فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب فضل السجود

باب فَضْلِ السُّجُودِ

[ قــ :785 ... غــ : 806 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا "أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لاَ.
قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الْقَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ.
فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَدْعُوهُمْ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَىْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلاَ يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلاَّ الرُّسُلُ، وَكَلاَمُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ.
وَفِي جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ: فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَيُخْرِجُونَهُمْ، وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ، فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلاَّ أَثَرَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا،

فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ.
ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ -وَهْوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولاً الْجَنَّةَ- مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ، قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا.
فَيَقُولُ: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَعِزَّتِكَ.
فَيُعْطِي اللَّهَ مَا يَشَاءُ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فَإِذَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الْجَنَّةِ رَأَى بَهْجَتَهَا، سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ قَدِّمْنِي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ.
فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنْتَ سَأَلْتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لاَ أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ.
فَيَقُولُ: فَمَا عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَهُ، فَيَقُولُ: لاَ، وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ.
فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا فَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ فَيَقُولُ اللَّهُ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ! أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي أُعْطِيتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ.
فَيَضْحَكُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ، ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: تَمَنَّ فَيَتَمَنَّى.
حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ أُمْنِيَّتُهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مِن كَذَا وَكَذَا -أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ- حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ".
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ لأَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنهما-: - إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: قَالَ اللَّهُ: لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمْ أَحْفَظْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلاَّ قَوْلَهُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ".
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ» ".
[الحديث 806 - طرفاه في: 6573، 7437] .

( باب فضل السجود) .
وبه قال: ( حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع ( قال: أخبرنا شعيب) أي ابن أبي حمزة ( عن) ابن شهاب ( الزهري قال: أخبرني) بالإفراد ( سعيد بن المسيب، وعطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة) رضي الله عنه ( أخبرهما أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى) أي نبصر ( ربنا يوم القيامة؟ قال) عليه الصلاة والسلام:
( هل تمارون) بضم التاء والراء، من المماراة، وهي: المجادلة وللأصيلي: تمارون، بفتح التاء والراء، وأصله.
تتمارون حذفت إحدى التاءين.
أي هل تشكون ( في) رؤية ( القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب) ؟ ( قالوا: لا يا رسول الله.
قال)
: ( فهل تمارون) بضم التاء والراء أو بفتحهما ( في الشمس) ولأبي ذر والأصيلي: في رؤية الشمس ( ليس دونها سحاب) ( قالوا: لا.
قال)
: وللأصيلي: قالوا: لا يا رسول الله.
قال.
( فإنكم ترونه) تعالى ( كذلك) بلا مرية ظاهرًا جليًّا ينكشف تعالى لعباده بحيث تكون نسبة ذلك الانكشاف إلى ذاته المخصوصة، كنسبة الإبصار إلى هذه المبصرات المادّية،

لكنه يكون مجرّدًا عن ارتسام صورة المرئي، وعن اتصال الشعاع بالمرئي، وعن المحاذاة، والجهة، والمكان لأنها وإن كانت أمورًا رزمة للرؤية عادة، فالعقل يجوّز ذلك بدونها، ( ويحشر الناس يوم القيامة فيقول) : الله تعالى، أو: فيقول القائل ( من كان يعبد شيئًا فليتبع) بتشديد المثناة الفوقية وكسر الموحدة، ولأبوي ذر والوقت: فليتبعه، بضمير المفعول مع التشديد والكسر، أو التخفيف مع الفتح، وهو الذي في اليونينية لا غير ( فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم من يتبع الطواغيت) جمع طاغوت، الشيطان أو الصنم، أو كل رأس في الضلال أو كل ما عبد من دون الله، وصدّ عن عبادة الله، أو الساحر، أو الكاهن، أو مردة أهل الكتاب، فعلوت من الطغيان، قلب عينه ولامه ( وتبقى هذه الأمة) المحمدية ( فيها منافقوها) يستترون بها كما كانوا في الدنيا، واتبعوهم لما انكشفت لهما الحقيقة لعلهم ينتفعون بذلك، حتى { ضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} ( فيأتيهم الله عز وجل) أي يظهر لهم في غير صورته، أي: في غير صفته التي يعرفونها من الصفات التي تبعدهم بها عن الدنيا امتحانًا منه، ليقع التمييز بينهم وبين غيرهم ممن يعبد غيره تعالى، ( فيقول: أنا ربكم) فيستعيذون بالله منه لم يظهر لهم بالصفات التي يعرفونها بل بما استأثر بعلمه تعالى، لأن معهم منافقين لا يستحقون الرؤية، وهم من ربهم محجوبون، ( فيقولون: هذا مكاننا) بالرفع خبر المبتدأ الذي هو اسم الإشارة ( حتى يأتينا) يظهر لنا ( ربنا، فإذا جاء) ظهر ( ربنا عرفناه، فيأتيهم الله) عز وجل، أي: يظهر متجليًّا بصفاته المعروفة عندهم، وقد تميز المؤمن من المنافق ( فيقول: أنا ربكم) فإذا رأوا ذلك عرفوه به تعالى ( فيقولون: أنت ربنا) .
ويحتمل أن يكون الأوّل قول المنافقين، والثاني قول المؤمنين.

وقيل: الآتي في الأوّل ملك، ورجحه عياض أي: يأتيهم ملك الله، حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وعورض بأن الملك معصوم، فكيف يقول: أنا ربكم.

وأجيب: بأنّا لا نسلم عصمته من هذه الصغيرة، وردّ بأنه يلزم منه أن يكون قول فرعون: أنا ربكم من الصغائر، فالصواب ما سبق.

( فيدعوهم) ربهم، ( فيضرب) بالفاء وضم الياء وفتح الراء مبنيًّا للمفعول، ولأبوي ذر والوقت وذر والأصيلي وابن عساكر: ويضرب ( الصراط بين ظهراني جهنم) بفتح الظاء وسكون الهاء وفتح النون، أي ظهري، فزيدت الألف والنون للمبالغة، أي على وسط جهنم ( فأكون أوّل من يجوز) بالواو، وفي بعض النسخ: يجيز، بالياء مع ضم أوّله، وهي لغة في: جاز.
يقال: جاز بمعنى، أي: يقطع مسافة الصراط.
( من الرسل) عليهم الصلاة والسلام ( بأمته، ولا يتكلم) لشدّة الهول ( يومئذ) أي حال الإجازة على الصراط ( أحد إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ) على الصراط: ( اللهم سلّم سلّم) شفقة منهم على الخلق ورحمة ( وفي جهنم كلاليب) جمع كلوب، بفتح الكاف وضم اللام ( مثل شوك السعدان) بفتح أوّله، نبت له شوك من جيد مراعي الإبل، يضرب به المثل فيقال: مرعى ولا كالسعدان.
( هل رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: نعم) رأيناه ( قال: فإنها) أي الكلاليب ( مثل شوك

السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله)
تعالى، ( تخطف) بفتح الطاء في الأفصح، وقد تكسر، وللكشميهني: فتختطف بالفاء في أوّله وفوقية بعد الخاء وكسر الطاء، أي تأخذ ( الناس) بسرعة ( بأعمالهم) أي بسبب أعمالهم السيئة، أو على حسب أعمالهم، أو بقدرها ( فمنهم من يوبق) بموحدة، مبنيًّا للمفعول، أي: يهلك ( بعمله) وقال الطبري: يوثق بالمثلثة، من الوثاق، ( ومنهم من يخردل) بخاء معجمة ودال مهمة، وعن عبيد بالذال المعجمة، أي يقطع صغارًا كالخردل، والمعنى: أنه تقطعه كلاليب الصراط حتى يهوي إلى النار، وللأصيلي: بالجيم، من الجردلة، بمعنى: الإشراف على الهلاك ( ثم ينجو، حتى إذا أراد الله) عز وجل ( رحمة من أراد من أهل النار) أي الداخلين فيها وهم المؤمنون الخلص، إذ الكافر لا ينجو منها أبدًا، ( أمر الله الملائكة أن يخرجوا) منها ( من كان يعبد الله) وحده، ( فيخرجونهم) منها، ( ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله) عز وجل ( على النار أن تأكل أثر السجود) أي موضع أثره، وهي الأعضاء السبعة، أو الجهة خاصة لحديث، إن قومًا يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارات وجوههم، رواه مسلم: وهذا موضع الترجمة.

واستشهد له ابن بطال بحديث: أقرب ما يكون العبد إذا سجد، وهو واضح.
وقال الله تعالى { واسجد واقترب} [العلق: 19] .

وقال بعضهم: إن الله تعالى يباهي بالساجدين من عبيده ملائكته المقرّبين.
يقول لهم: يا ملائكتي أنا قربتكم ابتداءً، وجعلتكم من خواص ملائكتي، وهذا عبدي جعلت بينه وبين القربة حجبًا كثيرة، وموانع عظيمة مِن أغراض نفسية، وشهوات حسيّة، وتدبير أهل ومال وأهوال، فقطع كل ذلك وجاهد حتى سجد واقترب، فكان من المقربين.
قال: ولعن الله إبليس لإبائه عن السجود لعنة أبلسه بها وآيسه من رحمته إلى يوم القيامة.
اهـ.

وعورض بأن السجود الذي أمر به إبليس لا تعلم هيئته ولا تقتضي اللعنة اختصاص السجود بالهيئة العرفية، وأيضًا فإبليس إنما استوجب اللعنة بكفره حيث جحد ما نص الله عليه من فضل آدم، فجنح إلى قياس فاسد يعارض به النص، ويكذبه، ولعنه الله.

قاله ابن المنير:
( فيخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله النار) أي: فكل أعضاء ابن آدم تأكلها النار ( إلا أثر السجود) أي: مواضع أثره ( فيخرجون من النار قد امتحشوا) بالمثناة الفوقية والمهملة المفتوحتين والشين المعجمة، بالبناء للفاعل، وفي بعض النسخ: امتحشوا، بضم المثناة وكسر الحاء، بالبناء للمفعول.
أي: احترقوا واسودّوا.
( فيصب عليهم) بضم المثناة مبنيًّا للمفعول، والنائب عن الفاعل قوله: ( ماء الحياة) الذي من شرب منه أو صب عليه لم يمت أبدًا، ( فينبتون كما تنبت الحبة) بكسر الحاء المهملة.
بزور الصحراء مما ليس بقوت ( في حميل السيل) بفتح الحاء المهملة وكسر الميم، ما جاء به من طين ونحوه.
شبه به لأنه أسرع في الإنبات ( ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد) ، الإسناد فيه

مجازي، لأن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن، فالمراد إتمام الحكم بين العباد بالثواب والعقاب، ( ويبقى رجل بين الجنة والنار، وهو آخر أهل النار دخولاً الجنة) حال كونه ( مقبلاً بوجهه قبل النار) بكسر القاف وفتح الموحدة: أي: جهتها.
ولغير أبوي ذر والوقت وابن عساكر: مقبل بالرفع، خبر مبتدأ محذوف، أي: هو مقبل ( فيقول: يا رب اصرف وجهي عن النار) وللحموي والمستملي: من النار ( قد) ولأبي ذر: فقد ( قشبني) بقاف فشين معجمة مخففة فموحدة مفتوحات، والذي في اللغة بتشديدة الشين، أي سمني وأهلكني ( ريحها) ، وكل مسموم قشيب، أي: صار ريحها كالسم في أنفي ( وأحرقني ذكاؤها) بفتح الذال المعجمة والمد، وهو الذي في فرع اليونينية.

قال النووي، وهو الذي وقع في جميع الروايات، أي: أحرقني لهبها واشتعالها وشدة وهجها، ولأبي ذر، مما في هامش الفرع، وصحح عليه: ذكاها بالفتح والقصر.
قال النووي: وهو الأشهر في اللغة، وذكر جماعة أنهما لغتان.
اهـ.

وعورض بأن ذكا النار مقصور يكتب بالألف، لأنه من الواو من قولهم: ذكت النار تذكو ذكوًا، فأما ذكاء بالمدّ فلم يأت عنهم في النار، وإنما جاء في الفهم.

( فيقول) الله تعالى: ( هل عسيت) بفتح السين وكسرها، وهي لغة مع تاء الفاعل مطلقًا، ومع نا، ومع نون الإناث، نحو: عسينا وعسين، وهي لغة الحجاز، لكن قول الفراء: لست أستحبها لأنها شاذة يأبى كونها حجازية.

وأجيب بأن المراد بكونها شاذة أي: قليلة بالنسبة إلى الفتح، وإن ثبتت فعند أقلهم جمعًا بين القولين.

( إن فعل ذلك) الصرف الذي يدل عليه قوله الآتي، إن شاء الله تعالى: الصرف وجهي عن النار.
والهمزة من أن مكسورة حرف شرط، وفعل بضم الفاء وكسر العين، مبنيًّا للمفعول، ( بك أن تسأل) بفتح همزة أن الخفيفة، وتاليها نصب بها ( غير ذلك) بالنصب بتسأل.
( فيقول) الرجل: ( لا، و) حق ( عزتك) لا أسأل غيره، ( فيعطي الله) أي الرجل ( ما يشاء) بياء المضارعة، ولأبي ذر والأصيلي وابن عساكر: ما شاء، ( من عهد) يمين ( وميثاق، فيصرف الله) تعالى ( وجهه عن النار، فإذا أقبل به على الجنة رأى بهجتها) أي: حسنها ونضارتها، وهذه الجملة بدل من جملة: أقبل على الجنة ( سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم قال: يا رب قدّمني عند باب الجنة.
فيقول الله)
عز وجل.
( له: أليس قد أعطيت العهود والميثاق) اسم ليس ضمير الشأن، ولأبي ذر والأصيلي: والمواثيق ( أن لا تسأل غير الذي كنت سألت؟ فيقول: يا رب) أعطيت العهود، لكن كرمك يطمعني ( لا أكون أشقى خلقك) .
قال الكرماني: أي لا أكون كافرًا، وللكشميهني: لا أكونن.


وقال السفاقسي: المعنى: إن أنت أبقيتني على هذه الحالة ولا تدخلني الجنة، لأكونن أشقى خلقك الذين دخلوها.
والألف زائدة في: لا أكون.

( فيقول) الله: ( فما عسيت) بكسر السين وفتحها.
( إن أعطيت ذلك) : التقديم إلى باب الجنة ( أن لا تسأل غيره) .
بكسر همزة إن الأولى: شرطية، وفتح الثانية: مصدرية وضم همزة أعطيت، ولا زائدة كهي في { لئلا يعلم أهل الكتاب} [الحديد: 129] أو أصلية.

وما في قوله: فما عسيت نافية، ونفي النفي إثبات، أي: عسيت أن تسأل غيره.
وأن لا تسأل خبر عسى وذلك: مفعول ثان لأعطيت، ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر: أن تسأل، بإسقاط لا.
فما استفهامية، وإنما قال الله تعالى ذلك، وهو عالم كان وما يكون، إظهارًا لا عهد من بني آدم من نقض العهد، وأنهم أحق بأن لهم ذلك، فمعنى عسى راجع للمخاطب لا إلى الله تعالى.

( فيقول) الرجل ( لا و) حق ( عزتك لا أسأل) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر: لا أسالك، ( غير ذلك فيعطي) الرجل ( ربه ما شاء من عهد وميثاق، فيقدمه) الله ( إلى باب الجنة، فإذا بلغ بابها فرأى زهرتها) بفاء العطف على بلغ، كقوله ( وما فيها من النضرة) بالضاد المعجمة الساكنة، أي البهجة ( والسرور) تحير، ( فيسكت ما شاء الله أن يسكت) ، بالفاء التفسيرية، وأن مصدرية أي: ما شاء الله سكوته حياءً من ربه، وهو تعالى يحب سؤاله لأنه يحب صوته، فيباسطه بقوله: لعلك إن أعطيت هذا تسأل غيره؟ وهذه حالة المقصر، فكيف حالة المطيع.

وليس نقض هذا العبد عهده جهلاً منه، ولا قلة مبالاة، بل علمًا منه أن نقض هذا العهد أولى من الوفاء، لأن سؤاله ربه أولى من إبرار قسمه.

قال عليه الصلاة والسلام: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير.
وجواب إذا محذوف وتقديره نحو: تحير كما مر.

( فيقول: يا رب أدخلني الجنة.
فيقول الله)
عز وجل: ( ويحك) نصب بفعل محذوف، وهي كلمة رحمة، كما أن ويلك كلمة عذاب ( يا ابن آدم ما أغدرك!) صيغة تعجب من الغدر، وهو ترك الوفاء ( أليس قد أعطيت العهد والميثاق) بفتح الهمزة والطاء مبنيًّا للفاعل وللكشميهني العهود والمواثيق ( أن لا تسأل غير الذي أعطيت) ؟ بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول ( فيقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك.
فيضحك الله عز وجل منه)
أي من فعل هذا الرجل، وليس في رواية الأصيلي لفظ: منه.
والمراد من الضحك هنا لازمه، وهو كتاب الرضا وإرادة الخير كسائر الإسنادات في مثله مما يستحيل على الباري تعالى، فإن المراد لوازمها ( ثم يأذن له) الله تعالى ( في دخول الجنة.
فليقول له: تمنّ، فيتمنى.
حتى إذا انقطع)
وللأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني: انقطعت ( أمنيته قال الله عز وجل)

له: ( زاد من كذا وكذا) أي: من أمانيك التي كانت لك قبل أن أذكرك بها، ولابن عساكر: تمنّ، بدل: زد ( أقبل يذكره ربه عز وجل) الأماني بدل من قوله: قال الله عز وجل زد ( حتى إذا انتهت به الأماني) بتشديد الياء، جمع أمنية ( قال الله تعالى) له: ( لك ذلك) الذي سألته من الأماني ( ومثله معه) جملة حالية من المبتدأ والخبر.

( قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة رضي الله عنهما: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) : ( قال الله) عز
وجل ( لك ذلك وعشرة أمثاله) أي: أمثال ما سألت.
( قال أبو هريرة: لم أحفظ من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلاّ قوله) : ( لك ذلك ومثله معه) وللحموي والمستملي: لم أحفظه بضمير المفعول.
( قال أبو سعيد الخدري: إني سمعته يقول) : ( ذلك لك) وللكشميهني لك ذلك ( وعشرة أمثاله) .

ولا تنافي بين الروايتين، فإن الظاهر أن هذا كان أوّلاً، ثم تكرم الله فأخبر به عليه الصلاة والسلام ولم يسمعه أبو هريرة.

ورواة هذا الحديث الستة ما بين حمصي ومدني، وفيه ثلاثة من التابعين، والتحديث والإخبار والعنعنة والقول، وأخرجه المؤلّف أيضًا في صفة الجنة ومسلم في الإيمان.