فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو

باب الصَّلاَةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ
وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ صَلَّوْا إِيمَاءً كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الإِيمَاءِ أَخَّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْقِتَالُ أَوْ يَأْمَنُوا فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ لاَ يُجْزِئُهُمُ التَّكْبِيرُ وَيُؤَخِّرُوهَا حَتَّى يَأْمَنُوا وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ.
.

     وَقَالَ  أَنَسٌ: حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ -وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ- فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى

الصَّلاَةِ، فَلَمْ نُصَلِّ إِلاَّ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى، فَفُتِحَ لَنَا.
.

     وَقَالَ  أَنَسٌ: وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ( باب الصلاة عند مناهضة الحصون) أي إمكان فتحها وغلبة الظن على القدرة عليها ( و) الصلاة عند ( لقاء العدوّ) .

( وقال) عبد الرحمن ( الأوزاعي) ، فيما ذكره الوليد بن مسلم في كتاب السير: ( إذ كان تهيأ الفتح) بمثناة فوقية فهاء فمثناة تحتية مشدّدة فهمزة مفتوحات، أي: اتفق وتمكن.
وللقابسي، فيما حكاه في الفتح وغيره: إن كان بها الفتح، بموحدة.
وهاء: بضمير، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وهو تصحيف، ( و) الحال أنهم ( لم يقدروا على) إتمام ( الصلاة) أركانًا وأفعالاً ( صلوا إيماءً) أي مومئين ( كل امرئ) شخص يصلّي ( لنفسه) بالإيماء منفردًا، ( فإن لم يقدروا على الإيماء) بسبب اشتغال الجوارح، لأن الحرب إذا بلغ الغاية في الشدة تعذر الإيماء على القاتل لاشتغال قلبه وجوارحه عند القتال ( أخروا الصلاة خى ينكشف القتال، أو يأمنوا، فيصلوا ركعتين) .

استشكل كونه جعل الإيماء مشروطًا بتعذر القدرة، والتأخير مشروطًا بتعذر الإيماء، وجعل غاية التأخير انكشاف القتال ثم قال: أو يأمنوا فيصلوا ركعتين ... فجعل الأمن قسيم الانكشاف، وبالانكشاف يحصل الأمن، فكيف يكون قسيمه؟.

وأجيب: بأن الانكشاف قد يحصل، ولا يحصل الأمن لخوف المعاودة، كما أن الأمن قد يحصل بزيادة القوّة واتصال المدد بغير انكشاف، فعلى هذا فالأمن قسيم الانكشاف أيهما حصل اقتضى صلاة ركعتين.

( فإن لم يقدروا) على صلاة ركعتين، بالفعل أو بالإيماء ( صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا) أي على صلاة وسجدتين ( لا يجزيهم) ، ولغير الأربعة: وسجدتين لا يجزيهم، ولأبي ذر: فلا يجزيهم ( التكبير) خلافًا لمن قال: إذا التقى الزحفان وحضرت الصلاة يجزيهم التكبير عن الصلاة بلا إعادة.

( ويؤخرونها) أي: الصلاة، ولغير أبي ذر: يؤخروها ( حتى يأمنوا) أي: حتى يحصل لهم الأمن التام.

واحتج الأوزاعي، كما قال ابن بطال على ذلك، بكونه عليه الصلاة والسلام أخّرها في الخندق حتى صلاها كاملة، لما كان فيه من شغل الحرب.
فكذا الحال التي هي أشد.

وأجيب: بأن صلاة الخوف، إنما شرعت بعد الخندق.

( وبه) أي: وبقول الأوزاعي ( قال مكحول) الدمشقي التابعي، مما وصله عبد بن حميد في تفسيره عنه من طريق الأوزاعي بلفظ: إذا لم يقدر القوم على أن يصلوا على الأرض صلوا على ظهر الدواب ركعتين، فإن لم يقدروا فركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا أخّروا الصلاة حتى يأمنوا فيصلوا بالأرض.
( وقال أنس) ولأبي ذر، وقال أنس بن مالك، مما وصله ابن سعد وعمر بن شبة من طريق

قتادة: ( حضرت عند مناهضة) ولابن عساكر: حضرت مناهضة ( حصن تستر) بمثناتين فوقيتين، أولاهما مضمومة والثانية مفتوحة، بينهما سين مهملة ساكنة آخره راء، مدينة مشهورة من كور الأهواز، فتحت سنة عشرين في خلافة عمر ( عند إضاءة الفجر -واشتد اشتعال القتال-) بالعين المهملة، وتشبيه القتال بالنار: استعارة بالكناية، ( فلم يقدروا على الصلاة) لعجزهم عن النزول، أو عن الإيماء، فيوافق السابق عن الأوزاعي، أو أنهم لم يجدوا إلى الوضوء سبيلاً من شدّة القتال، وبه جزم الأصيلي، ( فلم نصلّ إلا بعد ارتفاع النهار) في رواية عمر بن شبة: حتى انتصف النهار ( فصليناها، ونحن مع أبي موسى) الأشعري ( ففتح لنا) الحصن.

( وقال) وللأصيلي: فقال، ولأبوي ذر والوقت، وابن عساكر: قال ( أنس) هو ابن مالك: ( وما يسرّني بتلك الصلاة) أي بدل تلك الصلاة ومقابلها، فالباء للبدلية، كقوله:
فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا.

وللكشميهني: من تلك الصلاة ( الدنيا وما فيها) .


[ قــ :917 ... غــ : 945 ]
- حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُبَارَكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "جَاءَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغِيبَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَأَنَا وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ.
قَالَ فَنَزَلَ إِلَى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَابَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ بَعْدَهَا".

وبالسند قال: ( حدّثنا يحيى) ولأبي ذر: عن المستملي، كما في فرع اليونينية: يحيى بن جعفر البخاري البيكندي، وهو من أفراد البخاري ( قال: حدّثنا وكيع) بفتح الواو وكسر الكاف ( عن عليّ بن المبارك) ولابن عساكر: ابن المبارك ( عن يحيى بن أبي كثير) بالمثلثة ( عن أبي سلمة) بفتح اللام، ابن عبد الرحمن ( عن جابر بن عبد الله) الأنصاري، رضي الله عنه ( قال: جاء عمر) بن الخطاب، رضي الله عنه ( يوم) حفر ( الخندق) لا تحزبت الأحزاب سنة أربع ( فجعل يسب كفّار قريش) لتسببهم في اشتغال المؤمنين بالحفر عن الصلاة حتى فاتت ( ويقول: يا رسول الله.
ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغيب)
.

فيه دخول: أن، على خبر كاد، والأكثر تجريده منها، كما في رواية أبي ذر: حتى كادت الشمس تغيب.

وظاهره: أنه صلّى قبل الغروب، لكن قد يمنع ذلك بأنه إنما يقتضي أن كيدودته كانت عند كيدودتها، ولا يلزم منه وقوع الصلاة فيها، بل يلزم أن لا تقع الصلاة فيها إذ حاصله عرفًا: ما صليت حتى غربت الشمس.

( فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) تطييبًا لقلب عمر لما شق عليه تأخيرها:

( وأنا والله ما صليتها) أي العصر ( بعد) .
( قال) جابر: ( فنزل) عليه الصلاة والسلام ( إلى بطحان) بضم الموحدة وسكون المهملة غير منصرف، كذا يرويه المحدّثون، وعند اللغويين بفتح الموحدة وكسر الطاء، ( فتوضأ وصلّى العصر بعدما غابت الشمس) .

وهذا التأخير كان قبل صلاة الخوف، ثم نسخ أو كان نسيانًا أو عمدًا لتعذر الطهارة، أو للشغل بالقتال، وإليه ذهب البخاري هنا.
ونزل عليه الآثار التي ترجم لها بالشروط المذكورة، وهو موضع الجزء الثاني من الترجمة، وهو لقاء العدوّ ومن جملة أحكامه المذكورة: تأخير الصلاة إلى وقت الأمن، وكذا في الحديث: أخر عليه الصلاة والسلام الصلاة حتى نزل بطحان، ( ثم صلّى) عليه الصلاة والسلام ( المغرب بعدها) أي بعد العصر.

وسبق الحديث بمباحثه في باب: من صلّى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت.