فهرس الكتاب

شرح النووى على مسلم - بَابُ وُجُوبِ طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ ، وَتَحْرِيمِهَا فِي الْمَعْصِيَةِ

باب وُجُوبِ طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَتَحْرِيمِهَا فِي الْمَعْصِيَةِ
[ سـ :3525 ... بـ :1834]
حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَا حَدَّثَنَا حَجَّاحُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ نَزَلَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ السَّهْمِيِّ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ أَخْبَرَنِيهِ يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ

أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِهَا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ ، وَعَلَى تَحْرِيمِهَا فِي الْمَعْصِيَةِ . نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا الْقَاضِي عِيَاضٌ وَآخَرُونَ .

قَوْلُهُ : نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ ) قَالَ الْعُلَمَاءُ : الْمُرَادُ بِأُولِي الْأَمْرِ مَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ طَاعَتَهُ مِنَ الْوُلَاةِ وَالْأُمَرَاءِ ، هَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ ، وَقِيلَ : هُمُ الْعُلَمَاءُ ، وَقِيلَ : الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ .

وَأَمَّا مَنْ قَالَ : الصَّحَابَةُ خَاصَّةً فَقَطْ فَقَدْ أَخْطَأَ .




[ سـ :3526 ... بـ :1835]
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ يُطِعْ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَلَمْ يَذْكُرْ وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي

قَوْلُهُ : ( مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) .

( وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي ) وَقَالَ فِي الْمَعْصِيَةِ مِثْلَهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِطَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَاعَةِ الْأَمِيرِ ، فَتَلَازَمَتِ الطَّاعَةُ .




[ سـ :3528 ... بـ :1836]
وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ كِلَاهُمَا عَنْ يَعْقُوبَ قَالَ سَعِيدٌ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ : مَعْنَاهُ تَجِبُ طَاعَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ فِيمَا يَشُقُّ وَتَكْرَهُهُ النُّفُوسُ وَغَيْرِهِ ، مِمَّا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ ، فَإِنْ كَانَتْ لِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الْبَاقِيَةِ ، فَتُحْمَلُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُطْلِقَةُ لِوُجُوبِ طَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى مُوَافَقَةِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُ لَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ فِي الْمَعْصِيَةِ .

وَ ( الْأَثَرَةُ ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالثَّاءِ ، وَيُقَالُ : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الثَّاءِ ، وَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الثَّاءِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ حَكَاهُنَّ فِي الْمَشَارِقِ وَغَيْرِهِ ، وَهِيَ الِاسْتِئْثَارُ وَالِاخْتِصَاصُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ، أَيْ : اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اخْتَصَّ الْأُمَرَاءُ بِالدُّنْيَا ، وَلَمْ يُوصِلُوكُمْ حَقَّكُمْ مِمَّا عِنْدَهُمْ .

وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي الْحَثِّ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ ، وَسَبَبُهَا اجْتِمَاعُ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّ الْخِلَافَ سَبَبٌ لِفَسَادِ أَحْوَالِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ .




[ سـ :3529 ... بـ :1837]
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالُوا حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ إِنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ح وَحَدَّثَنَا إِسْحَقُ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ جَمِيعًا عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَقَالَا فِي الْحَدِيثِ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ وَحَدَّثَنَاه عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ كَمَا قَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ عَبْدًا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ

قَوْلُهُ : ( إِنَّ خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ ) يَعْنِي : مَقْطُوعَهَا ، وَالْمُرَادُ : أَخَسُّ الْعَبِيدِ ، أَيْ : أَسْمَعُ وَأُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ كَانَ دَنِيءَ النَّسَبِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ مَقْطُوعَ الْأَطْرَافِ فَطَاعَتُهُ وَاجِبَةٌ ، وَتُتَصَوَّرُ إِمَارَةُ الْعَبْدِ إِذَا وَلَّاهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ ، أَوْ إِذَا تَغَلَّبَ عَلَى الْبِلَادِ بِشَوْكَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ ، وَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ عَقْدِ الْوِلَايَةِ لَهُ مَعَ الِاخْتِيَارِ ، بَلْ شَرْطُهَا الْحُرِّيَّةُ .




[ سـ :3533 ... بـ :1840]
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى قَالَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا فَأَوْقَدَ نَارًا وَقَالَ ادْخُلُوهَا فَأَرَادَ نَاسٌ أَنْ يَدْخُلُوهَا وَقَالَ الْآخَرُونَ إِنَّا قَدْ فَرَرْنَا مِنْهَا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِلَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا لَوْ دَخَلْتُمُوهَا لَمْ تَزَالُوا فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَالَ لِلْآخَرِينَ قَوْلًا حَسَنًا وَقَالَ لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ

قَوْلُهُ : ( إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا فَأَوْقَدَ نَارًا وَقَالَ : ادْخُلُوهَا - إِلَى قَوْلِهِ - لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ ) هَذَا مُوَافِقٌ لِلْأَحَادِيثِ الْبَاقِيَةِ أَنَّهُ لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ ، إِنَّمَا هِيَ فِي الْمَعْرُوفِ ، وَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ هَذَا الْأَمِيرُ قِيلَ : أَرَادَ امْتِحَانَهُمْ ، وَقِيلَ : كَانَ مَازِحًا ، قِيلَ : إِنَّ هَذَا الرَّجُلَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا : إِنَّهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُهُ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ دَخَلْتُمُوهَا لَمْ تَزَالُوا فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ هَذَا مِمَّا عَلِمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ ، وَهَذَا التَّقْيِيدُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ مُبَيِّنٌ لِلرِّوَايَةِ الْمُطْلَقَةِ بِأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا لَوْ دَخَلُوهَا .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ ) هَكَذَا هُوَ لِمُعْظَمِ الرُّوَاةِ وَفِي مُعْظَمِ النُّسَخِ ( بَوَاحًا ) بِالْوَاوِ ، وَفِي بَعْضِهَا ( بَرَاحًا ) وَالْبَاءُ مَفْتُوحَةٌ فِيهِمَا ، وَمَعْنَاهُمَا : كُفْرًا ظَاهِرًا ، وَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعَاصِي ، وَمَعْنَى عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ ، أَيْ : تَعْلَمُونَهُ مِنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى .

وَمَعْنَى الْحَدِيثِ : لَا تُنَازِعُوا وُلَاةَ الْأُمُورَ فِي وِلَايَتِهِمْ ، وَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوهُ عَلَيْهِمْ ، وَقُولُوا بِالْحَقِّ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ ، وَأَمَّا الْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ وَقِتَالُهُمْ فَحَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانُوا فَسَقَةً ظَالِمِينَ .

وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِمَعْنَى مَا ذَكَرْتُهُ ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ السُّلْطَانُ بِالْفِسْقِ ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَنْعَزِلُ ، وَحُكِيَ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ أَيْضًا ، فَغَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ ، مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ .

قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَسَبَبُ عَدَمِ انْعِزَالِهِ وَتَحْرِيمِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْفِتَنِ ، وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ ، وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ ، فَتَكُونُ الْمَفْسَدَةُ فِي عَزْلِهِ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي بَقَائِهِ .

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَنْعَقِدُ لِكَافِرٍ ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ انْعَزَلَ ، قَالَ : وَكَذَا لَوْ تَرَكَ إِقَامَةَ الصَّلَوَاتِ وَالدُّعَاءَ إِلَيْهَا ، قَالَ : وَكَذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمُ الْبِدْعَةُ ، قَالَ : وَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ : تَنْعَقِدُ لَهُ ، وَتُسْتَدَامُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ ، قَالَ الْقَاضِي : فَلَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ كُفْرٌ وَتَغْيِيرٌ لِلشَّرْعِ أَوْ بِدْعَةٌ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْوِلَايَةِ ، وَسَقَطَتْ طَاعَتُهُ ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامُ عَلَيْهِ ، وَخَلْعُهُ وَنَصْبُ إِمَامٍ عَادِلٍ إِنْ أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ إِلَّا لِطَائِفَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِيَامُ بِخَلْعِ الْكَافِرِ ، وَلَا يَجِبُ فِي الْمُبْتَدِعِ إِلَّا إِذَا ظَنُّوا الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ تَحَقَّقُوا الْعَجْزَ لَمْ يَجِبِ الْقِيَامُ ، وَلْيُهَاجِرِ الْمُسْلِمُ عَنْ أَرْضِهِ إِلَى غَيْرِهَا ، وَيَفِرَّ بِدِينِهِ ، قَالَ : وَلَا تَنْعَقِدُ لِفَاسِقٍ ابْتِدَاءً ، فَلَوْ طَرَأَ عَلَى الْخَلِيفَةِ فِسْقٌ قَالَ بَعْضُهُمْ : يَجِبُ خَلْعُهُ إِلَّا أَنْ تَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ وَحَرْبٌ ، وَقَالَ جَمَاهِيرُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ : لَا يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ وَالظُّلْمِ وَتَعْطِيلِ الْحُقُوقِ ، وَلَا يُخْلَعُ وَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، بَلْ يَجِبُ وَعْظُهُ وَتَخْوِيفُهُ ; لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ ، قَالَ الْقَاضِي : وَقَدِ ادَّعَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ فِي هَذَا الْإِجْمَاعَ ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ هَذَا بِقِيَامِ الْحَسَنِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ ، وَبِقِيَامِ جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَالصَّدْرِ الْأَوَّلِ عَلَى الْحَجَّاجِ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ ، وَتَأَوَّلَ هَذَا الْقَائِلُ قَوْلَهُ : أَلَّا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ فِي أَئِمَّةِ الْعَدْلِ ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ قِيَامَهُمْ عَلَى الْحَجَّاجِ لَيْسَ بِمُجَرَّدِ الْفِسْقِ ، بَلْ لِمَا غَيَّرَ مِنَ الشَّرْعِ وَظَاهَرَ مِنَ الْكُفْرِ ، قَالَ الْقَاضِي : وَقِيلَ : إِنَّ هَذَا الْخِلَافَ كَانَ أَوَّلًا ثُمَّ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَنْعِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ : ( بَايَعْنَا عَلَى السَّمْعِ ) الْمُرَادُ بِالْمُبَايَعَةِ : الْمُعَاهَدَةُ ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْبَيْعِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ كَانَ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى صَاحِبِهِ ، وَكَذَا هَذِهِ الْبَيْعَةُ تَكُونُ بِأَخْذِ الْكَفِّ ، وَقِيلَ : سُمِّيَتْ مُبَايَعَةً لِمَا فِيهَا مِنَ الْمُعَاوَضَةِ لِمَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَظِيمَ الْجَزَاءِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ الْآيَةَ .

قَوْلُهُ : ( وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ) مَعْنَاهُ : نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ ، الْكِبَارُ وَالصِّغَارُ ، لَا نُدَاهِنُ فِيهِ أَحَدًا ، وَلَا نَخَافُهُ هُوَ ، وَلَا نَلْتَفِتُ إِلَى الْأَئِمَّةِ ، فَفِيهِ : الْقِيَامُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ .

وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَإِنْ خَافَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ ، سَقَطَ الْإِنْكَارُ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ ، وَوَجَبَتْ كَرَاهَتُهُ بِقَلْبِهِ ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ ، وَحَكَى الْقَاضِي هُنَا عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْإِنْكَارِ مُطْلَقًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَغَيْرِهَا ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَبَسَطْتُهُ بَسْطًا شَافِيًا .