فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد

باب مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ، وَفَضْلِ الْمَسَاجِدِ
( باب) بيان فضل ( من جلس في المسجد) حال كونه ( ينتظر الصلاة) ليصلّيها مع الجماعة ( و) بيان ( فضل المساجد) .


[ قــ :639 ... غــ : 659 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ.
لاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ، لاَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ الصَّلاَةُ».

وبالسند قال ( حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بن قعنب القعنبي الحارثي البصري المدني الأصل ( عن مالك) هو ابن أنس، إمام دار الهجرة ( عن أبي الزناد) بالزاي المكسورة وبالنون، عبد الله بن ذكوان القرشي المدني ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة) رضي الله عنه ( أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) : ( إن الملائكة تصلي على أحدكم) أي تستغفر له ( ما دام في مصلاه) ينتظر الصلاة وهل المراد البقعة التي صلّى فيها من المسجد حتى لو انتقل إلى بقعة أخرى في المسجد لم يكن له هذا الثواب المرتب عليه، أو المراد بمصلاه جميع المسجد الذي صلّى فيه؟ يحتمل كلاًّ منهما، والثاني أظهر بدليل رواية: ما دام في المسجد وبه بوّب هنا، ويؤيد الأوّل ما في رواية مسلم وأبي داود: ما دام في مجلسه الذي صلّى فيه، ( ما لم يحدث) بإخراج شيء من أحد السبيلين، أو فاحش من لسانه أو يده، حال كونهم، أي الملائكة المصلين على المصلي، قائلين: ( اللَّهمّ اغفر له، اللهمّ ارحمه) وعبر: بتصلي ليناسب الجزاء العمل ( لا) بغير واو في رواية: ولا ( يزال أحدكم في) ثواب ( صلاة ما دامت الصلاة تحبسه) أي مدّة دوام حبس الصلاة له، وللكشميهني: ما كانت الصلاة تحبسه ( لا يمنعه أن ينقلب) أي لا يمنعه الانقلاب، وهو الرواح ( إلى أهله إلاّ الصلاة) أي لا غيرها.
ومقتضاه أنه إذا صرف نيته عن ذلك صارف آخر انقطع عنه الثواب المذكور، وكذا إذا شارك نيّة الانتظار أمر آخر.




[ قــ :640 ... غــ : 660 ]
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.
[الحديث 660 - أطرافه في: 143، 6479، 6806] .

وبه قال ( حدّثنا محمد بن بشار) بفتح الموحدة وتشديد المعجمة ولابن عساكر ابن بشار بندار وهو لقب محمد ( قال: حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان ( عن عبيد الله) بالتصغير، العمري ( قال:

حدّثني)
بالإفراد ( خبيب بن عبد الرحمن) بضم الخاء المعجمة وموحدتين، أولاهما مفتوحة بينهما مثناة تحتية، الأنصاري المدني ( عن حفص بن عاصم) هو ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهو جدّ عبيد الله المذكور، لأبيه، كما أنّ خبيبًا خاله ( عن أبي هريرة) رضي الله عنه ( عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال:) :
( سبعة) من الناس، ( يظلهم الله في ظله) أي ظل عرشه ( يوم لا ظل) في القيامة ودنو الشمس من الخلق ( إلاّ ظله) أحدهم.
( الأمام) الأعظم ( العادل) التابع لأوامر الله، فيضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط، وقدّم على تاليه لعموم نفعه، ويلتحق به من ولي شيئًا من أمور المسلمين فعدل فيه، لحديث: إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا.

( و) الثاني من السبعة ( شاب نشأ في عبادة ربه) لأن عبادته أشق لغلبة شهوته وكثرة الدواعي لطاعة الهوى، فلازمة العبادة حينئذٍ أشدّ وأدلّ على غلبة التقوى، وفي الحديث يعجب ربك من شاب ليست له صبوة.

( و) الثالث: ( رجل قلبه معلق) بفتح اللام كالقنديل ( في المساجد) من شدة حبه لها، وإن كان جسده خارجًا عنها، وكُنِّيَ به عن انتظار أوقات الصلوات، فلا يصلّي صلاة في المسجد ويخرج منه إلا وهو ينتظر أخرى ليصلّيها فيه فهو ملازم للمسجد بقلبه وإن عرض لجسده عارض، وبهذا تحصل المطابقة بين الحديث والترجمة.

ولأبي ذر عن المستملي والحموي: متعلق بزيادة مثناة فوقية بعد الميم مع كسر اللام.

( و) الرابع: ( رجلان تحابا في الله) أي لأجله لا لغرض دنيوي ( اجتمعا عليه) سواء كان اجتماعهما بأجسادهما حقيقة أم لا، وللحموي والمستملي: اجتمعا على ذلك أي: على الحب في الله.

كالضمير في قوله ( وتفرّقا عليه) أي استمرا على محبتهما لأجله تعالى حتى فرّق بينهما الموت، ولم يقطعاها لعارض دنيوي، وتحابا بتشديد الموحدة.
وأصله، تحاببا.
فلما اجتمع المثلان أسكن الأوّل منهما وأدغم في الثاني، وليس التفاعل هنا كهو، أي: أظهر الجهل من نفسه، والمحبة من نفسه.
بل المراد التلبس بالحب كقوله: باعدته فتباعد.
فهو عبارة عن معنى حصل عن فعل متعدّ.

وقع في رواية حماد بن زيد: ورجلان قال كل منهما للآخر: إني أحبك في الله فصدرا على ذلك.
( و) الخامس: ( رجل طلبته ذات) وفي رواية كريمة طلبته امرأة ذات ( منصب) بكسر الصاد المهملة، أصل أو شرف أو مال ( وجمال) حسن للزنا ( فقال) بلسانه زجرًا لها عن الفاحشة، أو بقلبه زجرًا لنفسه: ( اني أخاف الله) .
زاد في رواية كريمة ربّ العالمين والصبر على الموصوفة، بما ذكر من الأصل والشرف والمال والجمال المرغوب فيها عادة، لعزّة ما جمع فيها من أكمل المراتب وأكمل
المناصب، لا سيما وقد أغنت عن مشاق التوصّل إليها بمراودة ونحوها، وهي رتبة صدّيقية، ووراثة نبوية.

( و) السادس: ( رجل تصدّق) تطوعًا حال كونه قد ( أخفى) الصدقة، ولأحمد: تصدق فأخفى.
وللمؤلّف، في الزكاة، كمالك: فأخفاها.
فحمل على أن راوي الأوّل حذف العاطف.

وللأصيلي: تصدّق.
إخفاء بكسر الهمزة والمدّ أي صدقة إخفاء.
فنصب بمصدر محذوف، أو حالاً من الفاعل، أي مخفيًّا.
قال البدر على تأويل المصدر باسم الفاعل جعل كأنه نفس الإخفاء مبالغة ( حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) جملة في موضع نصب بتعلم ذكرت للمبالغة في إخفاء الصدقة والإسرار بها.
وضرب المثل بهما لقربهما وملازمتهما.
أي لو قدّر أن الشمال رجل متيقظ لما علم صدقة اليمين للمبالغة في الإخفاء فهو من مجاز التشبيه أو من مجاز الحذف، أي حتى لا يعلم ملك شماله أو حتى لا يعلم من على شماله من الناس، أو هو من باب تسمية الكل بالجزء، فالمراد بشماله نفسه، أي أن نفسه لا تعلم ما تنفق يمينه.

ووقع في مسلم: حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، ولا يخفى أن الصواب ما في البخاري، لأن السُّنَّة المعهودة إعطاء الصدقة باليمين لا بالشمال، والوهم فيه من أحد رواته، وفي تعيينه خلاف.
وهذا يسميه أهل الصناعة: المقلوب.
ويكون في المتن والإسناد.

( و) السابع: ( رجل ذكر الله) بلسانه أو بقلبه حال كونه ( خاليًا) من الخلق لأنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء، أو خاليًا من الالتفات إلى غير المذكور تعالى، وإن كان في ملأ ويدل له رواية البيهقي بلفظ: ذكر الله بين يديه ( ففاضت عيناه) من الدمع لرقة قلبه وشدة خوفه من جلاله أو مزيد شوقه إلى جماله.
والفيض انصباب عن امتلاء، فوضع موضع الإمتلاء للمبالغة، أو جعلت العين من فرط البكاء كأنها تفيض بنفسها.

وذكر الرجال في قوله: ورجل لا مفهوم له، فتدخل النساء؟ نعم.
لا يدخلن في الإمامة العظمى، ولا في خصلة ملازمة المسجد، لأن صلاتهنّ في بيتهنّ أفضل، لكن يمكن في الإمامة حيث يكن ذوات عيال فيعدلن، ولا يقال لا يدخلن في خصلة من دعته امرأة لأنًّا نقول: إنه يتصور في امرأة دعاها ملك جميل مثلاً للزنا، فامتنعت خوفًا من الله مع حاجتها.
وذكر المتحابين لا يصير العدد ثمانية لأن المراد عدّ الخصال لا عدّ المتصفين بها.

ومفهوم العدد بالسبعة لا مفهوم له، بدليل ورود غيرها.
ففي مسلم من حديث أي اليسر مرفوعًا: من أنظر معسرًا أو وضع له أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

وزاد ابن حبّان، وصححه من حديث ابن عمر المغازي، وأحمد والحاكم من حديث سهل بن حنيف عون المجاهد، وكذا زاد أيضًا من حديثه: إرفاد الغارم، وعون المكاتب.

والبغوي في شرح السُّنَّة: التاجر الصدوق.


والطبراني من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف: تحسين الخلق.

ومن تتبع دواوين الحديث وجد زيادة كثيرة على ما ذكرته.

وللحافظ ابن حجر مؤلف سماه: ( معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال) .
ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في الزكاة والرقاق.

ورواته الستة ما بين بصري ومدني، وفيه التحديث والعنعنة والقول، ورواية الرجل عن خاله وجده، وأخرجه في الزكاة وفي الرقاق، ومسلم في الزكاة والنسائي في القضاء والرقاق.




[ قــ :641 ... غــ : 661 ]
- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: "سُئِلَ أَنَسٌ: هَلِ اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاتَمًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَخَّرَ لَيْلَةً صَلاَةَ الْعِشَاءِ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ بَعْدَ مَا صَلَّى فَقَالَ: صَلَّى النَّاسُ وَرَقَدُوا وَلَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مُنْذُ انْتَظَرْتُمُوهَا.
قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ".

وبه قال ( حدّثنا قتيبة) بن سعيد بن جميل بن طريف الثقفي ( قال: حدّثنا إسماعيل بن جعفر) هو ابن كثير الأنصاري المدني ( عن حميد) الطويل ( قال: سئل أنس) وللأصيلي: أنس بن مالك ( هل اتخذ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خاتمًا؟ فقال: نعم) اتخذه ( أخَّر ليلة صلاة العشاء إلى شطر الليل) نصفه ( ثم أقبل علينا بوجهه) الكريم ( بعدما صلّى فقال) :
( صلى الناس) أي غيركم ممن صلّى في داره أو مسجد قبيلته ( ورقدوا ولم تزالوا في) ثواب ( صلاة منذ انتظرتموها) أي الصلاة.

( قال) أنس: ( فكأني) بالفاء وفي رواية وكأني ( أنظر إلى وبيص خاتمه) بكسر الموحدة آخره صاد مهملة أي بريقه ولمعانه.

وسبق الحديث في باب وقت العشاء إلى نصف الليل، وهو مطابق للجزء الأوّل من الترجمة في قوله: ولم تزالوا في صلاة منذ انتظرتموها.
وبقية مباحثه تأتي في محالها إن شاء الله تعالى.