فهرس الكتاب

شرح النووى على مسلم - بَابُ لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ بَلْ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى

باب لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ بَلْ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى
[ سـ :5165 ... بـ :2816]
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ قَالَ رَجُلٌ وَلَا إِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلَا إِيَّايَ إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ وَلَكِنْ سَدِّدُوا وَحَدَّثَنِيهِ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَلَمْ يَذْكُرْ وَلَكِنْ سَدِّدُوا

( بَابُ لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ بَلْ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى )

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَنْ يُنْجِي أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ ، قَالَ رَجُلٌ : وَلَا إِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : وَلَا إِيَّايَ إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ ، وَلَكِنْ سَدِّدُوا وَفِي رِوَايَةٍ : ( بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٌ ) وَفِي رِوَايَةٍ : ( بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ ) وَفِي رِوَايَةٍ : ( إِلَّا أَنْ يَتَدَارَكَنِي اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ ) .

اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ : أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ وَلَا إِيجَابٌ وَلَا تَحْرِيمٌ وَلَا غَيْرُهُمَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّكْلِيفِ ، وَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ كُلُّهَا وَلَا غَيْرُهَا إِلَّا بِالشَّرْعِ ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَيْضًا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ تَعَالَى اللَّهُ ، بَلِ الْعَالَمُ مُلْكُهُ ، وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ فِي سُلْطَانِهِ ، يَفْعَلُ فِيهِمَا مَا يَشَاءُ ، فَلَوْ عَذَّبَ الْمُطِيعِينَ وَالصَّالِحِينَ أَجْمَعِينَ ، وَأَدْخَلَهُمُ النَّارَ كَانَ عَدْلًا مِنْهُ وَإِذَا أَكْرَمَهُمْ وَنَعَّمَهُمْ وَأَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ فَهُوَ فَضْلٌ مِنْهُ ، وَلَوْ نَعَّمَ الْكَافِرِينَ وَأَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ وَخَبَرُهُ صِدْقٌ ، أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ هَذَا ، بَلْ يَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ ، وَيُعَذِّبُ الْمُنَافِقِينَ وَيُخَلِّدُهُمْ فِي النَّارِ عَدْلًا مِنْهُ .

وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَيُثْبِتُونَ الْأَحْكَامَ بِالْعَقْلِ ، وَيُوجِبُونَ ثَوَابَ الْأَعْمَالِ ، وَيُوجِبُونَ الْأَصْلَحَ ، وَيَمْنَعُونَ خِلَافَ هَذَا فِي خَبْطٍ طَوِيلٍ لَهُمْ ، تَعَالَى اللَّهُ عَنِ اخْتِرَاعَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ الْمُنَابِذَةِ لِنُصُوصِ الشَّرْعِ . وَفِي ظَاهِرِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلَالَةٌ لِأَهْلِ الْحَقِّ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ الثَّوَابَ وَالْجَنَّةَ بِطَاعَتِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ يُدْخَلُ بِهَا الْجَنَّةُ ، فَلَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ ، بَلْ مَعْنَى الْآيَاتِ : أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِسَبَبِ الْأَعْمَالِ ، ثُمَّ التَّوْفِيقِ لِلْأَعْمَالِ وَالْهِدَايَةِ لِلْإِخْلَاصِ فِيهَا ، وَقَبُولِهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ ، فَيَصِحُّ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ . وَهُوَ مُرَادُ الْأَحَادِيثِ ، وَيَصِحُّ أَنَّهُ دَخَلَ بِالْأَعْمَالِ أَيْ بِسَبَبِهَا ، وَهِيَ مِنَ الرَّحْمَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَمَعْنَى ( يَتَغَمَّدُنِي بِرَحْمَتِهِ ) : يُلْبِسُنِيهَا وَيُغَمِّدُنِي بِهَا ، وَمِنْهُ أَغْمَدْتُ السَّيْفَ وَغَمَدْتُهُ إِذَا جَعَلْتُهُ فِي غِمْدِهِ وَسَتَرْتُهُ بِهِ . وَمَعْنَى ( سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ) : اطْلُبُوا السَّدَادَ وَاعْمَلُوا بِهِ ، وَإِنَّ عَجَزْتُمْ عَنْهُ فَقَارِبُوهُ ، أَيْ : اقْرَبُوا مِنْهُ ، وَالسَّدَادُ : الصَّوَابُ ، وَهُوَ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ ، فَلَا تَغْلُوا وَلَا تُقَصِّرُوا .