فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب قول الله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 82] قال ابن عباس: «شكركم»

باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ( { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} ) [الواقعة: 82] .

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شُكْرَكُمْ.

( باب قول الله تعالى { وتجعلون رزقكم} ) الرزق بمعنى الشكر في لغة، أو أراد: شكر رزقكم الذي هو المطر، ففيه إضمار ( { أنكم تكذبون} ) بمعطيه، وتقولون: مطرنا بنوء كذا، أو تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن تكذيبكم به.

( قال ابن عباس) رضي الله عنهما: ( شكركم) روى منصور بن سعيد بإسناد صحيح، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ: وتجعلون شكركم، أنكم تكذبون.
ولا يقرأ به لمخالفته السواد.

نعم، روي نحو أثر ابن عباس مرفوعًا من حديث علي عند عبد بن حميد، لكنه يدل على التفسير لا على القراءة، ولفظه { وتجعلون رزقكم} قال: تجعلون شكركم، تقولون: مطرنا بنوء كذا.


[ قــ :1004 ... غــ : 1038 ]
- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: "صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ

عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ،.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ».

وبالسند قال: ( حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس ( قال: حدّثني) بالإفراد ( مالك) هو: ابن أنس، إمام دار الهجرة ( عن صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن عبد الله) بضم العين في الأول ( ابن عتبة بن مسعود، عن زيد بن خالد الجهني، أنه قال) :
( صلّى لنا) أي: لأجلنا وهو من باب المجاز وإلا فالصلاة لله لا لغيره، أو: اللام بمعنى الباء، أي: صلّى بنا ( رسول الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، صلاة الصبح بالحديبية) مخففة الياء كما في الفرع وأصله، وعليه المحققون، مشددة عند الأكثر من المحدثين.
سميت بشجرة حدباء كانت بيعة الرضوان تحتها، حال كون صلاته ( على إثر سماء) بكسر الهمزة وسكون المثلثة، على المشهور، أي: عقب مطر، وأطلق عليه سماء لكونه ينزل من جهتها، وكل جهة علو تسمى سماء ( كانت) أي: السماء ( من الليلة) بالإفراد، وللأصيلي، والكشميهني: من الليل ( فلما انصرف النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من صلاته أو مكانه ( أقبل على الناس) بوجهه الكريم ( فقال) لهم:
( هل تدرون ماذا قال ربكم) ؟ لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه التنبيه.
وللنسائي: من رواية سفيان، عن صالح: ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة؟.

( قالوا الله ورسوله أعلم) قال:
( قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) كفر إشراك لمقابلته للإيمان، أو: كفر نعمة بدلالة ما في مسلم: قال الله: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين والإضافة في عبادي للملك لا للتشريف ( فأما من قال: مطرنا بفضل الله، ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب) وللحموي، وابن عساكر، وأبي الوقت: مؤمن بي وكافر بالكوكب، ( وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا) بفتح النون، وسكون الواو والهمزة، بكوكب كذا، معتقدًا ما كان عليه بعض أهل الشرك، من إضافة المطر إلى النوء، وأن المطر كان من أجل أن الكوكب ناء أي: سقط وغاب، أو نهض وطلع، وأنه الذي هاجه ( فذلك كافر بي) لأن النوء وقت، والوقت مخلوق ولا يملك لنفسه ولا لغيره مشيئًا ( مؤمن بالكوكب) .

ومن قال: مطرنا في وقت كذا فلا يكون كفرًا، قال الإمام الشافعي وغيره: من الكلام أحب إليّ، يعني: حسمًا للمادة، فمن زعم أن المطر يحصل عند سقوط الثريا مثلاً، فإنما هو إعلام للوقت والفصول، فلا محذور فيه، وليس من وقت، ولا زمن إلا وهو معروف بنوع من مرافق العباد يكون فيه دون غيره.


وحكي عن أبي هريرة: أنه كان يقول: مطرنا بنوء الله تعالى.
وفي رواية: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2] .

وقال ابن العربي: أدخل الإمام مالك هذا الحديث في أبواب الاستسقاء، لوجهين: أحدهما: أن العرب كانت تنتظر السقيا في الأنواء، فقطع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، هذه العلاقة بين القلوب والكواكب.

الوجه الثاني: أن الناس أصابهم القحط في زمن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال للعباس، رضي الله عنه: كم بقي من أنواء الثريا؟ فقال له العباس: زعموا، يا أمير المؤمنين، أنها تعترض في الأفق سبعًا، فما مرّت حتى نزل المطر.
فانظروا إلى عمر، والعباس، وقد ذكر الثريا ونوأها، وتوكفا ذلك في وقتها.

ثم قال: إن من انتظر المطر من الأنواء على أنها فاعلة له من دون الله فهو كافر، ومن اعتقد أنها فاعلة بما جعل الله فيها فهو كافر، لأنه لا يصح الخلق، والأمر إلا لله، كما قال الله تعالى: { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] .

ومن انتظرها وتوكف المطر منها على أنها عادة أجراها الله تعالى، فلا شيء عليه، لأن الله تعالى قد أجرى العوائد في السحاب والرياح والأمطار، لمعان ترتبت في الخلقة، وجاءت على نسق في العادة.
اهـ.

وقوله: كذا وكذا ... هنا، كلمة مركبة من: كاف التشبيه وذا للإشارة، مكنيًا بها عن العدد، وتكون كذلك مكنيًا بها عن غير عدد، كما في الحديث: "إنه يقال للعبد يوم القيامة أتذكر يوم كذا وكذا، فعلت كذا وكذا ... ".

وتكون أيضًا كلمتين باقيتين على أصلهما من: كاف التشبيه وذا للإشارة، كقوله: رأيت زيدًا فاضلاً، ورأيت عمرًا كذا.

وتدخل عليها: هاء التنبيه كقوله تعالى: { أَهَكَذَا عَرْشُكِ} [النمل: 42] فهذه الثلاثة الأوجه المعروفة في ذلك.

ووجه المطابقة بين الترجمة والحديث من جهة أنهم كانوا ينسبون الأفعال إلى غير الله تعالى، فيظنون أن النجم يمطرهم ويرزقهم، فنهاهم الله تعالى عن نسبة الغيوث التي جعلها الله تعالى حياة لعباده وبلاده إلى الأنواء، وأمرهم أن يضيفوا ذلك إليه لأنه من نعمته عليهم، وأن يفردوه بالشكر على ذلك.

ولما كان هذا الباب متضمنًا أن المطر إنما ينزل بقضاء الله وأنه لا تأثير للكوكب في نزوله، وقضية ذلك أنه لا يعلم أحد متى يجيء المطر إلا هو، عقب المصنف رحمه الله هذا الباب بقوله.