَ مِنْهَا ، وَتَرَكَهَا لِلَّهِ تَعَالَى ، فَخَشِيَ أَنْ يَقْدَحَ ذَلِكَ فِي هِجْرَتِهِ ، أَوْ فِي ثَوَابِهِ عَلَيْهَا ، أَوْ خَشِيَ بِبَقَائِهِبِمَكَّةَ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَخَلُّفِهِ عَنْهُمْ بِسَبَبِ الْمَرَضِ ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الرُّجُوعَ فِيمَا تَرَكُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ( أُخَلَّفُ عَنْ هِجْرَتِي ) قَالَ الْقَاضِي : قِيلَ : كَانَ حُكْمُ الْهِجْرَةِ بَاقِيًا بَعْدَ الْفَتْحِ لِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَقِيلَ : إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ هَاجَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ ، فَأَمَّا مَنْ هَاجَرَ بَعْدَهُ فَلَا .

وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ ) طُولَ الْعُمْرِ ، لِلِازْدِيَادِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَالْحَثِّ عَلَى إِرَادَةِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَعْمَالِ . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يُنْفَعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ( يَنْتَفِعَ ) بِزِيَادَةِ التَّاءِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ ، فَإِنَّ سَعْدًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَاشَ حَتَّى فَتَحَ الْعِرَاقَ وَغَيْرَهُ ، وَانْتَفَعَ بِهِ أَقْوَامٌ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ، وَتَضَرَّرَ بِهِ الْكُفَّارُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فَإِنَّهُمْ قُتِلُوا وَصَارُوا إِلَى جَهَنَّمَ ، وَسُبِيَتْ نِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ ، وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ وَدِيَارُهُمْ ، وَوَلِيَ الْعِرَاقَ فَاهْتَدَى عَلَى يَدَيْهِ خَلَائِقُ ، وَتَضَرَّرَ بِهِ خَلَائِقُ بِإِقَامَتِهِ الْحَقَّ فِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَنَحْوِهِمْ . قَالَ الْقَاضِي : قِيلَ : لَا يُحْبِطُ أَجْرَ هِجْرَةِ الْمُهَاجِرِ بَقَاؤُهُ بِمَكَّةَ وَمَوْتُهُ بِهَا إِذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ ، وَإِنَّمَا كَانَ يُحْبِطُهُ مَا كَانَ بِالِاخْتِيَارِ ، قَالَ : وَقَالَ قَوْمٌ : مَوْتُ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ مُحْبِطٌ هِجْرَتَهُ كَيْفَمَا كَانَ ، قَالَ : وَقِيلَ : لَمْ تُفْرَضِ الْهِجْرَةُ إِلَّا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ خَاصَّةً .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ قَالَ الْقَاضِي : اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ بَقَاءَ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ كَيْفَ كَانَ قَادِحٌ فِي هِجْرَتِهِ ، قَالَ : وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عِنْدِي ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ دُعَاءً عَامًّا ، وَمَعْنَى أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ : أَيْ أَتْمِمْهَا وَلَا تُبْطِلْهَا ، وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ بِتَرْكِ هِجْرَتِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ عَنْ مُسْتَقِيمِ حَالِهِمُ الْمَرْضِيَّةِ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ ) الْبَائِسُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَثَرُ الْبُؤْسِ ، وَهُوَ الْفَقْرُ وَالْقِلَّةُ .

قَوْلُهُ : ( يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ ) قَالَ الْعُلَمَاءُ : هَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي وَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلِ انْتَهَى كَلَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : ( لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ ) فَقَالَ الرَّاوِي تَفْسِيرًا لِمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ يَرْثِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَوَجَّعُ لَهُ وَيَرِقُّ عَلَيْهِ ; لِكَوْنِهِ مَاتَ بِمَكَّةَ ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَائِلِ هَذَا الْكَلَامِ مَنْ هُوَ ؟ فَقِيلَ : هُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ، قَالَ الْقَاضِي : وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ ، قَالَ : وَاخْتَلَفُوا فِي قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ فَقِيلَ : لَمْ يُهَاجِرْ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى مَاتَ بِهَا . قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ وَغَيْرُهُ : وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ هَاجَرَ وَشَهِدَ بَدْرًا ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مَكَّةَ وَمَاتَ بِهَا . وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : إِنَّهُ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَغَيْرَهَا ، وَتُوُفِّيَ بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، سَنَةَ عَشْرٍ ، وَقِيلَ : تُوُفِّيَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ فِي الْهُدْنَةِ ، خَرَجَ مُجْتَازًا مِنَ الْمَدِينَةِ ، فَعَلَى هَذَا وَعَلَى قَوْلِ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ سَبَبُ بُؤْسِهِ سُقُوطُ هِجْرَتِهِ ; لِرُجُوعِهِ مُخْتَارًا ، وَمَوْتِهِ بِهَا ، وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ سَبَبُ بُؤْسِهِ مَوْتُهُ بِمَكَّةَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِهِ لِمَا فَاتَهُ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ الْكَامِلِ بِالْمَوْتِ فِي دَارِ هِجْرَتِهِ وَالْغُرْبَةِ عَنْ وَطَنِهِ إِلَى هِجْرَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى ، قَالَ الْقَاضِي : وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَجُلًا وَقَالَ لَهُ : إِنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ فَلَا تَدْفِنْهُ بِهَا وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : ( أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا ) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ ( قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ : خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْتُ مِنْهَا كَمَا مَاتَ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ ) وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ هَذَا هُوَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ .

وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ هَذَا : جَوَازُ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .

قَوْلُهُ : ( حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ ) هُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ فَاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ ، مَنْسُوبٌ إِلَى الْحَفَرِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْفَاءِ ، وَهِيَ مَحَلَّةٌ بِالْكُوفَةِ كَانَ أَبُو دَاوُدَ يَسْكُنُهَا ، هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ ، وَأَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا . وَاسْمُ أَبِي دَاوُدَ هَذَا ( عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ ) الثِّقَةُ الزَّاهِدُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ : مَا أَعْلَمُ أَنِّي رَأَيْتُ بِالْكُوفَةِ أَعْبَدَ مِنْ أَبِي دَاوُدَ الْحَفَرِيِّ . وَقَالَ وَكِيعٌ : إِنْ كَانَ يُدْفَعُ بِأَحَدٍ فِي زَمَانِنَا - يَعْنِي الْبَلَاءَ وَالنَّوَازِلَ - فَبِأَبِي دَاوُدَ ، تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثَةٍ وَقِيلَ : سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ .




[ سـ :3180 ... بـ :1628]
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ كُلُّهُمْ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى سَعْدٍ يَعُودُهُ بِمَكَّةَ فَبَكَى قَالَ مَا يُبْكِيكَ فَقَالَ قَدْ خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْتُ مِنْهَا كَمَا مَاتَ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا ثَلَاثَ مِرَارٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا وَإِنَّمَا يَرِثُنِي ابْنَتِي أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ لَا قَالَ فَبِالثُّلُثَيْنِ قَالَ لَا قَالَ فَالنِّصْفُ قَالَ لَا قَالَ فَالثُّلُثُ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّ صَدَقَتَكَ مِنْ مَالِكَ صَدَقَةٌ وَإِنَّ نَفَقَتَكَ عَلَى عِيَالِكَ صَدَقَةٌ وَإِنَّ مَا تَأْكُلُ امْرَأَتُكَ مِنْ مَالِكَ صَدَقَةٌ وَإِنَّكَ أَنْ تَدَعَ أَهْلَكَ بِخَيْرٍ أَوْ قَالَ بِعَيْشٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَقَالَ بِيَدِهِ وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ قَالُوا مَرِضَ سَعْدٌ بِمَكَّةَ فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ بِنَحْوِ حَدِيثِ الثَّقَفِيِّ وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنِي ثَلَاثَةٌ مِنْ وَلَدِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ كُلُّهُمْ يُحَدِّثُنِيهِ بِمِثْلِ حَدِيثِ صَاحِبِهِ فَقَالَ مَرِضَ سَعْدٌ بِمَكَّةَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ بِمِثْلِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَنْ حُمَيْدٍ الْحِمْيَرِيِّ

قَوْلُهُ : ( عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ كُلُّهُمْ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى سَعْدٍ يَعُودُهُ بِمَكَّةَ ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : ( عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ قَالُوا : مَرِضَ سَعْدٌ بِمَكَّةَ فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ ) . فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُرْسَلَةٌ ، وَالْأُولَى مُتَّصِلَةٌ ; لِأَنَّ أَوْلَادَ سَعْدٍ تَابِعِيُّونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ ; لِيُبَيِّنَ اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِي ذَلِكَ ، قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا وَشَبَهُهُ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي وَعَدَ مُسْلِمٌ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ أَنَّهُ يَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا ، فَظَنَّ ظَانُّونَ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا مُفْرَدَةً ، وَأَنَّهُ تُوُفِّيَ قَبْلَ ذِكْرِهَا ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي تَضَاعِيفِ كِتَابِهِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الشَّرْحِ ، وَلَا يَقْدَحُ هَذَا الْخِلَافُ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَا فِي صِحَّةِ أَصْلِ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ ثَابِتٌ مِنْ طُرُقٍ مِنْ غَيْرِ جِهَةٍ عَنْ أَوْلَادِ سَعْدٍ ، وَثَبَتَ وَصْلُهُ عَنْهُمْ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الشَّرْحِ أَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا رُوِيَ مُتَّصِلًا وَمُرْسَلًا فَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ مَحْكُومٌ بِاتِّصَالِهِ ; لِأَنَّهَا زِيَادَةُ ثِقَةٍ ، وَقَدْ عَرَّضَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِتَضْعِيفِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، وَقَدْ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنِ اعْتِرَاضِهِ الْآنَ ، وَفِي مَوَاضِعَ نَحْوَ هَذَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .




[ سـ :3181 ... بـ :1629]
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ أَخْبَرَنَا عِيسَى يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ ح وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَا حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ح وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنْ الثُّلُثِ إِلَى الرُّبُعِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ وَفِي حَدِيثِ وَكِيعٍ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ

قَوْلُهُ : ( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى الرُّبْعِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ) قَوْلُهُ : ( غَضُّوا ) بِالْغَيْنِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ أَيْ : نَقَصُوا . وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ النَّقْصِ عَنِ الثُّلُثِ ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مُطْلَقًا ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ اسْتُحِبَّ الْإِيصَاءُ بِالثُّلُثِ ، وَإِلَّا فَيُسْتَحَبُّ النَّقْصُ مِنْهُ ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَحْوُهُ ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَإِسْحَاقَ بِالرُّبْعِ ، وَقَالَ آخَرُونَ بِالسُّدُسِ ، وَآخَرُونَ بِدُونِهِ ، وَقَالَ آخَرُونَ بِالْعُشْرِ ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : كَانُوا يَكْرَهُونَ الْوَصِيَّةَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَهُ وَرَثَةٌ وَمَالُهُ قَلِيلٌ تَرْكُ الْوَصِيَّةِ .

قَوْلُهُ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ : ( وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ) هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا وَهِيَ مِنْ رِوَايَةِ الْجُلُودِيِّ ، فَفِي جَمِيعِهَا أَبُو كُرَيْبٍ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ وَقَعَ فِي نُسْخَةِ ابْنِ مَاهَانَ ( أَبُو كُرَيْبٍ ) كَمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَفِي نُسْخَةِ الْجُلُودِيِّ ( أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ) بَدَلَ أَبِي كُرَيْبٍ ، والصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .